المشهد العربى- الإقليمى يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم. وما أعنيه هنا بالمشهد العربي- الإقليمى هو ذلك التداخل غير المسبوق بين التطورات العربية الساخنة خاصة فى سوريا والعراق وليبيا واليمن، وبدرجة أقل فى لبنان وبين أدوار القوى الإقليمية الشرق أوسطية الكبرى الثلاث المتصارعة على الزعامة والنفوذ الإقليمي: إيران وتركيا وإسرائيل، وكيف أن هذه القوى الإقليمية الثلاث باتت أكثر انغماساً فى تلك التطورات والصراعات العربية، وكيف أنها أضحت صاحبة كلمة وقرار فى هذه الصراعات العربية أكثر من أى دولة عربية، وكيف تحولت هذه الصراعات العربية إلى أحداث محورية فى تقرير مستقبل نفوذ كل من هذه القوى الثلاث. وفى تصورى أن السؤال الذى يشغل صانعى القرار السياسي- الإستراتيجى فى هذه الدول الثلاث هو: كيف تخرج كل منها بأعلى قدر من المكاسب وأقل قدر من الخسائر من خلال انغماسها فى تفاعلات تلك الصراعات العربية.
لو أخذنا إسرائيل كحالة للدراسة والتحليل فسنجد العقل الإستراتيجى مشغولاً إلى جانب انشغاله بالحصول على إجابة مأمونة للسؤال السابق بأمر آخر لا يقل أهمية له ثلاثة أبعاد أولها تأمين التفوق العسكرى الإستراتيجى الإسرائيلى المطلق على كل القوى المجاورة عربية كانت أم إقليمية. وثانيها، تأمين ظهير دولى قوى قادر على توفير الضمانات الكافية للتفوق الإسرائيلى مع الأخذ فى الاعتبار كل ما يحدث من تطورات فى توازنات القوى الدولية وأدوارها المتحولة. وهنا يجئ تأكيد حتمية عدم التفريط بأى حال من الأحوال بالعلاقة فوق الإستراتيجية أو الاستثنائية التى تربط إسرائيل بالولايات المتحدة على الرغم من تراجع الدور والنفوذ الأمريكيين فى إدارة الصراعات الدولية، مع حرص على كسب صداقة والتحالف مع القوة الدولية الصاعدة والمنافسة بقوة للنفوذ الأمريكى خاصة فى إقليم الشرق الأوسط أى روسيا الاتحادية. أما البعد الثالث، فهو الحرص على تجديد حيوية الوظيفة التاريخية لدولة إسرائيل بالنسبة للعالم الغربى كله، ثم وهو الأهم ابتداع وظيفة إقليمية لإسرائيل تأخذ فى اعتبارها ما حدث وما يحدث من تحولات فى إدراك دول وأطراف عربية لإسرائيل باعتبارها حليفا محتملا بعد أن كانت عدواً مؤكداً، وهى تحولات حدثت وتحدث نتيجة التفكيك الذى جرى على مدى العقود الثلاثة الماضية فى علاقة دول عربية بالقضية الفلسطينية التى لم تعد محدداً محورياً، أو لم تعد المحدد المحورى أو الوحيد فى علاقة دول عربية بإسرائيل على نحو ما كان فى السابق عندما كانت هذه القضية الفلسطينية هى قضية العرب المركزية.
هذه الاهتمامات الثلاثة تعمل جنباً إلى جنب مع الانشغال الإسرائيلى بالإجابة عن السؤال الشاغل والأهم الخاص بالحصول على أعلى مكاسب وأدنى خسائر من تطورات ما يدور على أرض العرب من صراعات مشتعلة وبالذات الصراع الدائر فى سوريا. وهنا نجد الإسرائيليين مشغولين بثلاث قضايا محورية: القضية الأولى هى الانتشار العسكرى الروسى المكثف فى سوريا فى ظل العزوف الأمريكى عن أى تورط عسكرى جديد فى العراق أو سوريا، وما يعنيه هذا الانتشار العسكرى الروسى من تداعيات تخص مستقبل سوريا من ناحية، بمعني: أى سوريا ستنشأ فى ظل كل هذا الانتشار العسكرى الروسي. وما هى التحالفات التى ستنشأ نتيجة هذا الانتشار، وبالذات التحالف الروسي- الإيراني، والصراع الروسي- التركي، واحتمالات التمدد الروسى فى العراق رداً على التورط التركى فى شمال العراق؟
وكيف سينعكس كل ذلك على المكونات العرقية فى المنطقة وبالذات المكون السُنى وعلاقته بالمكون الشيعي، وعلى الدول الداعمة لكل من هذين المكونين أى ما يسميه الإسرائيليون «العرب السُنة» خاصة السعودية ودول الخليج و«العرب الشيعة» فى العراق وسوريا ولبنان، ومستقبل العلاقة بين هذين المحورين أي: العرب السُنة والعرب الشيعة؟ وكيف سيؤثر هذا كله على مصالح وأمن إسرائيل من ناحية وعلى تحالفات إسرائيل الإقليمية من ناحية أخري؟
أما القضية الثانية فهي، وكما كتب المعلق الإسرائيلى «يعقوب عميدور» فهى زيادة كثافة الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا وتمدد نفوذ «حزب الله» على الأراضى السورية تحت المظلة العسكرية الروسية. فإسرائيل تخشى من توجه إيرانى مسنود من حزب الله لتأسيس جبهة قتال ضد إسرائيل فى الجولان المحتل، وتخشى من استفادة مقاتلى حزب الله من خبرة القتال فى سوريا، وانعكاسات ذلك على توازن القوى على جبهة الصراع فى جنوب لبنان، لكن الأهم هو خطر تحول إيران إلى جار ملاصق لإسرائيل على الأرض السورية، وانعكاسات ذلك على الأمن والمصالح الإسرائيلية.
