ظهرت العولمة منذ بداية الثمانينيات بحكم تطور النظام العالمى وتزايد تشابكاته، وأهم من ذلك نتيجة للثورة الاتصالية الكبرى التى تتمثل فى البث التليفزيونى الفضائى الذى جعل ملايين البشر فى مختلف أنحاء العالم تتابع الأخبار العالمية فى الوقت الواقعى Real Time لحدوثها.
مما سمح بتبلور ما يطلق عليه «الوعى الكوني» والذى أدى إلى زيادة فهم الشعوب لما يدور حولها من أحداث سياسية واقتصادية وثقافية. غير أن محور الثورة الاتصالية الكبرى كان هو شبكة الإنترنت التى خلقت لأول مرة فى تاريخ البشرية مجالاً عاماً جديداً يسمح لكل مواطنى العالم مهما تكن جنسياتهم أو ثقافاتهم أن يتفاعلوا بحرية مطلقة بعيدا عن القيود التى تضعها الحكومات على حرية التفكير وحرية التعبير. وظهرت المدونات السياسية التى أصبحت صوت من لا صوت لهم من قوى المعارضة للنظم الشمولية والسلطوية وظهرت صيغة «البريد الإلكترونى» الذى أصبح الوسيلة المثالية للتفاعل بين البشر، ثم ظهر «الفيس بوك» والذى أصبح عالما افتراضيا رحبا تتم فيه تفاعلات ثقافية وسياسية متعددة وبعد ذلك ظهر «التويتر» الذى - بالرغم من محدودية الكلمات التى تصاغ فيها رسائله- أصبح منبرا مهما لإبداء الآراء السياسية سواء فى المشكلات العالمية أو المحلية.
وظهور العولمة بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية كان يقتضى من النخبة الثقافية العربية أن تجدد نفسها معرفيا حتى تستطيع أن تتابع التغيرات العالمية، وأهم من ذلك أن تفهم منطقها الكامن، وأن تتعرف - لو استطاعت- على القوانين العامة التى تحكمها.
وهذا ما فعلته حين انتقلت من القاهرة عام 1990 حين كنت مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى عمان لأشغل منصب أمين عام منتدى الفكر العربى. فقد أدركت وقتها أن النماذج المعرفية القديمة التى كنت أعتمد عليها- كباحث علمى اجتماعي- فى فهم ظواهر العالم المعقدة قد سقطت، وأن المنهج التاريخى النقدى المقارن الذى صغته وطبقته فى بحوثى المتجددة لم يعد صالحا لوصف الظواهر ولا تفسيرها.
ولذلك قمت برحلة تجدد معرفى عميقة واكتشفت ما أطلقت عليه بعد ذلك الثورة الكونية التى شملت العالم وهى ثورة - كما فصلت فى كتابى «الثورة الكونية والوعى التاريخى» (القاهرة 1995- مثلثة الجوانب. فهى ثورة سياسية وتعنى الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية، وثورة قيمية وتعنى الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية (مثل الاهتمام بالجوانب الروحية واعتبارات الكرامة الإنسانية) وثورة معرفية وتعنى الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة والتى أصبحت هى المعبر عن عصر العولمة.
واكتشفت مبكرا مفهوم العولمة ونشرت عدة كتب لشرح الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية لها. وفى هذا الإطار عنيت بإبراز إيجابيات العولمة وسلبياتها، وأهم من ذلك حجج أنصار العولمة وانتقادات خصومها حتى يتبين للمثقفين العرب أن العولمة ليست وحيدة البعد، كما أنها ليست قدرا محتوما على الإنسانية، بمعنى أنها ستظل ممارساتها مطبقة إلى الأبد.
ومن الجدير بالتأمل الفكرى العميق ظهور كتابات علمية مهمه موضوعها - بكل بساطة- نهاية العولمة!
