وعدت القراء الكرام بأنني سأشرع من خلال سلسلة مترابطة من المقالات بشرح أبعاد الخريطة المعرفية لثورات الربيع العربي. وذكرت أن «المركز العربي للبحوث والدراسات» بالقاهرة أصدر عام 2014 كتاباً مرجعياً أساسياً بهذا الصدد عنوانه «الخرائط المعرفية لظواهر العالم المعاصر» وله عنوان فرعي هو «سوسيولوجيا الثورة والتحول الديموقراطي». وقد أشرفت على تحرير هذا الكتاب الذي كتبت فصوله مجموعة من الخبراء المرموقين في الفكر السياسي والعلاقات الدولية والنظم السياسية والاقتصاد والتاريخ.
وقررت أن أستند إلى بحوث هذا الكتاب في شرح أبعاد الخريطة المعرفية لثورات الربيع العربي.
ومما لا شك فيه أن أبرز ظواهر ثورات الربيع العربي، سواء في تونس أو في مصر هو صعود تيار الإسلام السياسي. فقد رأينا في تونس أن حزب «النهضة» الإسلامي بقيادة الشيخ راشد الغنوشي حصل على الأغلبية في انتخابات المجلس الانتقالي وشكل الحكومة وفي مصر نجح حزب «الحرية والعدالة» الذراع السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» في الحصول مع حزب «النور» السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وأضاف هذا الحزب إلى انتصاراته السياسية نجاحه في إنجاح مرشح «الإخوان» لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد مرسي، وهكذا سيطرت جماعة «الإخوان» على مجمل أركان النظام السياسي المصري، ما سمح لها بأن تطمح عبر «أخونة» الدولة وأسلمة المجتمع الى تحقيق الحلم التاريخي الذي راود الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة وهو استرداد الخلافة الإسلامية عن طريق القيام بانقلابات لا يستبعد فيها استخدام العنف ضد الدول المدنية العربية لتحويلها إلى دول إسلامية تطبق الشريعة تمهيداً لإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية من جديد، بحيث تصبح الدولة المصرية مجرد ولاية من ولايات الخلافة.
ومشروع جماعة «الإخوان المسلمين» في ما يتعلق بإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية ليس مجرد استنتاج من خطابها السياسي، وإنما هو قراءة دقيقة للخطاب المؤسسي للجماعة، بالإضافة إلى تصريح الدكتور محمد بديع مرشد «الإخوان» بعد فوز الجماعة بالأكثرية في مجلسي الشعب والشورى بأنه يبدو أن حلم حسن البنا في إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية قارب على التحقق. وأضاف: إنه من خلال خطة التمكين «الإخوانية» سيتحقق هذا الهدف الاستراتيجي وسيصبح المسلمون– كما زعم- هم أساتذة العالم!
والسؤال المهم هنا: ما هو التوصيف الدقيق لهذا المشروع السياسي، وهل يتسم بالواقعية في غمار التحولات الكبرى في النظام الدولي أم هو مجرد «يوتوبيا» أو مدينة فاضلة يسودها العدل كما تحلم جماعة «الإخوان المسلمين»؟
الإجابة أن هذا المشروع الوهمي لا يستند إلى أي تحليل موضوعي للنظام الدولي الراهن الذي تتحكم فيه قوى عظمى كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي التي لن تسمح بقيام إمبراطورية دينية إسلامية. وهي بالتالي مجرد «يوتوبيا» أو حلم خيالي بمدينة فاضلة.
والواقع أنني كباحث في العلم الاجتماعي اهتممت منذ سنوات بعيدة بموضوع «اليوتوبيا» واهتممت بتحليل الأسباب التي تجعل بعض المفكرين في عصر بعينه يصوغون «يوتوبيات» وينشرون معالمها في كتيب وقد جددت اهتمامي بهذا الموضوع حين اكتشفت إعادة إحياء كتابات «اليوتوبيا في عصر العولمة».
