سؤال مصر إلى أين؟ يفرض نفسه دائماً فى اللحظات الصعبة والحرجة ليعبر عن حالة دقيقة من غياب اليقين فى المستقبل تتراجع معها القدرة على الحلم ويغيب الخيال وتتداخل المشاهد وتتناقض السيناريوهات. فى نهاية عام 2004 وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع سؤال مصر إلى أين عندما اتجه نظام مبارك إلى اتخاذ القرار الصعب: التجديد لرئيس تداعت مكانته وشرعيته أم الاستبدال بالوريث الذى يمثل المخرج الوحيد لإعادة تجديد شرعية النظام بواجهة بديلة للرئيس الذى احترقت كل أوراقه فى محاولة مستميتة لفرض استمرارية النظام بكل ما كان يعنيه لأركانه المستبدة والفاسدة: من احتكار للسلطة والثروة وفرض خيارات الدولة التسلطية المفرطة فى اعتمادها على الأجهزة الأمنية.
طرح سؤال مصر إلى أين فرض نفسه بقوة على المصريين الرافضين لكل من سيناريو التمديد لحسنى مبارك رئيساً لمصر عام 2005 أو التوريث لجمال مبارك وكان الرد هو حركة «كفاية» التى كانت الخلفية الحقيقية التى انطلقت منها ثورة 25 يناير التى طالبت بإسقاط النظام فى إجمال غير مسبوق لشعاري: لا للتمديد.. لا للتوريث.
وفرض سؤال مصر إلى أين نفسه مرة ثانية عندما تآمرت جماعة الإخوان على ثورة 25 يناير واختطفتها، وضرب الدكتور محمد مرسى عرض الحائط بكل وعوده للقوى السياسية وبالتحديد تعهداته فى «اجتماع ووثيقة فيرمونت» وخاصة أنه لن يحكم مصر ببرنامجه السياسى الذى خاض به الانتخابات ولن يحكم مصر ببرنامج الإخوان ولكن سيحكمها ببرنامج وطنى شامل يمثل كل المصريين وكل الأهداف التى ثاروا من أجلها فى 25 يناير 2011، وعندما تراجع عن حكم الشراكة الوطنية مع القوى والتيارات السياسية الأخرى، وضرب عرض الحائط بمبدأ «مصر دولة مدنية ديمقراطية» عندما حدث كل ذلك بدأ المصريون يدركون أنهم مدفوعون إلى حالة جديدة من عدم اليقين بالمستقبل والرفض للواقع الأليم الذى يفرض نفسه بقوة الجماعة، وجاءت ثورة 30 يونيو لتضع نهاية لكل هذا الاستخفاف بالمصريين وثورتهم ولتستعيد الثورة وأهدافها مجدداً.
وعندما نجحت ثورة 30 يونيو فى إزاحة الإخوان تصور المصريون أنهم استعادوا ثورة 25 يناير أو أنهم سوف يستكملون هذه الثورة لكنهم بعد مرور أكثر من عامين وجدوا أنهم اكتفوا بثورتهم فى 30 يونيو بالدعوة لإسقاط حكم الإخوان والتصدى للإرهاب الذى أخذ يهدد الأمن والاستقرار والاقتصاد، لكنهم مع دعوتهم لإسقاط نظام الإخوان لم يطرحوا سؤال: وماذا بعد إسقاط النظام؟ غاب السؤال وغابت بالتالى إجابته ومنها أسئلة أخرى من نوع أى مصر نريد؟ وأى نظام سياسى يجب أن نؤسس؟ وما هى الأهداف العليا لهذا النظام؟ وكيف لنا أن نحققه وعبر أى أساليب وأدوات؟
ومع غياب كل هذه الأسئلة المحورية، ومع سيطرة أولوية الحرب على الإرهاب، ومع تزايد وتراكم المشاكل الداخلية والخارجية، وجد أركان نظام مبارك فرصتهم للإجابة عن كل هذه الأسئلة نيابة عن الشعب أو فى غيبة الشعب الذى ألقى بكل المهام والمسئوليات على عاتق رئيس الجمهورية وحده وليحقق لهم وحده، دون مشاركتهم، كل ما يريدون بعد أن أرهقتهم أعباء وتداعيات الثورتين. وفجأة وجد المصريون أنفسهم مدفوعين للاقتراع على برلمان معظم المرشحين للفوز بعضويته إما من رموز نظام مبارك أو من المنتسبين إليه، أو من المستفيدين منه، لذلك قرر 75% من المصريين الذين لهم حق الانتخاب عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع حرصاً منهم على عدم التورط فى انتخاب برلمان يطالب الكثير من المرشحين لعضويته بإلغاء الدستور الذى يراه الشعب وثيقة تأكيد وتثبيت الأهداف التى قامت الثورة من أجلها.
