على الرغم من كثافة التحديات والهموم الداخلية المصرية، التى لم تعد مقتصرة فقط على ثنائية: الأمن والاقتصاد وامتدت إلى زعزعة الوفاق السياسى الوطني، فإن مصر ليس بمقدورها أن تنأى بنفسها عن كل ما يموج بواقعنا العربى والإقليمى من تطورات شديدة الخطورة من أبرزها تلك الموجة غير المسبوقة من تشكيل التحالفات العسكرية متنوعة الأطراف ومتباينة الأهداف، إضافة إلى ما أخذ يفرض نفسه من فرص تستهدف تسوية أبرز الأزمات العربية والإقليمية المعاصرة ابتداءً من الأزمة السورية، والحرب فى العراق ضد تنظيم «داعش» وامتداداً إلى الصراع الدائر فى اليمن وليبيا إضافة إلى طموحات حل أزمة الرئاسة اللبنانية بتوافقات لم تكتمل بعد بين السعودية وإيران، وربما تظل آمالها معلقة باحتمالات تسوية الأزمات الأخرى وفى مقدمتها بالطبع الأزمة السورية.
التحدى الذى نواجهه الآن لم يعد مجرد أن مصر أضحت مضطرة أو غير مضطرة للمشاركة فى أى من هذه الأحلاف، أو حتى تشكيل حلف بقيادتها تراه أكثر تعبيراً عما تريد تحقيقه من أهداف، ولكن الأمر بات يمس الدور المصرى العربى والإقليمي، الذى مازال هائماً أو غائماً ولم يعد ممكناً أن يبقى هكذا لأجل غير منظور، أى أن مصر مطالبة بأن تكون قوة فاعلة ومؤثرة، إن لم تكن قائدة، إما بدافع من تعظيم المكاسب المصرية وإما بهدف درء مخاطر قد تتعرض لها إذا ما جاءت تسوية تلك الأزمات على نحو لا يتوافق مع المصالح المصرية وهذا ما تحرص على القيام به ليس فقط إيران وتركيا وإسرائيل بل وتصارع من أجله قوى دولية كبرى خاصة الولايات المتحدة وروسيا.
فإذا كانت إيران وتركيا وإسرائيل تتنافس على الزعامة الإقليمية وكذلك تأمل المملكة العربية السعودية، أو على الأقل تتصدى لمحاولات بعض هذه القوى لفرض نفسها كزعامة إقليمية فإن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا تهدفان إلى فرض السيطرة على المنطقة كل بطريقتها ووفق مخططاتها.
وإذا كان الصراع الأبرز على الزعامة الإقليمية فى الشرق الأوسط يتركز بين إسرائيل التى تهدف إلى فرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة وإيران التى تتصدى لهذه المحاولة الإسرائيلية وتطرح نفسها كقوة إقليمية بديلة، فإن تركيا تقدم النموذج الأكثر ديناميكية ولكنه الأكثر تأرجحاً وتعرضاً للفشل، فهى أحياناً تكتفى بدور القوة الموازنة بين كل من إسرائيل وإيران، حيث تحرص على الجمع، بدرجة أو بأخري، بين صداقة البلدين، لكنها، فى أحيان أخرى ترى نفسها قوة إقليمية منافسة على الزعامة الإقليمية، ومن ثم تكون مضطرة للصدام مع إسرائيل وإيران أو التنسيق مع إحداهما فى مواجهة الأخري، مع حرص أشد على أن تقترب من العرب، وبالذات السعودية والدول الخليجية، وتقدم نفسها بصفتها حليفا إقليميا للعرب فى مواجهة أطماع إيران أو غطرسة إسرائيل.
الآن تركيا تواجه المأزق الصعب أكثر من غيرها وتحاول أن تقوم بأدوار تحالفية ضد روسيا وإيران فى سوريا ومن ثم وجدت نفسها مضطرة للتحالف مع الطرفين الإقليميين الآخرين المناوئين للدور الإيرانى فى سوريا والعراق أى إسرائيل والمملكة العربية السعودية، كما قررت أن تدخل إلى العراق لفرض نفسها كطرف إقليمى فاعل فى مستقبل العراق بدافع من أسباب كثيرة.
فتركيا قررت أن تدخل بقوات عسكرية إلى شمال العراق فى تحد سافر لإرادة الحكومة المركزية العراقية فى بغداد بعد فشل مشروعها السياسى فى سوريا سواء على المستوى العسكرى بعد أن نجحت روسيا بوضع حد للتدخل العسكرى التركى فى شمال سوريا وانحازت إلى الأكراد السوريين المناوئين للحكومة التركية والمتحالفين مع المعارضة الكردية التركية، وبعد فشلها السياسى أيضاً فى سوريا حيث استطاعت روسيا بالتعاون مع الولايات المتحدة عقد مؤتمر فيينا لتسوية الأزمة السورية وبمقررات لم تأت فى صالح المنظمات السورية المعارضة المدعومة من تركيا.
