من عجائب هذه المرحلة، التى تمر بها مصر بعد ثورة 30 يونيو ونجاحها الفائق فى استرداد الدولة والمجتمع من المخططات التخريبية لجماعة الإخوان الإرهابية، أن الإعلام التقليدى المقروء والفضائى وأخطر منه «الفيس بوك» أدمن التركيز على ظاهر الأحداث، بدلاً من التعمق فى أسبابها وطرق مواجهتها.
وأبلغ دليل على ذلك الضجة الكبرى التى دارت حول التصريحات التى أطلقها دون أدنى مسئولية فى الإعلام المستشار «هشام جنينه» رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات حين زعم ـ ولا يعرف أحد إطلاقا كيف حسبها- أن الفساد فى عام 2015 وصلت قيمته إلى 600 مليار جنيه!
ولا يحتاج المواطن الحصيف -حتى ولو لم يكن خبيرا- أن يدرك أن هذا الرقم المهول لا أساس له، وأن وراء الإعلان فى الإعلام أسبابا أخرى!
غير أنه ـ بغض النظر عن كيف ستنتهى هذه المسألة
- فمما لا شك فيه أننا عانينا كثيراً فى مصر وعديد من بلاد ثورات الربيع العربى من
الفساد السياسى الذى انغمست فيه النخبة السياسية الحاكمة ونخبة رجال الأعمال، مما
أضر بالاقتصاد القومى من ناحية، وأثر على مستوى حياة الملايين من البشر الذين
عانوا من ويلات الفقر بحكم سوء توزيع الثروة.
ولذلك
وجدت أنه من الأجدى أن أقدم إطاراً نظرياً يمكن بتطبيقه الوصول بصورة علمية إلى
الأسباب الحقيقية للفساد، وذلك لابتداع الوسائل الفعالة لمواجهته.
وهذا الإطار ينقسم إلى أربعة أقسام، تقوم كلها على أساس ضرورة رسم خريطة معرفية متكاملة للمجتمع أياً كان متقدماً أو متخلفاً الذى نريد مواجهة ظاهرة الفساد السائدة فيه.
القسم الأول يدور حول أهمية تحديد بنية القوة
فى المجتمع، ونعنى القوة السياسية التى تحدد من هى الفئات المتحكمة فى مقاليد
الأمور، والتى تؤثر تأثيراً فعالاً على عملية صنع القرار. ومن ناحية أخرى ضرورة
دراسته بنية القوة الاقتصادية ونعنى فئة رجال الأعمال والمستثمرين الذى عادة ما
ينعقد حلف عضوى يجمع بينهم وبين أعضاء النخبة السياسية الحاكمة.
ولو
حللنا حالة مصر تحت حكم الرئيس السابق «مبارك» لأدركنا خطورة التحالف الذى حدث بين
النخبة الحاكمة ورجال الأعمال. فبناء على هذا التحالف الفاسد وجهت البنوك لتقديم
قروض بملايين الجنيهات لعدد محدود من رجال الأعمال بدعوى إقامة مشاريع منتجة دون
ضمانات حقيقية كما تفضى الأصول البنكية، وذلك لقاء عمولات مدفوعة لمن أصدر القرار
السياسى بالقرض ومديرى البنوك الذين وقعوا بالموافقة على القروض.
وليس
معنى ذلك أن رجال الأعمال هؤلاء لم يقيموا أى مشاريع، بل إن الغالبية العظمى منهم
أقاموا مشاريع منتجة بالفعل، ولكنهم امتنعوا عن سداد القروض الهائلة التى اقترضوها
سواء جشعاً أو نتيجة لسوء الإدارة.
وإذا أضفنا إلى ذلك صوراً مستحدثة من الفساد، كأن تبيع الحكومة آلاف الأفدنة للمستثمرين على أساس أنها أرض للاستصلاح الزراعى بثمن خمسمائة جنيه للفدان، غير أن المشترى يحولها إلى أرض بناء يقيم فيها المنتجعات السياحية ويبيع الفدان الواحد بما قيمته أربعة ملايين جنيه، لأدركنا حجم الفساد الكبير.
ولنا أن نتصور كم الأرباح الطائلة التى يجنيها المشترى والتى أعطى جزءاً منها لمن أصدر القرار من أعضاء النخبة الحاكمة، سواء كان سياسياً أو وزيراً فى الحكومة.
