علاقتى
بالأدب قديمة تمتد إلى بواكير الصبا حين اتجهت إلى القراءة المتعمقة فى مختلف
مجالات الفكر. واكتشفت مبكرا الكاتب اللبنانى الشهير جبران خليل جبران، والذى كان مع «ميخائيل نعيمة» من أبرز أدباء
المهجر، وتأثرت بأسلوبه فى الكتابة تأثرا شديدا، لأنه كان صاحب أسلوب ناصع استطاع
عن طريقه أن ينفذ إلى العقول والقلوب معا. واكتشفت فى الحقبة نفسها الشاعر التونسى
الكبير «أبو القاسم الشابى» صاحب القصيدة الشهيرة «إرادة الحياة» والتى أصبح بيتها
الأول أيقونة الثورات العربية «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب
القدر».
وقد
تابعت بصورة دقيقة ظهور الأسماء الأدبية اللامعة التى فتحت آفاقا جديدة فى عالم
القصة القصيرة والرواية والشعر.
انتقلت
من الإسكندرية إلى القاهرة عام 1957 حين عينت باحثا بالمركز القومى للبحوث
الاجتماعية والجنائية، مما أتاح لى أن أتعرف مباشرة على الإنتاج المتميز لجيل
الستينيات والذى كان «جمال الغيطانى» بمثابة واسطة العقد فيه بعد أن نشر مجموعته
الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وتعرفت بعد ذلك عليه بل وصادفت عددا من أعضاء
هذا الجيل الذهبى من الروائيين والشعراء.
وكانت
هناك مؤشرات على أن «الغيطانى» ولو أنه كان من «مريدى شيخه» «نجيب محفوظ» إلا أنه
حرص على أن يتميز عنه ولا يقلده.
ولقد
كان هذا الاتجاه فى الواقع مشتركا بين أعضاء جيل الستينيات الذى كانوا يحرصون على
أن يكون لهم صوت متميز. ومن هنا مارسوا ما يمكن تسميته «الكتابة المضادة» سواء فى
أسلوب السرد أو فى اختيار الموضوعات أو فى رؤيتهم للحياة.
وأظن
أن رواية «الزينى بركات» كانت إشارة مبكرة للغاية على أننا ظفرنا بروائى شاب غاص
فى التراث، وأراد أن يبتكر لنفسه أسلوبا يجد مرجعيته فى طرق القص العربى التقليدى.
غير أن الأهمية البالغة لهذه الرواية أنها كشفت عن أن الروائى تحول إلى ناقد سياسى
استطاع بعبقرية فذة تشريح النظام السلطوى، والكشف عن آليات القهر التى يتبعها من
خلال قصة حدثت فى العهد المملوكى، ولكنها تحمل إسقاطا مباشرا على أى نظام سلطوى فى
العالم، وليس النظام السلطوى المصرى فقط. ولذلك سرعان ما تحول «الغيطانى» بهذه
الرواية الفذة إلى كاتب عالمى تخطى حدود اللغة والثقافة بعد أن ترجمت روايته إلى
عديد من اللغات الأجنبية. بل إنها لترقى - فى تقديرى- إلى مستوى الرواية الشهيرة
«لكافكا» «القضية» التى تعكس الكوابيس الفظيعة لممارسات النظم السلطوية، وتقترب
كثيرا من رواية 1984 التى أبرز فيها الروائى البريطانى الشهير «جورج أورويل» معالم
النظام السلطوى.
وربما
عكست هذه الرواية لمحات من الحياة الخاصة «للغيطانى» والذى كان ناشطا سياسيا تم
اعتقاله لفترة بحكم توجهاته السياسية، وخبر بالتالى كيف تتعامل النظم السلطوية مع
المعارضين لها.
انصرف
«الغيطانى» بعد «الزينى بركات» إلى إنتاج روائى متنوع كان أبرزه حين عمل مراسلا
حربيا، واستطاع أن يؤسس لأدب الحرب فى مصر بطريقة عبقرية حقا. فقد أخرج كتابه
«المصريون والحرب» والذى احتوى على حوارات أخاذة مع عدد من المقاتلين المصريين،
ويمكن القول أن درة إنتاجه فى هذه الحقبة هى رواية «الرفاعى» التى حكى فيها قصة
قائد الصاعقة المصرية الجسور الذى كان يسبق جنوده فى العبور إلى سيناء المحتلة،
ويعود بعدد من الأسرى الإسرائيليين لتحطيم أسطورة العدو الذى لا يقهر.
