يتابع الإسرائيليون، بدأب، حال العرب، ويشعرون بسعادة غامرة لهول ما يرون من تدمير يحدث للقدرات الإستراتيجية العربية خاصة فى العراق ثم سوريا وليبيا وما يرون من تبديد للثروات العربية، لكن أهم ما يشغلهم من حال العرب هو انفراط عقد وتماسك النظام العربى والدول العربية، وكيف أخذ العداء العربى للكيان الصهيونى يتحول إلى صراعات عربية عربية، ثم إلى حروب داخل الدول العربية، وما يمكن أن يئول إليه حال هذه الدول خصوصاً مع تنامى الصراعات الطائفية والعرقية داخل بعض الدول العربية، وبين «عرب شيعة» مدعومين من إيران و«عرب سُنة» تقودهم السعودية، فى ظل خطر إرهاب سلفى تكفيرى فى مقدوره أن يدمر ما بقى من قدرات العرب. كما يشغلهم واقع «فراغ القوة الإقليمي» الناشئ عن الانسحاب التدريجى الأمريكى من إقليم الشرق الأوسط الذى كان يمثل الضمانة الأهم للدول العربية الحليفة والصديقة لواشنطن الذين باتوا يشعرون بفداحة الخطر من هذا الفراغ الذى من شأنه أن يفرض اختلالاً غير مسبوق فى توازن القوة بينهم وبين القوى الإقليمية الكبرى المتربصة بهم فى المنطقة ولا يجدون إجابة بينهم حول كيفية ملء فراغ القوة هذا الذى يشعرهم بالفزع.
يتابع الإسرائيليون هذا كله، واستطاعوا أن يخرجوا منه باستخلاص استراتيجى صاغه «موشى ارينز» وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق مفاده أن «الجبهة المعادية لإسرائيل، التى استمرت 60 سنة تتفكك اليوم. زعماء الدول العربية المهمة يكتشفون أن بينهم وبين إسرائيل مصالح مشتركة، وفكرة إقامة الدولة الفلسطينية قد تستمر بالحصول على تأييد واشنطن أو بروكسل (الاتحاد الأوروبي) أو الأمم المتحدة، أو حتى من المعارضة الإسرائيلية، لكنها تفقد التأييد فى قسم كبير من العالم العربي. يوجد لإسرائيل أعداء فى الشرق الأوسط، لكنها تحظى فى المقابل بأصدقاء، وقد يفضلون الالتقاء مع الإسرائيليين فى الأزقة الخلفية، عليكم أن تثقوا، أن لقاءات كهذه تحدث بشكل دائم وهى فى ازدياد».
هذا الاستنتاج ارتكز على مجموعة من الفرضيات المهمة:
أولى هذه الفرضيات، وعلى نحو ما كتب موشيه ارينز نفسه، أن «العداء العربى لإسرائيل كان عاملاً موحداً للعرب، فقد تغلب العرب، كما تغلب العالم الإسلامى أيضاً على الخلافات البينية بينهم، بسبب التوحد حول القضية الفسطينية».
ثانيتها، أن بروز تهديدات جديدة لا تستهدف فقط العلاقة بين الدول العربية، بل تستهدف أيضاً وحدة وتماسك الدولة الوطنية العربية بين مكوناتها الداخلية العرقية والدينية والمناطقية، وتورط بعض الفصائل الفلسطينية فى كثير من الصراعات العربية، وفى صراعات بينية فلسطينية فلسطينية أدى إلى «تداعى أولوية ومركزية القضية الفلسطينية فى النظام العربي، ومع هذا التداعى بدأ انفراط النظام العربى نفسه».
ثالثتها، إن ظهور أخطار وتهديدات من قوى إقليمية (إيران بالنسبة للبعض من العرب وتركيا بالنسبة للبعض الآخر، ناهيك عن ظهور الخطر الإثيوبى المائى بالنسبة لمصر والسودان)، أدى إلى مزيد من تراجع أولوية ومكانة القضية الفلسطينية، والأهم هو تراجع الخطر الذى تمثله إسرائيل، وتراجع مركزيته، بل إن بعض الدول العربية بدأت تنظر إلى إسرائيل كحليف محتمل ضد إيران، باعتبار أن إيران باتت تمثل خطراً مشتركاً لهم ولإسرائيل فى آن واحد. كما أخذ البعض الآخر ينظر إلى إسرائيل كحليف مؤكد أو محتمل ضد «الإرهاب الإسلامي».
رابعتها، إن إسرائيل هى من فى مقدوره أن يملأ «فراغ القوة الإقليمي» وأن تكون القوة الداعمة والحليفة للدول العربية السنية فى مواجهة إيران والدول العربية الشيعية، وأن هذا الاستقطاب الطائفى هو الضمان الأكبر للتداعى النهائى للقضية الفلسطينية وفرض إسرائيل كزعيمة أحادية للشرق الأوسط.