هؤلاء الممتنعون عن المشاركة فى التصويت لانتخاب البرلمان الجديد أدركوا أن هناك تحالفاً يضم أركان الحزب الوطنى المحظور ومجموعات كبيرة من رجال الأعمال مدعومين بجماعات الفساد فى الأجهزة الحكومية التى هى نفسها أجهزة نظام مبارك هدفه استعادة نظام مبارك عن طريق السيطرة على البرلمان الجديد أى على جهاز التشريع فى الدولة، ومن لديه شك فى هذا الإدراك عليه أن يبحث فى دوافع إقدام أحد كبار رجال الأعمال على شراء مرشحين منتمين للحزب الوطنى المحظور، وأن يدفع نصف مليون جنيه حدا أدنى ثمناً للنائب الواحد تحت مسمى «تكاليف دعائية» وأن يأخذ عليهم أوراقاً وتوقيعات تجبرهم على الانصياع لكل أوامره ومطالبه داخل البرلمان الذى يأمل أن يسيطر عليه أو تكون له كلمة قوية داخله، أى أن يحصل على ما يمكن تسميته بـ «الثلث المعطِّل» داخل البرلمان يفرض على رئيس الجمهورية وعلى الأغلبية البرلمانية أن تدخل معه فى مساومات حول أسس وقواعد الحكم فى مصر.
معظم المصريين أدركوا هذا كله، لذلك حرصوا على التبرؤ من هذا البرلمان ورفض المشاركة فى انتخابه، لكن الأهم أنهم أخذوا مجدداً فى إعادة طرح سؤال: مصر إلى أين؟
إعادة طرح هذا السؤال تعنى اننا نواجه مجدداً مفترق طرق وعرة فى بناء مصر التى نريد، وأننا مطالبون هذه المرة أيضاً بتقديم إجابة على السؤال، هى فى واقع الأمر الإجابة التى غابت عنا بعد ثورة 30 يونيو مباشرة أى استعادة الإجابة على سؤال: أى مصر نريد؟ وأى نظام سياسى جديد نريده، وليس التفكير فى ثورة ثالثة على نحو ما قد يتصور البعض عن خطأ فى الإدراك، نحن فى أمس الحاجة للإجابة على السؤال الغائب: سؤال المشروع السياسى من منظور مستقبلى يلامس الحوار الثقافى العالمى الدائر حالياً بعد إسقاط يوتوبيا الأحلام القديمة فى النظام السياسى الليبرالى والنظام الاقتصادى الرأسمالى.
العالم يدخل الآن عصر ما بعد الرأسمالية عقب أن سقطت الرأسمالية فعلياً منذ عام 2008 فى الولايات المتحدة فى عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش ما اضطر الرئيس باراك أوباما أن يتدخل بعد انتخابه لإنقاذ النظام الرأسمالى فى بلاده بضخ 600 مليار دولار أملاً فى الحفاظ عليه. لذلك يواجه العالم الآن سؤال: ماذا بعد سقوط النظام الرأسمالى التقليدى الذى فشل فى حل معضلة العدالة الاجتماعية كما أكد عالم الاقتصاد الفرنسى ميشيل بكيت فى مؤلفه الشهير «رأس المال».
والعالم يعيش الآن ما بعد نظام الليبرالية السياسية بعد أن فشل هذا النظام فى تحقيق العدل السياسى وتمكين المواطن أن يكون فعالاً فى خياراته السياسية بسبب تحول هذا النظام الليبرالى إلى «حكم الأقلية» التى تملك المال أو التى تملك أكثر من غيرها من المال.
والأهم من ذلك أن العالم بدأ يدخل فعلياً فى عصر ما بعد العولمة، ونحن فى حاجة إلى أن نكون طرفاً فاعلاً فى هذا التفاعل الثقافى العالمى كى يأتى نظامنا السياسى والاقتصادى الجديد متجانساً فى الفكر والثقافة العالمية.
هذا التفاعل يجب أن يمتزج مع الأهداف العليا التى ثار الشعب من أجلها لبناء مشروعنا السياسى الجديد والغائب لأن هذه المهمة هى الاستجابة الحقيقية إلى إعادة طرح سؤال مصر إلى أين؟ وأى تقاعس عن ذلك هو ارتداد عن أهداف الثورة. فلم يعد كافياً أن نجيد إسقاط الأنظمة ولكن التحدى الحقيقى هو أن نعيد بناء الأمل فى مصر التى نريد. نقلا عن الأهرام