قام
«الغيطانى» بتجارب روائية متعددة كان يبحث فيها عن سرد روائى متفرد وبرز ذلك أساسا
فى كتاب «التجليات»، والذى ظهر فيه باعتباره فيلسوفا لديه القدرة -من خلال تركيزه
على الزمن- على أن يقدم للقارئ قراءته الخاصة الفريدة للزمن والتى حاولت أن تمسك
بتلاييب اللحظات الخاطفة، وطرح السؤال أين تذهب هذه اللحظات أو ما أطلق عليه مشكلة
«فوات الزمن».
وقد
قامت إحدى كبريات دور النشر الفرنسية وهى Sueil بترجمة زالتجلياتس إلى الفرنسية، وأحدث
نشرها دويا هائلا فى الأوساط الأدبية الفرنسية.
كان
عندى النسخة العربية من التجليات، وحرصت على اقتناء النسخة الفرنسية لأعرف هل نجح
المترجم حقا فى نقل دقائق اللغة العربية التى سجل بها «الغيطانى» تأملاته العميقة.
واكتشفت
أن المترجم قام بعمل متميز حقا، لأنه استطاع أن ينفذ إلى جوهر أسلوب «الغيطانى».
وقد دار حديث مهم بينى وبين «الغيطانى» حول «التجليات» حين تقابلنا صدفة فى طائرة
«إير فرانس» التى كانت متجهة إلى باريس منذ سنوات بعيدة. كان مع زوجته الكاتبة
الصحفية المعروفة «ماجدة الجندى» فى رحلة تتعلق بنشر رواياته بالفرنسية، وأنا كنت
متوجها إلى باريس فى رحلة علاجية.
أطلعنى
«الغيطانى» على ملف كامل للمقالات الفرنسية التى كتبها كبار النقاد الفرنسيين على
رواياته وعلى «التجليات» بالذات.
وفوجئت
حقا بمقال لأحد كبار نقاد الآدب الفرنسيين منشور فى المجلة الشهيرة زالمجلة
الأدبيةس يقول فيها أن التجليات «للغيطانى» تقف فى صف الأعمال الفلسفية العميقة
الفرنسية وخصوصا كتاب «أفكار» الشهير «لباسكال».
هذا
حكم بالغ الأهمية لأنه يحمل تقديرا لا حدود له لعبقرية «الغيطانى» الروائية والتى
جعلت عددا من أساتذة الأدب الفرنسيين يدرسون بشكل منهجى تحولات الكتابة عند
«الغيطانى».
غير
أن انصراف «الغيطانى» إلى الكتابة الفلسفية فى «التجليات» لم تمنعه أن يمارس دور
الناقد الاجتماعى للتفكك الاجتماعى وانهيار القيم بعد سياسة الانفتاح التى أعلنها
الرئيس «أنور السادات».
فقد
أصدر فى روايات الهلال مجموعة قصص بعنوان «رسالة البصائر فى المصائر». وقد اهتممت
بهذه المجموعة اهتماما خاصا لدرجة أننى قمت بدراسة خاصة عنها نشرتها فى الطبعة
الثالثة لكتابى «التحليل الاجتماعى للأدب» (دار العين ،2007) الذى صدرت طبعته
الأولى عام 1970 عن دار الأنجلو المصرية.
وعنوان
الدراسة التى تكون الفصل الثانى عشر من الكتاب «جمال الغيطانى» من التجريب الشكلى
إلى الصدق المضمونى. لقد استطاع الروائى العبقرى أن يرصد التداعيات الاجتماعية
والثقافية والسلوكية والقيمية التى أعقبت عملية الانفتاح الاقتصادى والتى تمت بصورة
عشوائية، وأدت إلى سقوط مواطنين شرفاء عديدين فى دوائر الفساد.
ربما كانت هذه المجموعة جملة اعتراضية فى الإنتاج الروائى «للغيطانى» لأنه سرعان ما عاد إلى عالمه الأثير، وهو «التجليات» بأنغامها المتنوعة. ولكنه فى السنوات الأخيرة تحول من التعامل مع الزمن والطبيعة الإنسانية إلى التأمل فى عالم الطيور والطبيعة. ويكشف عن هذا التحول مجموعته الأخيرة «يمام» والتى نشرتها له دار نهضة مصر وهى تضم تأملات نادرة لعالم الأشجار وعالم الطيور لم يسبق لروائى أن اقتحم عوالمها الثرية. لقد كان الصديق «الغيطانى» حريصا على أن يهدينى هذه المجموعة التى سبق أن نشر قصصها فى «أخبار اليوم» لأننى هنأته على إبداعه المتفرد، ورحل «جمال الغيطانى» الروائى العبقرى ولكن آثاره الأدبية ستبقى أبد الدهر.