وملاحظتي الأساسية بهذا الصدد أن جماعة «الإخوان المسلمين» التي تتبنى مشروع إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية تتبنى في الواقع نظرة مثالية خالصة لتاريخ الخلافة الإسلامية وكأنها منذ نشأتها كانت منارة العدل مع أن التاريخ الواقعي يسجل أن الخلافة كنظام سياسي إسلامي مخضبة بالدماء والتي تمثلت في اغتيال بعض الخلفاء وبعد أن قامت الحرب الكبرى بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب وانتصر معاوية بحد السيف الذي أصبح هو رمز تولي الخلافة ونعني من خلال اغتيال الخلفاء وعن طريق مؤامرات القصر، والتي كانت تتعمد إقصاء بعض من يستحقون الخلافة بل وقتلهم بلا شفقة أحياناً.
غير أن هذه «اليوتوبيا الإسلامية» -لو تركنا جانبا تاريخها الدموي- وطرحنا عدة أسئلة جوهرية حول إمكان إعادة تأسيسها في عالم اليوم، لاكتشفنا أن قادة «الإخوان» وفقهاءهم ليست لديهم أي إجابة مقنعة عن هذه الأسئلة.
ويشهد على هذا المساجلة التي دارت بيني وبين الشيخ يوسف القرضاوي أحد الزعماء الكبار لجماعة «الإخوان المسلمين» على صفحات جريدة «الأهرام» المصرية، والتي ابتدأت بمقال لي عنوانه «الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» وامتدت أسابيع بعد أن تولى الشيخ القرضاوي الرد على انتقاداتي في عدة مقالات بدأت بمقالة حول الحركة الإسلامية بين «حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» والتي نشرت في جريدة «الأهرام» في 7/8/1994 ثم أثنى عليها بمقالة أخرى رداً على مقالي بعنوان تعقيب حول مقالي «الإمبراطورية والخليفة» نشر بتاريخ 2/8/1994 ولا يمكن لي أن ألخص هنا نقدي الموضوعي ليوتوبيا الخلافة الإسلامية وردود الشيخ يوسف القرضاوي عليها وقد سجلته بالكامل في كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» الجزء الثاني «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» الصادر عن المكتبة الأكاديمية في القاهرة عام 1996.
وأقنع هنا بإيراد الأسئلة الحاسمة التي طرحتها على الشيخ القرضاوي وفشله في الإجابة المقنعة عن أي منها.
طرحت في مقالي «الإمبراطورية والخليفة» الذي نشر في «الأهرام» بتاريخ 15/8/1994 أسئلة عدة موجهة للشيخ يوسف القرضاوي نصها كما يلي: «هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه؟
هل هو مجلس المجتهدين (الذي اقترحه القرضاوي) أم أنه إيماناً بقواعد الديموقراطية سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطياً؟
وتظل هناك أسئلة: من له حق الترشح؟ وهل لا بد أن يكون من رجال الدين مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة، أم أن أي مواطن عادي له حق الترشح؟
وهل سيتم تداول السلطة بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل عنه أبداً؟
فشل الشيخ القرضاوي في الإجابة عن أي من هذه الأسئلة الحاسمة. وقرر في رده تعقيباً على مقال «الإمبراطورية والخليفة» الذي نشر في «الأهرام» بتاريخ 2/8/1994: أقول للأستاذ يسين -بعد أن أورد نص أسئلتي الموجهة إليه- إني لم أفصل ذلك لسببين: الأول أني لم أكتب بحثاً عن نظام الخلافة أو النظام السياسي في الإسلام، إنما كتبت مقالة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهماً، والثاني أنه ليس من حقي أن أحتكر هذا التفصيل لنفسي إنما هو حق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد فيها تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها. وهكذا تهرب الشيخ القرضاوي من الإجابة على أسئلتنا الموضوعية، غير أن تيار الإسلام التكفيري الذي تمثله التنظيمات الإسلامية الجهادية الإرهابية تولت هي بنفسها الرد على أسئلتنا بدلاً من الشيخ القرضاوي. فقد أقام الإرهابي أبوبكر البغدادي «خلافته الإسلامية» الوهمية بحد السيف وعن طريق ذبح الرهائن والأسرى وإغراقهم وحرقهم، وما له دلالة أن الداعية «الإخواني» المعروف الدكتور وجدي غنيم صرح بأنه ليس ضد «خلافة» أبوبكر البغدادي وإن كانت لديه بعض الملاحظات على سلوك الإخوة. وهؤلاء الإخوة هم الإرهابيون الذين افتتحوا عصراً جديداً للتوحش الإنساني!