الدخول التركى إلى العراق فى الظروف التى استطاع العراق أن يحقق فيها نجاحات عسكرية ضد تنظيم «داعش» الإرهابى (تحرير مدينة الرمادى والاستعداد لتحرير مدينة الموصل) كان بهدف إثبات الوجود فى تقرير مستقبل العراق وتحالفاته الإقليمية، لكن ذلك لم يكن هروباً من الساحة السورية ولا تخلياً عن المشروع التركى الإقليمى ومن هنا جاء التوجه التركى نحو استعادة العلاقة أو التحالف المجمد مع إسرائيل منذ خمسة أعوام ونسج علاقة تحالف مع المملكة العربية السعودية ضمن مسعى تعميق الاستقطاب العربى على قاعدة «العرب السنة فى مواجهة العرب الشيعة».
لم يعط أردوغان وحكومته أهمية لشروطه المسبقة للعودة إلى إسرائيل منذ حادث الاعتداء الإسرائيلى على السفينة التركية «مرمرة» عام 2010 ضمن أسطول الحرية الذى كان يستهدف «فك الحصار الإسرائيلى» عن قطاع غزة لأنه فى حاجة مزدوجة للتحالف مجدداً مع إسرائيل ضارباً عرض الحائط بتحالفه مع الإخوان وحركة «حماس». الحاجة الأولى هى تأمين احتياجات تركيا من الغاز الإسرائيلى تحسباً لضغوط روسية محتملة فى توريد الغاز، وحرص تركى على تنويع مصادر الطاقة حتى لا تبقى تركيا رهينة للضغوط الروسية، أما الحاجة الثانية فهى إستراتيجية للتحالف مع إسرائيل ضد إيران ضمن المفهوم الإسرائيلى الداعى إلى تشكيل تحالف للعرب السنة تكون شريكة فيه لمواجهة تحالف «العرب الشيعة» الذى تعتقد أن إيران تقوده بالتحالف مع روسيا.
ولأسباب مشابهة اتجه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان نحو السعودية لتقوية الجبهة الإقليمية المناوئة لروسيا وإيران تحت غطاء «الحرب على الإرهاب» ومن هنا كان التجاوب التركى السريع للدعوة السعودية لتأسيس «حلف إسلامى» لمحاربة الإرهاب، ثم جاءت زيارته للمملكة (29- 30/12/2015) التى أسفرت عن تأسيس «مجلس تعاون إستراتيجي» مع السعودية لتعزيز التعاون العسكرى والأمنى والاقتصادى والاستثمارى بين البلدين، وهو مجلس يذكرنا بمجلسين سبق لأردوغان تزعم تأسيسهما مع سوريا ثم مع إيران وقت أن كان يأمل فى تأسيس تحالف رباعى يضم تركيا وإيران وسوريا والعراق قبل عام 2010. وهنا نلحظ مدى حرص أردوغان على العزف على نغمة الاستقطاب الإقليمى السنى- الشيعى وهو يتوجه لتجديد تحالفه مع إسرائيل وقبيل سفره بأيام قليلة للسعودية، حيث تعمد أن يطرح نفسه كحارس للبوابة السنية وحامى السُنة أمام سطوة الشيعة المدعومين من إيران. أين نحن من مثل هذه الترتيبات والمخططات والتجهيزات؟ كل الأطراف لها مشروعها ولها بوصلتها وتعرف ما تريد، ونحن أيضاً يجب أن يكون لنا مشروعنا ولنا بوصلتنا التى نحدد بها من هو العدو ومن هو الصديق وما هى مصادر تهديد مصالحنا وأمننا ومع من يجب أن نتحالف وضد من ولماذا وتحت مظلة أى أهداف، وهذا يعيدنا إلى أن نتساءل: ما هو الدور المصرى .. عربياً وإقليمياً؟.
وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة علينا أن نعرف أن الدور المصرى العربى والإقليمى الذى يجب أن نقوم به فى حاجة إلى ثلاثة مرتكزات: قدرات (عسكرية واقتصادية وبشرية)، رؤية إستراتيجية تعرف ما تريد وتمتلك بوصلة التحرك، وأخيراً الإرادة السياسية القادرة على اتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب، وهذه الإرادة لن تتحقق إلا فى ظل امتلاك مشروع وطنى مصرى يستعيد الأمل فى المستقبل ويجدد التلاحم بين الشعب وقيادته.