هذه الاستخلاصات الإستراتيجية والفرضيات المنبثقة عنها تكشف إلى أين وصل حال العرب، ومن أين بدأ الانفراط العربى بالتحديد، وكيف حدث تداعى النظام العربى وتماسكه، لكنها توضح لنا أيضاً من أين نبدأ معركة استعادة التماسك فى الوعى أولاً وفى القوة ثانياً كى نستطيع أن نتدبر من نحن؟ وماذا نريد؟ ومن هو العدو ومن هو الصديق، ومع من نتحالف؟ ومع من نتصارع؟ ولماذا.. وكيف؟
فلنعد إلى «مفتاح التحليل» الذى صاغ به موشى ارينز استنتاجه الاستراتيجى أو «التوجيه الاستراتيجي» الذى خاطب به العقل الاستراتيجى الإسرائيلى وهو أن «العداء العربى لإسرائيل والالتزام العربى بمركزية ومحورية القضية الفلسطينية كان العامل الأهم الموحد للعرب» وأن «التخلى العربى عن العداء لإسرائيل وعن مركزية القضية الفلسطينية كان المدخل والسبب الأهم لانفراطهم وتداعى تماسكهم وتوحدهم وتشرذمهم على النحو الذى باتوا عليه لا حول لهم ولا قوة، لدرجة أنهم لم يعد أمامهم من سبيل غير الاستقواء بعدوهم الذى تحول فى نظرهم إلى (الملاذ الآمن)، بعد أن انخرطوا فى صراعاتهم البينية واصطنعوا من بينهم أعداء لهم».
الاستخلاص الاستراتيجى الذى صاغه موشى ارينز هو ذاته القانون المركزى فى الفكر السياسى للزعيم جمال عبدالناصر الذى اعتبر أن هدف «تحرير فلسطين» هو الشرط الحاكم لتحقيق أهداف مشروع الثورة العربية: هدف الاستقلال والتحرر الوطنى والقومى وهدف تحقيق الوحدة العربية.
فقد أكد جمال عبدالناصر استحالة تحقيق أهداف الثورة العربية فى الحرية (الاستقلال الوطنى والقومي) والاشتراكية (بناء مجتمع الكفاية فى الإنتاج والعدالة فى توزيع الثروة الوطنية بين أبناء الشعب) والوحدة (بناء دولة الوحدة العربية التى تنهى المشروع الاستعمارى فى تقسيم وتجزئة الوطن العربي) دون تحرير فلسطين.
فالتحرر والاستقرار الوطنى والقومى سيبقى غير مكتمل دون استكمال تحرير الوطن الفلسطينى من الاستعمار الاستيطانى الصهيوني، والوحدة العربية لن تتحقق دون استكمال معركة التحرر الوطني، وبناء مجتمع الكفاية والعدل مستحيل أن يتحقق إلا باندماج القدرات الاقتصادية وكل أنواع القوة فى دولة عربية موحدة، وهكذا يبقى تحقيق هدف الاستقلال الوطنى مرتبطاً بتحرير فلسطين، ويبقى شرط تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى وتحقيق دولة العدالة بتحقيق الوحدة العربية،وتبقى الوحدة العربية متوقفة على نجاح العرب فى معركة التحرر والاستقلال. وهكذا ظل الكفاح من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة من منظور فكر جمال عبد الناصر كفاحاً من أجل تحرير فلسطين، وظل الكفاح من أجل تحرير فلسطين كفاحاً من اجل الحرية والاشتراكية والوحدة فى جدلية شديدة التماسك.
لقد وعى قادة الكيان الصهيونى هذه العلاقة مبكراً بين تحرير فلسطين ومشروع ثورة جمال عبدالناصر ومن هنا كان عداؤهم المبكر لهذه الثورة وهذا الزعيم، ولذلك أيضاً صمم ديفيد بن جوريون أبرز زعماء الكيان الصهيوني، وقت أن كان رئيساً لوزراء هذا الكيان، على غزو مصر فى سنة 1955 لتوسيع رقعة «إسرائيل» من ناحية، وتحجيم جمال عبد الناصر الذى كان يعتبره «أتاتورك العرب» من ناحية أخرى. وقال بن جوريون فيما بعد أمام الكنيست (البرلمان الصهيوني): «كنت أخشى دائماً قيام شخصية كتلك التى قامت بين العرب فى القرن السابع (صلاح الدين الأيوبي)، أو مثل كمال أتاتورك، الذى قاد تركيا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى.. ورفع معنويات الأتراك وحولهم إلى أمة مقاتلة.. لقد كان لا يزال هناك خطر أن يكون ناصر هو ذلك الرجل".