في عقب عدوان يونيو 1967 حددت مصر هدفها الإستراتيجي بـ «إزالة آثار العدوان» أي تحرير أرض سيناء التي احتلت نتيجة لهذا العدوان. وكان شعار « لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» هو الشعار المعبر عن مضمون هذا الهدف ولكن للأسف، فهم البعض منا هذا الشعار فهماً خاطئاً وصوره علي أنه تكميم للأفواه، كان المعني الحقيقي معاكساً قولاً وعملاً بدليل انتفاضة طلاب الجامعات عام 1968 ضد الأحكام التي اعتبرت مخففة التي صدرت ضد من اتهموا بالتقصير في الحرب من ضباط سلاح الطيران، وبدليل صدور بيان 30 مارس الذي تحدث باستفاضة عن الديمقراطية والحريات والإصلاح السياسي، وكانت القرارات العسكرية بتغيير جذري في قيادات الجيش، وكان تكثيف التعاون مع الاتحاد السوفيتي والحصول علي الأسلحة المتطورة المطلوبة للمعركة وخاصة الصواريخ المضادة للطائرات، ثم كان تفجر حرب الاستنزاف المجيدة التي أربكت حسابات العدو وجعلت احتلال سيناء مجرد وهم ودربت القوات علي الحرب، ومن بين القرارات الإصلاحية أيضاً كان قرار تأسيس مركز الأهرام للدراسات الفلسطينية والصهيونية ، عام 1968 والذي تحول في عام 1975 إلي مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، كان تأسيس هذا المركز بتوجيه مباشر من الزعيم جمال عبد الناصر للأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان الهدف من تأسيسه أن يكون نافذة مصر العلمية علي العدو، وتوفير معرفة علمية دقيقة بهذا الكيان الصهيوني؛ مصادر قوته، بواطن ضعفه، تطورات عقله الإستراتيجي وغيرها من القضايا المحورية ذات العلاقة بمعركة التحرير المنتظرة.
نحن الآن في أمس الحاجة إلي تحديد هدفنا الإستراتيجي بعد معركة «الشيخ زويد» التي وقعت يوم الأربعاء الأول من يوليو الحالى، بأن يكون هدفنا هو «إزالة الإرهاب من أرض مصر» وإسقاط هذا الإرهاب ودحره، وأن يكون شعارنا أيضاً «ألا يعلو صوت فوق صوت المعركة» ضد هذا الإرهاب، وهذا معناه توفير كل إمكانات النجاح لخوض هذه الحرب والانتصار فيها، وأول ما يجب توفيره هو الإمكانات اللازمة للحرب بعد التحديد الدقيق لمعناها.
فالعدو الإرهابي لا يخوض معركة كسب أرض تقليدية كما هي المعارك الحربية، ولكنه يخوض معركة «كسب شعب» أي أن المعركة ضد الإرهاب هي في جوهرها «معركة كسب الولاء الشعبي»، هم يريدون أن يؤمن الشعب بأن ما حدث في 3 يوليو 2013 مجرد «انقلاب عسكري»، ويريدون غسل أدمغة المواطنين بدفعهم لاعتناق فكرهم «الخوارجي» نسبة إلي الفرقة الضالة من الفرق الإسلامية المعروفة باسم «الخوارج» الذين قتلوا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وفشلوا في قتل كل من معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.
فكر هؤلاء الخوارج ينطلق من «التكفير» أي تكفير كل من لا يؤمن بأفكارهم، ومشروعهم هو إقامة دولة جديدة للخلافة الإسلامية أعلنوا نواتها في 29 يونيو 2014 عندما نجحوا في الوصول إلي الموصل بالعراق بعد أن احتلوا أجزاء واسعة من شمال شرق سوريا مستغلين المعارك الدائرة بين النظام السوري والمعارضة، وبعد أن احتلوا أراضي واسعة من شمال غرب العراق، وبذلك تأسست الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» وعاصمتها المؤقتة الموصل، انتظارا لوصولهم إلي بغداد لتكون عاصمة الخلافة الجديدة التي يتزعمها خليفتهم إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي الذي أخذ مسمي «أمير المؤمنين أبو بكر البغدادي».
دولة الخلافة الجديدة مخطط لها أن تشمل كل وطننا العربي وأن تتمدد في بعض الدول الإسلامية المجاورة، وأهم مرتكزات هذه الخلافة هي الدول المركزية العربية: العراق وسوريا ومصر وما يسمونه «بلاد الحرمين» أي المملكة العربية السعودية، وكان الهدف الأساسي من معركة «الشيخ زويد» الأخيرة هو السيطرة علي المنطقة الممتدة من الشيخ زويد ورفح المصرية وإعلانها «ولاية سيناء» (الصغري) انتظاراً للسيطرة علي كل سيناء والتمدد منها إلي العمق المصري.
