إذا كان الأصل فى نظام الحكم الديمقراطى هو تمكين الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه باعتباره المالك الأصيل للسلطة دون منافس أو منازع فإن تحقيق هذه الغاية يستلزم توفير شرطين أساسيين؛ أولهما، مؤسسات وآليات للحكم الديمقراطى (برلمان ودستور، أحزاب سياسية، عمليات انتخابية وقوانين انتخابية) كفيلة بتمكين الشعب من أن يحكم نفسه بنفسه. وثانيهما، منظومة القيم الديمقراطية التى دونها يكون الحكم الديمقراطى شكلياً وخالياً من المضمون. ومن أهم هذه القيم: المواطنة المتساوية، أى أن يكون مبدأ المواطنة هو المبدأ الحاكم لإدارة الحكم الديمقراطى بحيث تنتفى كل عوامل التمييز بين المواطنين، إضافة إلى الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذه القيم لكى تتحقق فى حاجة إلى أن تتكامل مع تحقيق العدالة الشاملة أى العدالة بل أشكالها الأربعة: العدالة القانونية أى أن يتساوى كل المواطنين أمام القانون دون تمييز، أى أن تكون القوانين عامة ومجردة. ثم العدالة الاقتصادية، أى توزيع الثروة الوطنية بعدالة بين كل المواطنين بحيث يختفى كل شكل من أشكال احتكار الثروة، وأن تتقارب مستويات الدخول بين الأفراد وتتضاءل الفجوة بين الحد الأدنى والحد الأعلى للدخل، والعدالة الاجتماعية التى تعنى علمياً تحقيق الفرص المتكافئة والمتوازنة بين كل مكونات المجتمع سواء كانت مكونات دينية أو طائفية أو طبقية أو جهوية، ما يعنى ضمان التنوع والتعددية الثقافية- الاجتماعية فى المجتمع، ثم أخيراً العدالة السياسية، بمعنى أن يكون لكل مواطن حق متساوٍ فى السلطة السياسية، وإنهاء كل شكل من أشكال احتكار السلطة، والآلية المثلى لتحقيق هذه العدالة السياسية هى تداول السلطة بين مختلف القوى السياسية دون إقصاء ودون تمييز لأى طرف من أطراف العملية السياسية. هذا هو الأصل فى الحكم الديمقراطى وبتحديد أكثر فى نظام الديمقراطية الليبرالية التى اعتمدت مفهوم الإنابة السياسية أو التمثيل السياسى كوسيلة مثلى لحل إشكالية صعوبة بل واستحالة تنفيذ الحكم الديمقراطى المباشر، لكن هذا النظام واجه انحرافات كثيرة أبرزها التركيز على الشرط المؤسسى والآليات الديمقراطية وبالذات آلية الانتخابات التى جعلت من صندوق الاقتراع العامل الحاسم فى اختيار نواب وممثلى الشعب مع تجاهل يكاد يكون متعمداً للشرط الثانى أى شرط توفير القيم الديمقراطية. القصور لم يتوقف على ذلك بل أن آلية الانتخابات والاعتماد على صندوق الاقتراع فى اختيار نواب الشعب واجهت هى الأخرى تحديات هائلة أدت إلى تفريغ هذا النظام للحكم الديمقراطى من مضامينه الأساسية بسبب التحايل الذى يحدث فى تشويه هذه العملية وسيطرة المال والنفوذ السياسى على عملية الاقتراع الأمر الذى انحرف بهذا النظام من حكم الشعب إلى حكم الأقلية القادرة على احتكار الثروة والساعية إلى احتكار السلطة على نحو ما حدث فى مصر على مدى العقود الأربعة الماضية.
كان الأمل بعد نجاح المصريين فى تفجير ثورتين متتاليتين الأولى أسقطت حكم الاستبداد والفساد وطالبت بالعيش والحرية والعدالة والكرامة، والثانية أسقطت حكم الإخوان الإقصائي، أن نؤسس لحكم ديمقراطى حقيقى يمزج بين شرط توفير مؤسسات وآليات الحكم الديمقراطى وبين شرط توفير القيم الديمقراطية خصوصاً بعد النجاح فى إنجاز دستور رائع حرص على المزج بتوازن مبدع بين النظامين الرئاسى والبرلماني، وانتخاب رئيس أجمع عليه المصريون. فالاستحقاق الثالث فى «خريطة المستقبل» التى أعلنتها ثورة 30 يونيو أى انتخاب البرلمان (مجلس النواب) لم يجئ متناغماً مع الاستحقاقين الأول والثاني. بل جاء مشوهاً لجوهر الحكم الديمقراطى فى بعده الخاص بانتخاب البرلمان الذى لم يأخذ من الديمقراطية غير ما يعرف بـ «آلية الصندوق» التى تختزل كل العملية الديمقراطية فى العملية الانتخابية مجردة من أى ضمانات أو شروط تكفل لها تحقيق الغاية منها، وهى تمكين الشعب من أن يختار بحرية ونزاهة كاملتين من ينوبون عنه ويمثلونه فى حكم مصر.
