هنأ الرئيس عبدالفتاح السيسى الشعب المصرى بإبرام الاتفاق النووى التاريخى بوصفه خطوة مهمة للانتقال بحلم البرنامج النووى إلى أرض الواقع بعد سنين طويلة من الترقب والانتظار. ونحن بدورنا كمصريين- يجب أن نتوجه بالشكر إلى السيد الرئيس لأنه حقق الحلم الذى كنا نأمله، والجدير بنقل مصر من واقع التخلف إلى آفاق التقدم والازدهار باعتبار أن الصناعة النووية هى واحدة من صناعات خمس تعد مؤشرات لقياس تقدم الأمم ونهضتها هى على الترتيب: صناعة الطاقة والصناعة النووية، وصناعة السلاح وصناعة الفضاء وأخيراً صناعة المعرفة التى هى أهم هذه الصناعات على الإطلاق، بل هى محصلة النجاح فى الصناعات الأربع الأخرى. لقد عشنا لسنوات طويلة نطالب بأن تبادر مصر بامتلاك برنامج نووى كامل، أى امتلاك دورة الوقود النووى وليس مجرد شراء محطة نووية لإنتاج الكهرباء بعد أن وقعنا منذ أكثر من 35 عاماً على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التى نقر فيها أن مصر لن تسعى أبداً إلى امتلاك سلاح نووي، وأثبتنا بالدليل القاطع صدق هذا الوعد عندما بادرنا بتبنى إستراتيجية منع الانتشار النووى فى العالم وفى الشرق الأوسط على وجه الخصوص عندما نادينا بجعل إقليم الشرق الأوسط خالياً من الأسلحة النووية، وطالبنا بعقد مؤتمر دولى لهذا الغرض، لكن لم يستمع لنا العالم وانحاز إلى جانب العدو الصهيونى وحمى ترسانته النووية الهائلة ورفض إجباره على التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما رفض إجباره فتح منشآته النووية أمام مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والأهم من ذلك أنه رفض القبول بعقد مؤتمر دولى لجعل الشرق الأوسط خالياً من الأسلحة النووية ورفض إجبار هذا العدو الصهيونى على حضور مثل هذا المؤتمر. حدث كل هذا ولم نتحرك نحن خطوة واحدة للاستفادة من حقوقنا القانونية المشروعة المترتبة على توقيعنا على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وأول هذه الحقوق أن نمتلك برنامجاً نووياً سلمياً، وأن نحصل أيضاً على دعم الوكالة الدولية للطاقة الذرية ودعم الدول الكبرى النووية التى تسمى بـ أعضاء النادى النووى أى الدول الخمس التى اعترف لها العالم دون غيرها بامتلاك أسلحة نووية وهى الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين).
الآن وبعد كل تلك السنوات وقعت مصر وروسيا اتفاقية بناء أربع محطات نووية لإنتاج الكهرباء لكن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان واضحاً فى حديثه أنه لا يتحدث عن محطات لإنتاج الكهرباء من الطاقة النووية فقط لكن يتحدث عن برنامج نووى مصرى أو على الأقل طموح لامتلاك هذا البرنامج عندما قال فى كلمته عقب التوقيع مع روسيا على إنتاج هذه المحطات فى منطقة الضبعة غربى الإسكندرية إننا ملتزمون بتوقيعنا على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وحريصون على امتلاك معرفة نووية وبرنامج نووى للأغراض السلمية. لم يكتف الرئيس بذلك، ولكنه كان حريصاً أيضاً على التنويه بأن القدرة الحقيقية لأى أمة مرهونة بالعلم والمعرفة مبيناً أننا نتحدث عن 4 مفاعلات وأن ميزانية الدولة لن تتحمل مليماً واحداً فى إقامتها، إنما سيتم سداد تكلفة إنشاء المحطة على 35 عاماً من خلال إنتاجها الكهرباء.
بهذه القفزة المصرية الكبرى نحو المستقبل نستطيع أن نقول إن مصر اتخذت قرارين تاريخيين؛ أولهما، أن تغادر وباقتدار قيود الدولة العاجزة المتخلفة والفاشلة وأن تتحول إلى دولة المكانة والتقدم والاقتدار. فعندما تصبح مصر دولة نووية بحق ستكون قد امتلكت المعرفة وأنها أضحت قادرة على صنع التقدم. وثانيهما أنها قررت أن تودع نهائياً مفهوم الدولة السلبية الهامشية الغارقة فى قيود التبعية للخارج وأوهام المقولات التقليدية الراكدة للفكر الرأسمالى المتداعى وأن تتحول، أو بالأحرى، تعود إلى مفهوم الدولة التنموية وان تحفظ استقلالها الاقتصادى والسياسى. وبالمناسبة يعتبر هذا التحول أحد المعالم البارزة للتطور فى الفكر الاقتصادى العالمى بعد أن سقط النموذج الاقتصادى الرأسمالى التقليدى المعتمد على آلية السوق باعتبارها قادرة على تحقيق التوازن بين العرض والطلب، وهو النموذج الذى أدى إلى إبعاد الدولة عن أى دور اقتصادى أو أى دور فى العملية الاقتصادية، وترك الأمر كله للاقتصاد الخاص، واكتفى بأن جعل الدولة مجرد دولة حارسة أى احتفظ للدولة بالوظيفة الأمنية دون غيرها من الوظائف الأخرى وأبرزها الوظيفة التنموية.
