أقتبس عنوان هذا المقال مباشرة من إحدى العبارات التى وردت فى رسالة نقدية أرسلها لى بالبريد الإلكترونى الدكتور «على فرج» أستاذ الهندسة بجامعة لويزفيل فى الولايات المتحدة الأمريكية وهو قامة علمية شامخة ممن هاجروا من مصر منذ فترة طويلة، ولكنه أبدا لم يفقد اهتمامه الشديد بالأوضاع السياسية والثقافية فى مصر.
الدكتور «على فرج» إخوانى الهوى ولذلك دأب فى رسائله الإلكترونية التى كنت ومازلت أحتفل بها بالرغم من نقده الشديد أحيانا لبعض اجتهاداتى الفكرية أو آرائى السياسية على أن يدافع عن جماعة الإخوان المسلمين، ويعتبر أن ما حدث فى 30 يونيو كان انقلابا عسكريا وتمردا على الرئيس المنتخب الذى تم عزله بإرادة شعبية.
ولا تثريب عليه لو كان يؤمن بمبادئ الإخوان المسلمين أو يدافع عن مواقفهم السياسية، وإن كانت الموضوعية تجافيه أحيانا.
ولأن الدكتور «على فرج» أكاديمى رفيع المستوى فقد طرح علىّ بشكل منهجى مجموعة من الأسئلة النقدية وبعضها ملاحظاته حول ما سماه تذبذى الفكرى.
وأنا أريد أن أخصص مساحة المقال لعرض أفكاره وليس لتفنيدها بالضرورة، لأنه يعرض وجهة نظر جديرة بالمناقشة الموضوعية. سؤاله الأول أين هى الثورة الشعبية التى حدثت كما ذكرت فى كتاباتى- يوم 30 يونيو وكانت ضد جماعة الإخوان المسلمين بدعم جسور من الجيش. ولماذا انطفأت شعلتها فى مصر؟
وجوابى أن وصفى الدقيق لما حدث ليس ثورة شعبية بالمعنى الدقيق لكلمة الثورة ولكنه كان «انقلابا شعبيا» دعمته القوات المسلحة. وهذا الانقلاب الشعبى كان هدفه فى الواقع تصحيح مسار التاريخ واستعادة الدولة التى كادت تضيع فى ظل المشروع الإخوانى لإقامة خلافة إسلامية تصبح مصر فيها مجرد ولاية، والحفاظ على الهوية الوطنية المصرية من زحف الأوهام الأممية الإسلامية عليها.
وقد بدأت دولة 3 يوليو تنفيذ خارطة الطريق التى وعدت بها، فتم إصدار دستور جديد، ونظمت انتخابات رئاسية فاز فيها «السيسى» بمعدلات قياسية، وتم مؤخرا انتخاب مجلس نواب.
غير أنه -عكس ما ذكر الدكتور فرج- لم يحدث انطفاء لشعلة «الثورة» كما قال بل إنه حدثت عودة «للدولة التنموية»، بمعنى تولى الدولة عملية التنمية القومية تخطيطا وتنفيذا، مع عدم استبعاد القطاع الخاص بشرط أن يعمل تحت إشرافها ورقابتها.
ومما يؤكد ذلك تنفيذ مشروع قناة السويس فى زمن قياسى بعد أن تسابق ملايين المصريين على الاكتتاب فيه، وبداية مشروعات عملاقة أخرى للتنمية فى بور سعيد، ومشروع لزراعة مليون فدان، والاتفاق النهائى على إنجاز المفاعل النووى فى الضبعة.
هذه هى الخطوات الأولى والتى تتمثل فى عودة الدولة التنموية، غير أن ذلك لا يكفى لأنه لابد لباقى أطراف المعادلة السياسية أن تتجدد كما تجددت الدولة. وكما سبق أن اقترحت لابد من تجدد الأحزاب السياسية لتصبح أحزابا تنموية، وكذلك مؤسسات المجتمع المدنى، ولابد من التجدد المعرفى للنخبة السياسية وللنخبة الثقافية.
وليس معنى ذلك أنه ليست هناك سلبيات فى الممارسة السياسية بعد 30 يونيو. وأولى هذه السلبيات -والتى أشرنا إليها من قبل- هو غياب «الرؤية الاستراتيجية» للدولة والتى تعنى السياسات المتكاملة فى العشرين عاما القادمة وهذه الرؤية لا ينبغى أن تنفرد بها أجهزة الدولة أو حزب سياسى حاكم، بل لابد أن يوضع مشروع مبدئى يصوغه خبراء فى جميع التخصصات، ثم يعرض على «حوار مجتمعى» واسع المدى والاستفادة من الانتقادات الموضوعية للرؤية فى إعادة صياغتها. وفى ضوء هذه الرؤية ترسم «خرائط تنموية» فى كل الميادين الرئيسية كالتعليم والبحث العلمى والصحة والطاقة والثقافة.