ومما لا شك فيه أن الأزمة المالية الكبرى التى ضربت البنوك والشركات الأمريكية الكبرى عام 2008 كانت المؤشر البارز لاحتمال نهاية عصر العولمة! وذلك لأنها - حسب ما وصفت ما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية -لم تكن مجرد أزمة مالية بل كانت أزمة اقتصادية أدت إلى سقوط السياسة الليبرالية الجديدة والتى كانت عمود العولمة، والتى عن طريقها حاولت الدول الكبرى الهيمنة على اقتصادات العالم. وذلك لسبب بسيط هو أن النموذج الرأسمالى يقوم أساسا على حرية السوق الذى يوازن نفسه بنفسه عن طريق «اليد الخفية» كما كان يقول «آدم سميث» وبالتالى لا يجوز للدولة أن تتدخل إطلاقا فى الاقتصاد.
غير أن الرئيس «أوباما»- تلافيا لإعلان إفلاس الدولة الأمريكية التى سقطت كل بنوكها الرئيسية وشركاتها الرأسمالية- ضخ ما لا يقل عن 600 تريليون دولار لإنقاذ البنوك التى أفلست والشركات التى انهارت. ومن هنا سقط النموذج الراسمالي، وأصبح السؤال إذا كان لابد أن تتدخل الدولة فإلى أى مدى؟ لم يستطع أحد من كبار المفكرين الاقتصاديين من أنصار الرأسمالية أن يجيب حتى الآن عن هذا السؤال.
ومعنى تدخل الدولة لإنقاذ المؤسسات الرأسمالية من الانهيار أن العولمة الاقتصادية قد سقطت، وأن موجاتها الهادرة التى غطت الكوكب كله قد انحسرت.
وقد عالجت هذا الموضوع البالغ الأهمية بالتفصيل فى كتابى الذى نشرته عام 2009 وعنوانه «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية» (القاهرة: نهضة مصر) وقد تنبأت فيه -بناء على تحليل اقتصادى وسياسي- أن الرأسمالية كنظام اقتصادى قد انهارت ما دامت الدولة الأمريكية قدمت مساعدات مهولة من نقود دافعى الضرائب لإنقاذ المؤسسات الرأسمالية من السقوط النهائى، وبالتالى أيقنت أن العولمة تمر بأزمة خانقة.
ومن ناحية أخرى إذا كنا فى محاولتنا المبكرة عام 1990 للتجدد المعرفى قد تحدثنا عن «الثورة الكونية» فى شقها السياسى ونعنى الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية والتى وصفها «صامويل هنتجتون» بأنها الموجة الثالثة للديمقراطية إلا أنه فى نهاية الشوط اكتشفنا أن الديمقراطية كمذهب سياسى تدين به أساسا الدول الرأسمالية بل وحاولت فرضi فرضا على دول العالم الثالث- قد سقطت أيضا فى الممارسات الراهنة للديمقراطيات الغربية.
وقد أثبت هذه المقولة بشكل علمى عالم الاقتصاد الفرنسى الشهير «بيكيتى» فى كتابه «رأس المال» الذى آثار ضجة عالمية حين قرر أنه بدراسة الاقتصادات الرأسمالية فى العقود الثلاثة الأخيرة تبين له أن عوائد رأس المال أصبحت أكبر من معدل الدخل القومى، مما يعنى اتساع فجوة اللا مساواة إلى درجة خطيرة. وأهم من ذلك كله أن الديمقراطية الأمريكية فى السنوات القادمة بحكم تركز رأس المال فى يد القلة ستتحول إلى نظام «أوليجاركى» أى حكم القلة حيث سيحكم أصاب رؤوس الأموال مباشرة، ولن يستتروا كما كانوا يفعلون وراء الساسة المحترفين الذى كانوا يمولونهم فى حملاتهم الانتخابية للدفاع عن مصالحهم.
وإذا كانت العولمة الاقتصادية ممثلة فى الليبرالية الجديدة قد سقطت، والديمقراطية النيابية التى هى الشعار السياسى للعولمة قد انهارت، فمعنى ذلك أن عصر العولمة قد انتهى اقتصاديا وسياسياً.
ولذلك ليس غريبا أن يبدأ حديث المفكرين العالميين فى الوقت الراهن عن نهاية العولمة، وأهم من ذلك بدأ كبار المفكرين يتحدثون عن «ما بعد العولمة» ومعنى ذلك أن العولمة قامت وانتهت وعديد من المثقفين العرب مازالوا يحاولون فك طلاسمها وفهم قوانينها!
ولذلك - كما أكدنا بالنسبة للنخب السياسية - أنه آن للنخب الثقافية أن تتجدد معرفيا!