هذا النموذج سقط بعد الأزمة المالية التى ضربت الاقتصادى الأمريكى فى عام 2008 والتى كانت فى الواقع أزمة هيكلية فى الاقتصاد الرأسمالى وأجبرت الرئيس الأمريكى باراك أوباما على أن يضخ أكثر من 600 تريليون دولار لإنقاذ الشركات الرأسمالية والبنوك الخاصة التى أفلست، وبعدها بدأ العالم يسأل: ماذا بعد سقوط النموذج الرأسمالى التقليدى وجاءت الإجابة بحتمية عودة نموذج الدولة التنموية الذى يأخذ أحد اتجاهين؛ أولهما، أن تكتفى الدولة بتنظيم المنافسة الاقتصادية كما هو الحال الأمريكى الراهن فى محاولة مستميتة للإبقاء على النظام الرأسمالى حتى لو كان معدلاً. وثانيهما أن تقود الدولة نفسها عملية التنمية تخطيطاً وتنفيذاً أى أن تعود الدولة إلى القيام بالوظيفة التنموية مع السماح للقطاع الخاص بأن يكون شريكا فى هذه الوظيفة ولكن ضمن خطة تنموية تشرف عليها الدولة. كان لمصر تجربتان رائدتان سابقتان مع الدولة التنموية الأولى مع عصر محمد على الذى بنى أول دولة تنموية مصرية لم يحتملها العالم وقام بتدميرها أو بتحجيمها، والثانية مع عصر جمال عبد الناصر وهى التجربة التى لم يحتملها لا الكيان الصهيونى ولا الغرب الأمريكى والأوروبى وقرر أيضاً إسقاطها فى عام 1967بعد أن يئس من محاولات ترويضها واستمالتها. والآن تعود مصر مجدداً إلى نموذج الدولة التنموية ابتداءً من مشروع تأسيس البرنامج النووى وقبله مشروع قناة السويس وهى مقدمات لدور تنموى أوسع للدولة المصرية فى عصر الرئيس عبدالفتاح السيسى.
وكى لا تتعرض هذه التجربة الوليدة إلى مصير تجربتى محمد على وجمال عبد الناصر يجب أن تستخلص الدروس والعبر وأهمها أن يكون الأمن ملازماً للتنمية، أى أن يتزامن مشروع الدولة القوية القادرة على حماية أمنها مع مشروع الدولة التنموية، بمعنى أن تكون مصر قادرة على حماية ما تبنيه من مشروعات تنموية لا ترضى الأعداء المتربصين والمرتجفين من عودة مصر قوية، خاصة أن التجربة التنموية المصرية الجديدة تتم بالتعاون مع روسيا الأمر الذى سوف يفجر الغضب الأمريكى والذعر الإسرائيلى للأسباب ذاتها التى دفعتهم لتصفية تجربة جمال عبد الناصر لأن التعاون المصرى - الروسى يؤمن لمصر فرص تحقيق التقدم على عكس تجربة التعاون المصرى الأمريكى التى أغرقت مصر فى مستنقع التبعية والخضوع للهيمنة فضلاً عن تكريس الضعف والتخلف والاستكانة فروسيا (الاتحاد السوفيتي) هى من قدم للجيش المصرى أول صفقة لتسليحه عام 1955 (صفقة الأسلحة التشيكية) وهى من بنى السد العالى ومجمع الحديد والصلب ومجمع الألمونيوم فى نجع حمادى ومصانع كيما للأدوية فى أسوان، وهى من وقف مع مصر بعد نكسة 1967 وبالسلاح الروسى عبرنا قناة السويس وحققنا نصر أكتوبر، وها هى روسيا هى من سيبنى لنا المفاعلات النووية ومن سيقدم لنا المعرفة العلمية والتكنولوجيا لبدء مشروع نووى مصرى بعقول وسواعد المصريين دون حاجة إلى قروض مشروطة بمطالب تهدد استقلالية القرار الوطنى وهنا مكمن الخطر فى علاقتنا مع الغرب وما يثير مخاوف الكيان الصهيونى الذى لن يهدأ له بال مع عودة مصر مجدداً دولة قادرة على صنع التقدم وتأمين الاستقرار.