انتهت عملية انتخاب مجلس النواب المصرى بكل ما لها وما عليها، ولا يبقى لنا الآن، بعد كل ما حدث، إلا أن نبحث عن أمل فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد كل الانحراف الذى حدث بالعملية الأهم التى كان من المفترض أن يختار الشعب، الذى أبهر العالم بثورتين عظيمتين أسقطتا نظامين من أسوأ نظم الحكم فى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر (نظام مبارك الفاسد والمستبد ونظام الإخوان الإقصائى والمدمر)، نوابه أو وكلاءه فى حكم مصر، فإذا بالعملية تتحول إلى «بورصة» بكل معنى الكلمة لعب فيها المال السياسى جنباً إلى جنب مع عوامل أخرى كثيرة الدور الأساسى فى المجىء بنواب وفق معايير ليست لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد بـ «الإنابة السياسية» أى اختيار الأكفأ والأكثر ائتماناً وثقة لينوبوا عن الشعب فى أن يحكم نفسه بنفسه عبر هؤلاء النواب.
قد يكون التعمق فى فهم أسباب النكسة، التى قد يراها، آخرون انتصاراً يستوجب الفرحة والانشراح، واجباً ضرورياً ولازماً لامتلاك القدرة على تقديم رؤى جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وأستطيع، من وجهة نظرى الشخصية، أن أقدم أربعة أسباب أساسية أراها مسئولة عن الانحراف الذى حدث فى انتخاب مجلس النواب، وأقدمها متدرجة، ليس حسب أهميتها ولكن حسب أولويتها فى سلم تدرج أسباب الانحراف.
أول هذه الأسباب غياب الأحزاب السياسية عن المشهد السياسى المصرى بدرجة مثيرة للفزع. هذا الغياب لم يحدث بسبب الثورتين وتدنى دور الأحزاب فى هاتين الثورتين، حيث لعبت الطلائع الشبابية الدور المفجر والمعجل، ثم جاء الدور الأساسى للجماهير ليحول الانتفاضة إلى ثورة حقيقية. غياب الأحزاب سبق ثورة 25 يناير بسنوات، ونستطيع أن نتذكر معاً كيف كان حال كل الأحزاب، سواء كانت أيديولوجية أو غير أيديولوجية، يسارية أو محافظة ويمينية، وكيف كان دورها باهتاً وشكلياً فى التصدى لانحرافات نظام مبارك خصوصاً مع ظهور أول ملامح دعوة التوريث عام 2004، وكيف عجزت هذه الأحزاب عن تنظيم مظاهرة واحدة ضد هذا الانحراف، بل أحدها وصل به تدنى الأداء إلى درجة استجداء وزير الداخلية حبيب العادلى للموافقة على تنظيم مظاهرة فى استاد القاهرة، وكيف كان الصمت أمام الرفض المطلق للوزير. وكيف كانت مواقف الأحزاب عندما رفضت دعوة تعديل المادة 76 من الدستور وكان موقفها أن التعديل يأتى «بعد انتخاب الرئيس»، وليس «بعد الانتخابات الرئاسية»، عام 2005، أى أنها كانت مع التمديد لحسنى مبارك أولاً وبعدها يأتى دعوة إصلاح الدستور.
ثانى هذه الأسباب، الدور السلبى للنظام الحاكم فى إدارة عملية الانتخابات وبالذات بالنسبة لقانون الانتخابات ومعه قانون تقسيم الدوائر. فهاجس إخلاء البرلمان من الإخوان يبدو أنه كان هاجساً مسيطراً أدى إلى إقرار قانون انتخابى إقصائى اعتمد القائمة المغلقة غير العادلة واكتملت المأساة بفرض آلية الدوائر الانتخابية الواسعة التى أعطت لرجال الأعمال وللمال السياسى وللحزب الوطنى ولأجهزة الأمن أن يكون لها اليد الطولى فى اختيار النواب الجدد.
ثالث هذه الأسباب كان العزوف الشعبى غير المسبوق عن المشاركة فى عملية الانتخابات، فلأسباب متعددة رفض 75% من المصريين أن يشاركوا فى الانتخابات. هناك من رفض لأنه يائس من إمكان الإصلاح بعد كل ما حدث من تجاوزات وإحباط منذ 30 يونيو 2013، وهناك من رفض لأنه بائس انعدمت عنده دافعية المشاركة بعد مسيرة طويلة من الإحباط فى إصلاح الأوضاع المعيشية وتحقيق العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء وتشغيل العاطلين، وهناك من رفضوا المشاركة لأنهم يريدون إفشال العملية كلها ويهدفون إلى إسقاط النظام سواء كانوا من جماعة الإخوان أو من السلفيين الذين هجروا حزب النور وباتوا أقرب إلى الإخوان أو إلى السلفية الجهادية التى امتهنت الإرهاب لإسقاط أنظمة الحكم العربية.
