تابعت بصورة منهجية منتظمة أحداث ثورات الربيع العربى ابتداء بالثورة التونسية التى كتبت أول مقال بعد اشتعالها نشر فى الأهرام بتاريخ 27 يناير 2011 وكان عنوانه «أسئلة الثورة المستمرة».
حين كتبت المقال لم أكن أعرف أنه بعد نشره بأيام ستشتعل ثورة 25 يناير فى مصر. ولكننى ـ بحكم الخبرة النظرية التى تجمعت لدى من قراءاتى عن ثورات العالم الأساسية ـ قررت أن اليوم التالى للثورة لا يقل أهمية عن يوم وقوع الثورة ذاته! لأن هناك سؤالا لابد من إثارته وهو «وماذا بعد إسقاط النظام القديم؟ هل لدى من قاموا بالثورة رؤية سياسية ثورية وناضجة لتأسيس نظام سياسى جديد؟».
تبدو أهمية هذه التساؤلات مما تبين بوضوح أن ثورة 25 يناير كانت بلا قيادة وبلا رؤية محددة، إذا استثنينا شعاراتها الشهيرة «عيش حرية عدالة اجتماعية». وقد أدى هذا الوضع إلى أن ما أطلق عليه المرحلة الانتقالية التى أشرف عليها المجلس الأعلى للقوات المسلحة كانت مضطربة غاية الاضطراب، وتعثرت فيها الثورة عثرات بالغة العنف، بعد أن اختلطت بالفوضى، وانتهت مرحلتها الأولى المتعثرة بالاستفتاء الشهير حول الانتخابات أولا، أو الدستور أولاً، وكانت النتيجة لصالح الانتخابات أولا التى أسفرت عن فوز حزب «الحرية والعدالة» الإخوانى وحزب «النور» السلفى بالأكثرية فى مجلسى الشعب والشورى، وتبع ذلك الانتخابات الرئاسية التى فاز فيها الدكتور «محمد مرسى» مرشح الإخوان بنسبة ضئيلة على منافسة الفريق «شفيق».
وهكذا بدأ العصر الإخوانى فى مصر، والذى لم يتعد عاما واحدا، لأن الشعب انقلب عليه. يدعم جسورا من القوات المسلحة المصرية فى 30 يونيو، وما تبعها من إعلان خريطة الطريق فى 3 يوليو.
وفى 29 ديسمبر 2011 نشرت مقالا بعنوان «قراءة تحليلية لخريطة المجتمع الثورى» حاولت فيه تحديد الملامح الرئيسية لمجتمع ما بعد الثورة. وقد حددت أربعة ملامح أساسية. الملمح الأول هو «سقوط دور المثقف التقليدى وصعود دور الناشط السياسى».
والملمح الثانى «هو» ظهور الحشود الجماهيرية الهائلة» والتى حلت محل المظاهرات قليلة العدد التى كانت تنظم فى مواجهة نظام «مبارك»، والملمح الثالث هو «بروز التناقض بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية».
والملمح الرابع «هو» «إصرار الجماهير على المشاركة الفعالة فى اتخاذ القرار» ليس ذلك فقط، ولكن الرقابة الفعالة على تنفيذ القرار. ولابد لى أن أعترف أننى وأنا أكتب هذه الفقرة لم يكن فى ذهنى بطبيعة الأحوال الانقلاب الشعبى الذى سيقع ضد حكم الإخوان المسلمين فى 30 يونيو، ولا ما أطلقت عليه بعد صدور الدستور الجديد وانتخاب «السيسى» رئيسا للجمهورية «عودة الدولة التنموية».
وقد صغت هذا المفهوم فى مقالتى التى نشرتها بنفس العنوان فى 27 أغسطس 2015 بعد تأمل عميق فى السياسات والمشاريع التنموية التى بادر بها الرئيس «السيسى» وفى مقدمتها مشروع «قناة السويس وإصلاح مليون ونصف المليون فدان». وقد عرفت الدولة التنمية التى وضع بذورها الرئيس «جمال عبدالناصر» زعيم ثورة 23 يوليو 1952 بأن مهمتها الرئيسية هى التنمية الشاملة من خلال القيام بمشروعات تنموية كبرى، وهى لا تستبعد إسهام القطاع الخاص فى التنمية، ولكنه سيعمل تحت إشرافها ورقابتها.