فلكى تتحقق ديمقراطية الصندوق يجب أن تتوافر ثلاث حزم من الشروط؛ حزمة الشروط الأولى تتعلق بالآليات أى قانون الانتخابات وقانون تقسيم الدوائر، وإدارة عملية الاقتراع ذاتها، وحزمة الشروط الثانية تتعلق بالناخبين، أما الحزمة الثالثة فتتعلق بالمرشحين لعضوية البرلمان، ولكن للأسف لم تتوافر تلك الحزم الثلاث من الشروط بالشكل الذى يضمن نزاهة صندوق الاقتراع.فقانون الانتخابات ومعه قانون تقسيم الدوائر ضمنا معاً تزوير الانتخابات عملياً وقبل أن تبدأ بفرض نظام القائمة المغلقة ونظام الدوائر الواسعة الذى حال دون تعريف الناخبين بالمرشحين، وأعطى الفرصة سانحة للأثرياء وأصحاب النفوذ دون غيرهم للتفرد بعضوية البرلمان، وجاءت إدارة عملية الاقتراع لتكمل المساوئ سواء من ناحية تضييق فترة الدعاية الانتخابية أو من ناحية عدم التعامل مع الأمية باعتبارها واحدا من أشكال الإعاقة التى تفرض على رئيس اللجنة الانتخابية مساعدة من لا يعرف القراءة والكتابة فى اختيار من يريده من المرشحين، أما بالنسبة للشروط التى يجب أن تتوافر للناخبين فإنها كثيرة من أبرزها أن يكون الناخب واعياً تماماً بأنه ينتخب من ينوب عنه فى حكم مصر ومن يكون قادراً على القيام بالوظائف الأربع التى حددها الدستور؛ وهى التشريع، وإقرار السياسة الحكومية، وإقرار الموازنة العامة للدولة وأخيراً مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، وأن تكون لدى الناخب الفرصة للتعرف على المرشحين، والفرصة المتكافئة للمفاضلة بينهم دون إجبار وقهر ودون غواية ورشوة وتضليل. توفير هذا الشرط يبدو مستحيلاً فى دولة مثل مصر تصل فيها نسبة الأمية إلى ما يزيد على 26% ويعيش أكثر من 26 مليون مصرى تحت خط الفقر، كما أن 28 مليون مصرى يعيشون فى العشوائيات، وإذا أضفنا إليهم حياة البؤس فى قرى صعيد ودلتا مصر يمكن أن يصل هذا العدد إلى أكثر من 50 مليون مصري. هذه النسب تعنى أن العدد الأكبر من المصريين غير مؤهل عملياً للاختيار الحر والنزيه لنواب قادرين على تمثيله والدفاع عن مصالحه داخل البرلمان، ونسبة كبيرة منهم لديها الاستعداد لقبول الرشوة والوقوع فى مستنقع فساد المال السياسى الذى يشوه العملية الانتخابية فى مجملها.وبالنسبة للشروط التى يجب توافرها فى المرشحين لعضوية البرلمان فهى أيضاً كثيرة ومن أبرزها أن يكون لديه الاقتدار على أن يكون نائباً عن الشعب فى حكم مصر، وأن يتمتع بدرجة متوسطة على الأقل إن لم يكن بدرجة عالية من التعليم والثقافة، إلى جانب معايير أخرى تتجاوز ما تتضمنه صحيفة الحالة الجنائية من شروط، وألا يستخدم النفوذ أو السلطة أو المال لتضليل الناخبين، وأن تتوافر الفرصة المتكافئة لكل المرشحين فى الدعاية والتعرف على الناخبين. معظم هذه الشروط غابت عن صناديق الاقتراع وتفشى الفساد وسيطر المال السياسى بفجاجة غير مسبوقة على عملية الاقتراع، لكن الأهم أن أكثر من 75% من المصريين لم يشاركوا فى الانتخابات ما يعنى أن البرلمان الجديد لا يحظى بالحد الأدنى من الشروط الشكلية للحكم الديمقراطى ناهيك عن الغياب الكامل لمنظومة القيم الديمقراطية بكل ما يعنيه ذلك من سقوط لديمقراطية الصندوق ومعها آليات الحكم الليبرالى التى لم تعد تعنى غير حكم الأقلية التى تملك أكثر من غيرها سواء كان ما تملكه هو المال أو النفوذ والسلطة والقدرة الهائلة على الانحراف بمصر نحو المزيد من احتكار السلطة والثروة والنفوذ على حساب تجريف الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب صاحب الثروة وصاحب السلطة الحقيقى والشرعي، الأمر الذى بات يفرض ضرورة البحث عن صيغة ديمقراطية أخرى بديلة لديمقراطية الصناديق.