كل هؤلاء الذين عزفوا عن المشاركة مسئولون عن الفشل والانحراف الذى حدث فى انتخاب البرلمان، غيابهم أعطى الفرصة للمال السياسى ليشترى أصوات قطاع واسع من الفقراء والمعدمين أو منعدمى الضمير الوطني، وكانت النتيجة هى ما حدث. لو أن الـ 75% من المصريين الذين رفضوا المشاركة فى الانتخابات، أو نسبة كبيرة منهم قد قبلوا بالمشاركة لتمت محاصرة هجمة المال السياسى لإفساد الانتخابات، ولتمت محاصرة أدوار سماسرة الانتخابات الذين حولوا عملية الاقتراع إلى «بورصة أموال فاسدة» تتجه نحو من يدفع أكثر.
أما السبب الرابع والأخير فهو فساد النخبة المثقفة والإعلامية التى إما أنها تواطأت أو أنها عجزت فى التصدى المبكر للانحراف، ابتداءً من قانون الانتخابات وامتداداً إلى سلبية دور الأحزاب، ولكن الأهم أنها فشلت فى خوض معركة حقيقية ضد المال السياسى وسماسرة الانتخابات، وكان الصمت والسلبية هما العامل المشترك فى أداء كل هؤلاء..
والنتيجة أننا أصبحنا أمام برلمان مفكك ليست فيه قوة سياسية مسيطرة أو محددة المعالم. فليس هناك حزب يمثل الحكومة، أو حزب له أغلبية، وليست هناك معارضة سياسية محددة المعالم، وليست هناك مشروعات سياسية متنافسة ولا رؤى للنهوض، بل هناك من يروجون مبكراً لتعديل الدستور لصالح السلطة التنفيذية، وهناك من يرون أن دورهم أن يكونوا ظهيراً داعماً للسلطة التنفيذية، متخلين طواعية عن الوظائف الدستورية المحددة للبرلمان خاصة وظيفتى التشريع والرقابة والمحاسبة للسلطة التنفيذية. إذا أضفنا إلى ذلك وجود نسبة عالية من الأعضاء السابقين بالحزب الوطني، ونسبة كبيرة من نواب جرى شراؤهم من أحزاب سياسية ورجال أعمال يملكون هذه الأحزاب، فإن المأساة سوف تتضاعف مع وجود دعوة لاتخاذ موقف سلبى من جانب المجلس بالنسبة للقرارات الرئاسية بقوانين التى أقرها الرئيس السابق المستشار عدلى منصور ومن بعده الرئيس عبد الفتاح السيسى فى غيبة البرلمان، وهذا الموقف السلبى يتأرجح بين إما رؤية أنه لا لزوم لعرض هذه القوانين التى تتجاوز الـ400 قانون على المجلس وبين إقرارها جميعاً فى جلسة واحدة إرضاءً للرئيس أو للحكومة.
كيف يمكن والحال هذه إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
السؤال مهم وهو أن يعود الشعب بقواه السياسية وأحزابه ومنظمات المجتمع المدنى كطرف فى المعادلة السياسية، ووضع البرلمان تحت المجهر، وتشكيل قوى ضاغطة تحاصر أى محاولة للمهادنة أو للتقصير داخل البرلمان. فإذا كان الدستور قد أعطى للبرلمان واجب وحق مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية فإن الشعب بقواه الحيّة كلها، يجب أن يكون لديه الواجب والحق فى مراقبة ومحاسبة الحكومة والبرلمان معاً، وهذا يمكن أن يحدث عن طريق تطوير وتحديث أدوار الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى واستحداث جماعات ضغط متخصصة فى متابعة أداء البرلمان لدفعه للقيام بوظائفه الدستورية فى التشريع والرقابة والمحاسبة للسلطة التنفيذية، عندها سيكون الشعب طرفاً مباشراً فى تقرير ما ينبغى أن تقوم به الحكومة وما يجب أن يقوم به البرلمان، وهذه هى أول معالم ما بات يُعرف الآن بـ «الديمقراطية التشاركية» التى تهدف إلى إصلاح الخلل المزمن فى نموذج «الديمقراطية الليبرالية» التى انعدمت فيها المشاركة الشعبية وتحولت إلى حكم الأقلية المتسلطة بالمال. عندما يحدث ذلك سيكون الشعب قد استطاع إصلاح ما أفسده بعزوفه عن المشاركة فى الانتخابات البرلمانية، والمجىء ببرلمان قوى وقادر على أن يقود الدولة فى الاتجاه الذى يريده الشعب ويأمله.