وقررت أن الدولة بعد 30 يونيو تجددت بعد أن ركزت على أن التنمية القومية هى مهمتها الرئيسية، وأداتها فى رفع مستوى حياة ملايين المصريين فى ضوء اعتبارات العدالة الاجتماعية. ومن ثم تابعت اجتهاداتى حين قررت أن الأحزاب السياسية التقليدية ينبغى عليها أن تتجدد هى أيضا وتصبح أحزابا تنموية، تشارك فى وضع الرؤية الاستراتيجية للدولة، ورسم الخطط التنموية، ليس ذلك فحسب ولكن الاشتراك مباشرة فى المشاريع التنموية.
ثم انتقلت من بعد للضلع الثالث من أضلاع المثلث الذى يضم الدولة والأحزاب إلى مؤسسات المجتمع المدنى، واقترحت أن تتحول «كما ذكرت فى مقالى الأخير فى الأهرام فى 24 سبتمبر 2015- «من المطالبات الحقوقية إلى الشراكة التنموية».
وذلك على أساس أن تقوم بجهود ملموسة فى مجال التنمية الاقتصادية وفى مجال التنوير الثقافى.
واعترف أننى أغفلت وظيفة بالغة الأهمية يمكن أن تقوم بها مؤسسات المجتمع المدنى، وهى الرقابة على تنفيذ الدولة التنموية للمشاريع الاقتصادية المختلفة.
وقد سبق أن ذكرت فى الملمح الوالع من ملامح المجتمع ما بعد الثورة فى مصر أن الشعب مصمم على المشاركة فى اتخاذ القرار وعلى الرقابة على تنفيذه.
وقت كتابة هذا المقال القديم لم تكن لدى فكرة واضحة عن المؤسسات التى يمكن أن تقوم بالرقابة على مشروعات الدولة.
ولكننى اليوم ـ وبعد إطلاع دقيق على عدد من الوثائق الدولية- أقرر أن مؤسسات المجتمع المدنى هى التى عليها أن تقوم بدور الرقابة.
وقد اكتشفت أن هذا الدور أصبح معترفا به فى الأمم المتحدة، وفى عديد من البلاد. وتحت يدى وثيقة، مهمة بعنوان «دور منظمات المجتمع المدنى فى الحوكمة» صادرة عام 2005 وكتبها الباحث الكورى «أسيها جوس باشا» فى إطار مطبوعات منظمة «إعادة اختراع الحكومة: نحو حكومة تشاركية وشفافة».
وهو يتحدث بالتفصيل عن الدور الرئيسى لمنظمات المجتمع المدنى فى الإسهام فى التنمية المحلية ومكافحة الفقر، وأن لها دورا أساسيا فى مجال مشاركة الدولة ومحاسبتها ـ وفق معايير شفافة ـ على إنجازاتها التنموية.
غير أن بنك التنمية الإفريقى أصدر عام 2012 وثيقة متكاملة بعنوان «إطار للإسهام الفعال لمنظمات المجتمع المدنى فى التنمية» قرر فيه أنه لا تنمية حقيقية بدون إسهام فعال لمؤسسات المجتمع المدنى.
غير أن الوثيقة الأهم بين هذه الوثائق هى الوثيقة التى أصدرتها هيئة CAFOD وشعارها «عالم عادل واحد» وهى هيئة التنمية التابعة للكنيسة الكاثوليكية فى إنجلترا وويلز وعنوانها «الرقابة على سياسات الحكومة» مجموعة أدوات لرقابة مؤسسات المجتمع المدنى على الحكومة فى إفريقيا.
وتقول هذه الوثيقة البالغة الأهمية فى مقدمتها «تخيل عالما حيث يساعد فيه المواطنون فى تقرير ما الذى ينبغى أن تفعله الحكومة لمواجهة الفقر، وحيث يراقب فيه المواطنون بعيون ثاقبة كيف تمارس الحكومة تطبيق سياساتها التنموية، وحيث يطلع المواطنون حكوماتهم عن آرائهم فى برامجها، وحيث تستجيب الحكومات بصورة إيجابية لملاحظات المواطنين، وحيث إذا اتضح أن سياسة حكومة ما خاطئة فإن الدولة تقلع عنها وتغيرها، هو عالم يقوم على الحوار البناء بين المواطنين وحكوماتهم».
فى ضوء هذه المواجهات الرئيسية تشرح الوثيقة الأدوات المختلفة التى يمكن للمواطنين استخدامها للرقابة على برامج الدولة التنموية.
وهكذا يمكن القول إنه عكس ما قد تتهم به «الدولة التنموية» بأنها دولة سلطوية فإنها فى الواقع ـ إذا ما تجددت كل الأطراف السياسية من أحزاب ومؤسسات للمجتمع المدنى ونخبة سياسية وثقافيةـ تصبح دولة المشاركة الجماهيرية فى مجال التنمية القومية.