بهذا المعني نستطيع أن نقول إن معركة التكفيريين ومن تحالفوا معهم من تنظيمات الإسلام السياسي الإخواني والسلفي معركة مزدوجة هي أولاً: معركة كسب ولاءات شعبية أي انخراط الشعب المصري في مشروع دولة «داعش» وهي ثانياً معركة كسب أرض.
المعركة الثانية الخاصة بكسب الأرض مسئولية الجيش وقوات الأمن المصرية بالأساس إلا إذا اقتضي الأمر التجنيد الشعبي في هذه المعركة. أما المعركة الأولي فهي معركة كسب الولاء الشعبي المصري لمشروع «داعش» علي قاعدتي تكفير الدولة والمجتمع في مصر، وإقامة دولة الخلافة الإسلامية التي يعتقدون أنها معركة مضمونة النجاح لأنها تخطف أفئدة المسلمين.
كسب المعركة الشعبية هو الأساس بالنسبة لهم ويبقي أن نسأل: كيف يمكننا أن نفشل مخططهم لكسب هذه المعركة ونكسبها نحن؟
البعض يركز علي خوض معركة «تطوير الخطاب الديني» والبعض يسارع بـ «تطهير المساجد من مؤلفات المغالاة في السلفية» التي تمثل الأساس العقائدي لتيار الجهادية الإسلامية الذي انحرف إلي التكفير والإرهاب، لكن مثل هذا الفهم خاطئ ومحدود، لأن «داعش» والإخوان والسلفيين الجهاديين لا يبادرون بطرح أفكارهم السلفية أو التكفيرية في معركة كسب الولاءات الشعبية والتجنيد السياسي لمشروع «داعش» ولكنهم يخوضون معركة عزل الشعب عن النظام الجديد وتقطيع كل خيوط التواصل والولاء لهذا النظام ابتداءً من تشويه شرعيته وتأكيد مزاعم أنه نظام انقلابي ضد ثورة الشعب في 25 يناير، وأنه انقلاب ضد الحكم المدني الديمقراطي، وعودة لـ «الفاشية العسكرية» ونظام الاستبداد والفساد، وامتداداً إلي استغلال أخطاء الحكم التي أخذت تتراكم سواء في المجال الاقتصادي والمعيشي والانحراف عن دعوة العدالة الاجتماعية، أو في المجال الأمني وبالذات تجاوزات بعض أقسام الشرطة في التعامل مع المواطنين، أو في المجال السياسي، وبالذات عودة نظام مبارك ورموزه مجدداً إلي واجهة الحكم والسلطة والثروة والإعلام، وتعثر مشروع انتخاب البرلمان الذي هو جهة التشريع الوحيدة، وانفراد السلطة التنفيذية بالتشريع (الرئيس والحكومة)، لكن أهم أسلحتهم في هذه الحرب هي الترويج لمقولة أن النظام الجديد نظام انقلابي هدفه إسقاط ثورة 25 يناير لصالح عودة نظام مبارك بوجوه أخري بديلة.
علينا أن نواجه هذا المخطط وتلك المعركة ليس فقط بفضح تلك المزاعم عبر الإعلام ولكن بأن نحرمهم من اكتساب الولاء أو التعاطف الشعبي بأن يؤكد الحكم الجديد ولاءاته الحقيقية وبالتحديد أنه مع الشعب الذي قاد ثورة في 30 يونيو لاسترداد ثورة 25 يناير التي اختطفها الإخوان وليس أبداً لاستعادة نظام مبارك وإسقاط ثورة 25 يناير. هذا التأكيد يكون بالإجراءات وبالقوانين وبالممارسة التي تحقق الأهداف التي قامت من أجلها ثورة 25 يناير بإقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تحقق العدالة الكاملة والحرية الشاملة وتسقط نهائياً دولة احتكار السلطة والثروة وتعيد للشعب حقه الكامل في أن يكون من يملك السيادة علي أرضه، وأن نفعِّل أدوار الأجهزة الرقابية في المحافظة علي الأموال العامة ومحاربة كل أشكال الفساد وأن نُعلي من شأن مبدأ المواطنة المتساوية وننهي كل صور الاستعلاء الطبقي والمهني وكل ممارسات المحسوبية وغيرها من الممارسات التي تعد منافذ تغلغل «داعش» وأخواتها لكسب الولاءات الشعبية استغلالاً لأخطاء الممارسات الحكومية.