ويبدو أن الدكتور «فرج» لم يتابع كتاباتى بشكل دقيق، لأنه قال إنه لم يسمع لى رأيا فى العاصمة الإدارية المقترحة. مع أننى كتبت بكل وضوح مقالا فى الأهرام بتاريخ 2 أبريل 2015 عنوانه «مناظرة فى غيبة خريطة تنموية شاملة» قلت فيه إن مشروع قناة السويس عليه إجماع شعبى، فى حين أن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ليس عليه إجماع، وكان ينبغى قبل طرحه وتنفيذه طرحه على حوار مجتمعى.
ويتساءل الدكتور «فرج» هل الحفاظ على الدولة الوطنية هو نهاية حلمى، هذا الحفاظ الذى قام به حكم العسكر؟
والواقع أن كتاباتى كلها تشرح تصوراتى الأساسية، وأهمها على الإطلاق الحفاظ على الدولة الوطنية، لأنه إن انهارت الدولة - كما حدث فى ليبيا وسوريا واليمن والعراق- فليس هناك أمل فى أى مستقبل لمصر. غير أننى -وليسمح لى الدكتور فرج- لا أوافق إطلاقا على وصف الحكم الوطنى المصرى بعد 30 يونيو أنه حكم «العسكر»، فهذا وصف إخوانى مغرض يحاول أن ينال من الدور الوطنى للقوات المسلحة المصرية والتى هى درع الوطن وسيفه، والتى حاربت معارك مصر جميعا ودافعت عن حياضها. وأطلب منه أن يشاهد البرامج الإخوانية الهزيلة التى تذاع من تركيا وغيرها والتى تهاجم القوات المسلحة المصرية وتنفى بطولاتها التى سجلها التاريخ، وتحاول أن تنال من سمعتها العالمية، لأن جماعة الإخوان المسلمين التى سقطت بامتياز فى حكم مصر ومنيت بالفشل السياسى الذريع تعرف جيدا أنه لولا القوات المسلحة المصرية التى قاومت مشاريعها غير الوطنية لظلوا فى الحكم إلى الأبد، واستطاعوا تنفيذ مخططهم الاستراتيجى فى «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع». وأنا إذ أحيى الدكتور «فرج» على شعوره الوطنى الدافق وإدانته المطلقة للإرهاب بكل صوره سواء فى سيناء أو فى الوادى، فإننى أشاركه الرأى تماما فى أن أمر التنمية أعقد من أن تتولاه بمفردها القوات المسلحة مهما كانت إمكاناتها.
مصر- كما قال الدكتور «فرج» بحق فى حاجة إلى ثورة شعبية بعد تصحيح مسار التاريخ مضمونها كما قال تعمر سيناء بالاكتتاب.. تضحى فى أمر التعليم وتكتتب لبناء المدارس ولمحو الدروس الخصوصية كثقافة... تخلص فى العمل أيا كان هو... وتتراحم مع سائر أبناء الوطن.. وتعمق نهج التطوع وتأخذ هدنة فى أمر السياسة. ليرضى الناس بعقد من الزمان به شراكة حقيقية فى الحقوق والواجبات، فى العمل بلا هوية ولا إيديولوجية، ليتوافق الناس على ألا ضرر ولا ضرار وأن الأمن للجميع تحت مظلة القانون.. لتقام التجمعات القومية التى تتفانى فى نطاقه الحدائق العامة، تساعد رجال الإطفاء، تساعد الشرطة على حفظ النظام.. نحن نريد للناس أن تحس بالتملك فى شأن الوطن.. هذه مبادئ ليست إيديولوجية فلا أراها محل خلاف.. البحث إذن يصير عن أداء تفجير هذه الثورة.
وأنا أريد أن أهنئ الدكتور «على فرج» على دعوته البالغة الأهمية، وعلى عباراته المضيئة، لأن القيادة السياسية مهما كانت قدراتها لا تستطيع أن تعمل بغير ظهير شعبى إيجابى وفعال، ومستعد للتضحية فى سبيل مستقبل الأجيال القادمة.
أما عن المصالحة الوطنية التى يدعو لها الدكتور «فرج» ويعرفها بأنها مصالحة مصر مع ذاتها فهى تحتاج إلى مناقشة واسعة أرجو أن نتابعها فى المقالات القادمة.