أما القضية الثالثة فهى خطر تفكك سوريا كاحتمال وارد للصراع الدائر على الأرض السورية. وهنا يخشى الإسرائيليون من نزوح الملايين من الكتلة السكانية السُنية، ومن ثم تفوق الكتلة العلوية فى سوريا وما يعنيه ذلك على مستقبل النظام السياسى السورى. كما يخشى الإسرائيليون من احتمال ظهور دويلات تسيطر عليها جماعات إسلامية متطرفة، إذا ما سقط نظام بشار الأسد.
هذه القضايا الثلاث تثير مخاوف إسرائيلية مكثفة أول هذه المخاوف ما يسمونه «فراغ القوة» الناشئ عن الغياب الأمريكى الإرادى فى ظل تشبث الرئيس الأمريكى أوباما بعدم التورط عسكرياً فى سوريا أو العراق والاكتفاء بتقديم الدعم العسكرى للحلفاء والتعويل على الضربات الجوية لتنظيم «داعش». فراغ القوة هذا يغري، ومن وجهة نظر الإسرائيليين، من فى مقدوره أن يملأه بأن يتقدم. وهم هنا يرون أن روسيا هى الطرف الدولى المهيأ لذلك، ومن ثم يحرصون على التنسيق العسكرى مع روسيا، والرهان على روسيا كحليف محتمل مع تراجع دور ونفوذ الحليف الأمريكي، وبهدف محاولة احتواء التحالف الإيراني- الروسى وتقليل مخاطره على إسرائيل.
التخوف الثانى هو فرص تأسيس تحالف إستراتيجى إيراني- روسى وهنا يراهن الإسرائيليون على تنافس محتمل بين إيران وروسيا على النفوذ فى سوريا فى ظل إدراك تباعد المصالح المستقبلية وخشية الإيرانيين من أن يئول نفوذهم فى سوريا إلى روسيا.
أما التخوف الثالث، فهو من تأسيس محور لعرب الشيعة تقوده إيران وروسيا، وهنا يأتى التوجه الإسرائيلى نحو خلق محور منافس لعرب السُنة تقوده إسرائيل وتدعمه الولايات المتحدة، وهو الطموح الإسرائيلى القديم الذى يرجع تاريخه إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، عندما وقفت مصر والسعودية حملتا إيران وحزب الله مسئولية تلك الحرب عندها جاءت دعوة وزيرة الخارجية الإسرائيلية حينئذ تسيبى ليفنى بأنه «آن الأوان لتكون إسرائيل عضواً فى الحلف السُني» لمواجهة المحور الشيعى الذى سبق أن حذر منه الملك الأردنى عبد الله بن الحسين.
الآن يتزعم كل من موشى يعلون وزير الدفاع الإسرائيلى واسحق هيرتزوج زعيم المعارضة الإسرائيلية (زعيم تكتل ما يسمى «المعسكر الصهيونى») الدعوة إلى «تشكيل حلف مشابه لحلف شمال الأطلسى (الناتو) بين إسرائيل والدول العربية السُنية المعتدلة فى موقفها من إسرائيل لمواجهة تحالف العرب الشيعة الذى تقوده إيران وروسيا».
هذه الدعوة يراها الإسرائيليون فرصة لتجديد الوظيفة التاريخية لإسرائيل على المستوى الإقليمي. حيث تطرح إسرائيل نفسها كقوة إقليمية عظمى قادرة على حماية الدول العربية الحليفة ضد الأعداء الجدد ـ أى «العرب الشيعة» المدعومين من إيران وروسيا.
أين مصر من هذا التفكير الشيطانى؟!!