غير أنه لو ألقينا نظرة مقارنة على الفساد السياسى فى بلد متقدم مثل الولايات المتحدة الأمريكية لاكتشفنا أن كبار رجال الأعمال ومديرى الشركات الكبرى والبنوك الضخمة نجحوا فى إلغاء العقوبات التى تقضى بالحبس أو بالسجن عليهم نتيجة مخالفاتهم المهنية واستبدلوها بأحكام الغرامة حتى يتفادوا دخول السجن مثلهم فى ذلك مثل المجرمين من الأوساط المتوسطة والفقيرة.
لقد أثبت هذه الحقيقة علمياً عالم الإجرام الأمريكى «إدوين سذرلاند» الذى أصدر منذ أكثر من نصف قرن كتاباً شهيراً عنوانه «جرائم أصحاب الياقات البيضاء» While Collar crimes تصادف أننى أعددت عنه بحثاً فى بداية عملى كباحث فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1958.
ولذلك أدركت مبكراً خطورة ظاهرة التمييز فى تطبيق القانون، والتمييز فى هذا المجال بين الأغنياء والفقراء.
أما القسم الثانى من الإطار النظرى الذى اقترحه فيتعلق بتطبيق التحليل السوسيولوجى للمجتمع لكى نقيس ـ وفق مؤشرات كمية وكيفية- ظاهرة الظلم الاجتماعى لطبقات اجتماعية يعنيها، وتأثير ذلك على ما نسميه الرشوة الصغيرة السائدة بين صغار الموظفين الذين يتقاضون رواتب وأجوراً متدنية تدفعهم دفعاً إلى ممارسة السلوك المنحرف الخاصة باقتضاء الرشوة ممن يطلبون الخدمات الحكومية المتنوعة.
غير أن هذا التحليل الاجتماعى ينبغى أن يستكمل بتحليل ثقافى لكى ندرس نسق القيم السائد فى المجتمع، ونحلل صراع القيم بين القيم الإيجابية التى تحض على العمل والنزاهة والشرف، والقيم السلبية التى تبرر الانحراف استناداً إلى أسباب شتى منها الفقر وتدنى الرواتب.
وفى هذا المجال لابد أن نلتف إلى مفهوم أساسى
يفسر الظاهرة صكه بالفرنسية عالم الاجتماعى الفرنسى المعروف «إميل دوركايم» وهو
مفهوم «الأنومى» Anomie ويعنى بذلك الافتقار إلى قيم أخلاقية للحكم على
السلوك نظراً للاضطراب القيمى فى المجتمع.
وبتطبيق
هذا المفهوم نستطيع أن نضع أيدينا على المبررات التى يسوقها من يمارسون السلوك
المنحرف من أعضاء المجتمع، سواء كان ذلك رشوة بسيطة أو فساداً كبيراً.
ونصل
أخيراً إلى أهمية تطبيق مناهج علم الاجتماع القانونى، وهو العلم الذى ينظر للقانون
باعتباره نسقاً اجتماعياً يتفاعل مع باقى الأنساق السياسية والاقتصادية والقيمية.
وفى
ضوء بحوث هذا العلم نفهم كيف تصاغ القاعدة القانونية ومن هى «جماعات الضغط»
و«جماعات المصالح» التى تؤثر على صياغتها والقادرة على حماية مصالحها بالقانون، أو
من ناحية أخرى إفراغه من أى مضمون حقيقى لو أريد تطبيقه بشكل فعال لمواجهة السلوك
المنحرف.
من ناحية أخرى تفيدنا أبحاث هذا العلم فى فهم
عملية تطبيق القانون وهل تستطيع بعض فئات النخب السياسية أو الاقتصادية الإفلات من
تطبيق نصوصه وذلك باتباع وسائل شتى، سواء فى مرحلة صياغة القانون أو فى المراحل
الخاصة بالتحقيق أو المحاكمة.
ولو
أردنا الإيجاز لقلنا إن الحل يكمن فى تحقيق العدالة الاجتماعية من جانب، والتطبيق
الدقيق لمبدأ سيادة القانون من ناحية أخرى. غير أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا فى
مجتمع استطاع أن يؤلف تأليفاً خلاقاً بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية.