لا أدرى لماذا- حين وقعت الأحداث الإرهابية الدموية فى باريس والتى وجهت ضد مواطنين فرنسيين أبرياء وترتب عليها وقوع أكثر من ثلاثمائة قتيل -تذكرت أحداث سبتمبر 2011 ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وما أحدثته من أصداء سياسية أدت إلى بروز خطاب صراع الحضارات.
وها قد وقعت الواقعة الخطيرة على أرض باريس، والتى هى رمز الثقافة والنور والفنون الرفيعة، والتى صورت باعتبارها هجوم البرابرة على مراكز الحضارة العالمية!.
ووصف البرابرة هنا قد يشير إلى التنظيمات الإرهابية الإسلامية وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش»، وقد يشير - فى زعم بعض الكتاب- إلى المسلمين عموما، وحين يبلغ الشطط مداه فإن التهمة قد توجه إلى الإسلام نفسه باعتباره دينا يحض على العنف، ودليل أصحابها أن الفتوح الإسلامية التى وصلت فى مرحلة تاريخية معينة إلى قلب أوروبا تمت بالسيف!.
أين الحقيقة فى كل هذه الكتابات المتضاربة؟ وهل المسئولية حقا تقع على عاتق التنظيمات الإرهابية أم أنها فى الأصل تقع على عاتق المجتمعات العربية والإسلامية التى نشأ الإرهابيون فى رحابها والتى تسود أغلبها نظم شمولية وسلطوية، وبعضها تقوم على أساس التعصب الدينى وكراهية الآخر الأجنبى مما جعل بعض التنظيمات الإرهابية الإسلامية تتبنى نظرية تكفيرية خالصة تقول من لم يؤمن بالإسلام بعد البعثة المحمدية فهو كافر ينبغى قتاله فى الداخل أو الخارج؟ من ناحية أخرى فقد أتيح لى أن أتتبع بدقة المناظرات الكبرى التى دارت بين بعض كبار المفكرين الغربيين حول المسئولية عن ظاهرة الإرهاب. وقد لفت نظرى بشدة الجسارة الفكرية لبعض الكتاب الغربيين الذين لم يترددوا إطلاقا فى سرد التاريخ الغربى الاستعمارى للبلاد العربية والإسلامية، والمذابح التى ارتكبتها الجيوش الغربية ضد شعوب العالم العربى والإسلامى.
وهذه الجسارة الفكرية فى الواقع تعبر عن إحدى السمات الثقافية البارزة فى الحضارة الغربية وهى القدرة على ممارسة النقد الذاتى، والتى قلت من قبل فى دراساتى المنشورة إنها فضيلة غربية وليست -للأسف- فضيلة عربية! وتطبيقا خلاقا للنقد الذاتى الغربى اطلعت على مقالة نقدية عنيفة للكاتب (بن نورتون) ويكفى عنوانها المثير للدلالة على محتواها وهو (معاييرنا المزدوجة فيما يتعلق بالإرهاب بعد باريس فلنتوقف عن لوم المسلمين ولننظر نظرة صارمة لأنفسنا) ويقول هذا الكاتب الجسور فى مقدمة مقالته (فى كل مرة يحدث فيها اعتداء على مدنيين فى الحقبة التى تلت أحداث 11 سبتمبر 2001 التى وقعت ضد الولايات المتحدة الأمريكية فإن الغوغائيين فى الغرب سرعان ما يلومون المسلمين) ويضيف أن مزاعمهم هذه -وإن كان ينقصها الدليل- إلا أنها تتبع من الاتجاهات المضادة للإسلام والمسلمين. ويقول إن الوقائع تثبت أن أقل من 2% فقط من الهجمات الإرهابية فى الأعوام من 2009 حتى 2013 فى أوروبا كانت بدافع دينى.
ويضىء الكاتب هذه الأرقام المدهشة قائلا إن الأغلبية العظمى للهجمات الإرهابية كانت وراءها أسباب عرقية أو نزعات قومية أو انفصالية. غير أن هذه الحقائق لم تمنع الاتهامات التى توجه إلى المسلمين جزافاً. وقد قام الكاتب بتحليل الخطاب الخاص بالتعليقات التى أدانت المسلمين عموما، وهذا الخطاب كان يهدف إلى إخفاء المشكلات الجسيمة فى المجتمعات الغربية ذاتها، وأبرزها ظواهر التمييز العنصرى والظلم الطبقى للطبقات الكادحة التى تناضل فى سبيل الحصول على حقها فى حياة مستدامة. وينتقل الكاتب الجسور من التعميم إلى التخصيص ويقرر لماذا يتم تجاهل السياق التاريخى الذى اشتدت فيه هجمات الإرهاب والذى بدأ بالحرب الأمريكية الكارثية على العراق، وحوادث التعذيب التى مارستها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فى سجن «أبوغريب»، والتى كانت من بين الأسباب الرئيسية فى صعود تيارات التطرف والتى تحولت من بعد إلى إرهاب صريح؟.
وقد آثر (بن نورتون) فى ملاحظاته النقدية العنيفة أن يشير إلى التاريخ الاستعمارى الغربى حيث مارست دول أوروبية متعددة وفى مقدمتها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا -فى احتلالها واستعمارها عديدا من البلاد العربية والإسلامية والإفريقية- جرائم تعبر عن إرهاب الدول المستعمرة.
وقد سبق للمعلقين الغربيين بعد أحداث سبتمبر الإرهابية أن قارنوا بين البربرية والحضارة الغربية.
وهى العبارات نفسها التى ترددت على ألسنة بعض الساسة بعد أحداث باريس. غير أنه إذا تركنا الملاحظات النافذة (لبن نورتون) جانبا فيلفت النظر حقا المناظرة التى تمت بين اثنين من عمالقة الفكر العربى وهما عالم اللغويات الشهير «نعوم تشومسكى» والذى اشتهر بنقده العنيف للإمبريالية الأمريكية «وچول كروجمان» عالم الاقتصاد الأمريكى الذى سبق له أن حاز على جائزة نوبل للاقتصاد.
ويمكن القول إن المناظرة غير المباشرة التى تمت عبر هذين العلمين كانت محاولة للبحث عن الأسباب العميقة للهجوم الإرهابى الذى شنه تنظيم داعش على باريس ليس ذلك فقط ولكن محاولة تحديد المسئولية عما حدث، حتى لو كان ذلك يدفعنا إلى تأمل التاريخ الاستعمارى الغربى للعالم العربى أو الإسلامى، أو استحضار الوقائع التى تمت فى سياق الحرب على الإرهاب التى أعلنها الرئيس السابق «جورج بوش» الابن بعد أحداث سبتمبر والتى بدأها بالغزو العسكرى لأفغانستان وأخطر من ذلك الغزو العسكرى الأمريكى للعراق والذى أدى إلى سقوط النظام العراقى وحل الجيش العراقى، وإقامة نظام شيعى طائفى أدى إلى إقصاء السنة من المشهد السياسى. وكانت هذه الإجراءات جميعا السبب فى ظهور تنظيمات المقاومة ضد سلطة الاحتلال الأمريكية والتى تحولت من بعد إلى تنظيمات إسلامية إرهابية كانت هى الأصل الذى تولد منه تنظيم داعش الإرهابى والذى أعلن خلافة إسلامية مزعومة بعد نجاحه الساحق فى احتلال أقاليم شاسعة فى سوريا والعراق.
والسؤال الآن لماذا قامت المناظرة بين «نعوم تشومسكى» و«چول كروجمان»؟ لأن «تشومسكى» قرر بكل حسم أن الولايات المتحدة الأمريكية- بحكم سلوكها الإمبريالى- هى زعيمة الإرهاب فى العالم!.
غير أن «چول كروجمان» رفض هذا الحكم الذى أصدره «تشومسكى» فى مقال له بعنوان «الخوف من الخوف ذاته». وهو يبدأ مقالته بالنقد العنيف لجب «بوش» المرشح الأمريكى لرئاسة الجمهورية والذى قال عن الإرهاب فى باريس إنه «محاولة منظمة لتخريب الحضارة الغربية» على أساس أنها فى الواقع كانت محاولة لبث الفزع فى نفوس الأوروبيين لا أكثر ولا أقل، لأن توصيف «بوش» قد يعطى لتنظيم داعش قوة لا يمتلكها بالقول إنه يهدد الحضارة. وأضاف فى رد ضمنى على «شومسكى»- هناك بعض الناس المصممين على أن «الإمبريالية الغربية» هى أصل كل الشرور وأن الأمور سينصلح حالها لو توقف الغربيون عن التدخل فى شئون الآخرين غير أن هذا القول ليس صحيحاً.
إلا أن كل هذه المناظرات الغربية لا تنفى فى الواقع مسئولية تنظيم داعش الإرهابى عن سلوكه البربرى ولا واجب المجتمعات العربية والإسلامية فى تطبيق سياسات أمنية وثقافية فعالة للقضاء على جذور التطرف واستئصال شأفة الإرهاب الذى يشوه صورة الإسلام والمسلمين فى العالم.