أقتبس عنوان هذا المقال من بحث للفيلسوف الألمانى الشهير «مارتن هيدجر» ألقى باسمه فى الندوة الدولية التى نظمتها «هيئة اليونسكو» فى أواخر الستينيات بمناسبة مرور مائة عام على مولد الفيلسوف «كير كيجارد» وقد نشرت هذه الندوة فى كتاب صدر بالفرنسية فى سلسلة أفكار عنوان «كير كيجارد حيا».
هذا الحكم القاطع «لهيدجر» مبناه أنه بعد ظهور العلوم الاجتماعية المختلفة كعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم النفس من أحضان الفلسفة التى كانت تعتبر «أم العلوم» لم يعد هناك مجال لتفكير فلسفى بعيدا عن هذه العلوم.
كانت هذه العبارة هى مفتتح كلمتى عن «أخلاقيات البحث العلمى» التى دعيت لإلقائها فى الندوة المهمة التى نظمتها الجمعية الفلسفية المصرية وعقدت فى مبنى المجلس الأعلى للثقافة يوم 26 يوليو 2015.
لقد تعرضت لمقولة «هيدجر» لما ورد فى بعض كلمات المشرفين على الندوة أن «الفلسفة هى أم العلوم» لأرصد التطور التاريخى لنشأة العلوم الاجتماعية المختلفة واصطناعها مناهج مختلفة عن المناهج الفلسفية المعرفية، كما أنه أصبح لها معجمها الخاص وخطابها المتميز.
وكانت فكرة «هيدجر» المهمة ردا أيضا على بحث ألقاه الفيلسوف المعروف «د. حسن حنفى» بعنوان «الفيلسوف والواقع» دعا فيه إلى أن ينزل الفيلسوف من عليائه لتحليل الواقع.
وقد تساءلت ـ فى ضوء مقولة «هيدجر» الأساسيةـ كيف سيستطيع الفيلسوف تحليل الواقع إذا كان غير مزود بمنهجية العلوم الاجتماعية الأساسية كعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد السياسى؟
ومن هنا تصدق مقولة أستاذنا الدكتور «أحمد خليفة» مؤسس المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية والتى صاغها عام 1957- تاريخ التحاقى بالمركز كباحث مساعد- من أن هناك علما اجتماعيا واحدا وتخصصات مختلفة. وقد مارس الدكتور «خليفة» فى تخطيطه الاستراتيجى لبحوث المركز المختلفة هذه الفكرة.
وتشاء الظروف أن يصدر هذا العام (2015) كتاب بالغ الأهمية للفيلسوف الفرنسى «برنار لايير» عنوانه «عالم متعدد الأبعاد: تأملات فى وحدة العلوم الاجتماعية» ترجمه الكاتب والمترجم القدير «بشير السباعى» وصدر عن المركز القومى للترجمة فى مصر بالاشتراك مع دار «آفاق». وهو يقدم نظرية متكاملة فى ضرورة وحدة العلوم الاجتماعية، وهى المقولة التى نشئنا عليها فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية فى بداية عملنا بالبحث العلمى.
وكان لابد لى أن أبرر أمام الحضور ـ وكانوا مجموعة كبيرة من مدرسى الفلسفة بالمدارس الثانوية (وهو إنجاز للندوة) لماذا أشارك فى هذه الندوة مع أننى متخصص أساسا فى القانون وعلم الاجتماع؟
وقد ذكرت باختصار تاريخ قراءاتى للفلسفة فى بداية تكوينى الفكرى وأنا بعد طالب بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية. فقد جذبتنى الكتب التى أصدرها الفيلسوف الكبير «عبدالرحمن بدوى» فى سلسلة «الروائع المائة» عن ثلاثة من كبار الفلاسفة هم «نيتشه وشوبنهور واشبنجلر».
غير أن النقلة الكيفية فى قراءاتى الفلسفية -والتى جعلتنى قارئا محترفا للفلسفة- كان بعد التحاقى بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائى وقراءاتنا لكتاب فيلسوف العلم الشهير «كارل بوبر» منطق «الاكتشافات العلمية» وبعد ذلك تأثرى بكتاب «توماس كون» «بنية الثورات العلمية».
(2)
كيف عالجت موضوع أخلاقيات البحث العلمى؟
أدركت منذ البداية أن هذا الموضوع يحتاج إلى إطار نظرى لبحثه ولأمر ما ظننت أن نظرية الاستقبال Reception المعروفة فى ميدان «النقد الأدبى» قد تصلح للتفسير وخصوصا فى مجال تأويل النصوص فى العلوم الاجتماعية على أساس أن القارئ - وفقا لمبادئ ما بعد الحداثة- يكون مشاركا فى كل إنتاج النص من خلال تأويله الخاص.
ولكن سرعان ما أدركت أن هذه النظرية لا تصلح لدراسة حالة أخلاقيات البحث العلمى فى العلوم الطبيعية. ولذلك اكتشفت بعد البحث أن هناك نظرية متماسكة فى «سوسيولوجيا العلم» عن الموضوع صاغها عالم الاجتماع الأمريكى «روبرت ميرتون» وهو رائد فى هذا المجال حين قرر «أن الاستقبال الإيجابى للاكتشاف العلمى الجديد عادة ما تكون له صلة بالمكانة العلمية للباحث». و«ميرتون» له نظرية خاصة عن مكانة العلماء لأنه يقسم «المجتمع الأكاديمى» إلى ثلاث طبقات. الطبقة الأرستقراطية التى تصوغ النظريات العلمية الكبرى، والطبقة المتوسطة من الباحثين الذين يشرحون هذه النظريات، وأخيرا الطبقة الدنيا من الباحثين الذين يلخصون هذه الشروح!
بعد هذه المقدمات دخلت فى موضوع الأخلاقيات العلمية مباشرة فتحدثت عن أخلاقيات السبق العلمى، والانتحال العلمى (السرقات العلمية)، وعدم الاعتراف بالآخر العلمى المختلف على غير أساس، وعلى العكس طقوس اعتراف المجتمع الأكاديمى بالنبوغ العلمى والإشادة بالثورات العلمية.
(3)
وقد آثرت أن أطبق فى مناقشة هذه الظواهر منهج دراسة الحالة Case Study.
فيما يتعلق «بالسبق العلمى» أذكر أننى وأنا فى مقتبل العمر قرأت النسخة الأصلية لكتاب «داروين» الشهير «أصل الأنواع» والذى صاغ فيه نظرية متكاملة عن نشأة الحياة.
وفى مقدمة الكتاب ذكر «داروين» أنه بعد أن انتهى من كتابه -وكان على وشك أن يدفع به إلى المطبعة -تلقى بالبريد نصا من أحد زملائه من العلماء هو «والاس» يتضمن نظرية مشابهة تماما لنظريته، وتكاد أن تكون صيغت بنفس العبارات.
لم يجد «داروين» حرجا من ذكر هذه الواقعة، والتى تجعل عمل «والاس» شريكا له فى السبق العلمى. ولذلك بعض مؤرخى العلوم -من باب الاعتراف بإنجاز «والاس»- يطلقون على نظرية التطور أن من صاغاها هما «داروين- ووالاس».
هذه حالة إيجابية من أخلاقيات البحث العلمى.
ولكن هناك حالة سلبية شهيرة هى قصة كتاب «مارتن برنال» «أثينا السوداء» والذى نسف فيه نسفا نظرية «المركزية الغربية» والتى كانت تدعى أن ثقافة الإغريق هى المنبع الأصيل -وليس غيرها- للثقافة الغربية. فقد أثبت بأدلة علمية قاطعة أنه على العكس أن «الثقافات الأفرو آسيوية» وفى مقدمتها «الحضارة الفرعونية» هى النموذج الأساسى الذى احتذته الثقافة الإغريقية. وقد نظمت «مؤامرة صمت» حول الكتاب استمرت ثلاث سنوات، لأن العقائد الثابتة لعلماء التاريخ القديم سقطت، ولم يرغبوا فى هدم إنجازاتهم العلمية عبر عشرات السنوات. ولكن فشلت مؤامرة الصمت واعترف بالكتاب وتمت ترجمته إلى عشرات اللغات الحية، وأكثر من ذلك أخرج «مارتن برنال» عام 2001 كتابا ضافيا للرد على نقاده عنوانه «أثينا السودان ترد مرة أخرى».