تعود خطة تفتيت العالم العربي وتحويل دوله إلى دويلات تقام على أسس عرقية أو مذهبية أو طائفية إلى خمسينات القرن الماضي حين خططت إسرائيل لذلك كما ثبت من المناقشات التي دارت في إحدى جلسات الحكومة الإسرائيلية عام 1950 والتي نشرت محضرها صحافية إيطالية لقيت مصرعها بعد ذلك في ظروف غامضة. واعتبرت الدولة الإسرائيلية أنه ضماناً لأمنها القومي لا بد من تفتيت العالم العربي حتى تمنع المحاولات التي كانت تبذل لتحقيق الوحدة العربية والتي كانت من المطالب الأساسية لتيار القومية العربية والذي كان في ذروة صعوده في تلك الفترة.
ولكن الأحداث المتلاحقة التي جرت في الشرق الأوسط وأبرزها الصدامات العنيفة بين الدولة الإسرائيلية والحركة النضالية الفلسطينية، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة بين إسرائيل والدول العربية والتي تمثلت في سلسلة من الحروب التي بدأت بمشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع بريطانيا وفرنسا كرد فعل على تأميم الزعيم جمال عبدالناصر لقناة السويس ثم حرب حزيران (يونيو) 1967 ضد مصر وسورية، والتي تبعتها حرب أكتوبر 1973، كل هذه الأحداث والحروب لم تسمح لإسرائيل بتنفيذ خطتها الاستراتيجية في تقسيم العالم العربي، وتفتيت دوله وتحويلها إلى دويلات.
غير أن الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر الدفاع عن إسرائيل جزءاً أساسياً من أمنها القومي، سواء كان الرئيس الأميركي ينتمي إلى الحزب الديموقراطي أو الجمهوري، هي التي تبنت تنفيذ هذه الخطة الإمبريالية.
وجاءت الفرصة للولايات المتحدة لتنفيذ هذه الخطة في صراعها ضد نظام صدام حسين بعد أن تعاونت معه في حربه ضد إيران. وبلغت ذروة هذا الصراع بعد أن قررت الولايات المتحدة، رغم رفض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، غزو العراق بزعم أنه يملك أسلحة دمار شامل.
وقامت الحرب الخاطفة التي أدت إلى هزيمة العراق في ساعات محدودة بحكم الفجوة العميقة في توازن القوى بين العراق والولايات المتحدة، ولأنها دارت تحت شعار «إحداث الصدمة وتحقيق الرعب» بحكم الكم الهائل من القنابل والصواريخ البعيدة المدى التي دكت المدن العراقية.
وكان الهدف المعلن للحرب هو تحطيم النظام العراقي وتحويله إلى نظام ديموقراطي يكون نموذجاً لباقي البلاد العربية!
غير أن القوات الأميركية الغازية والتي ظنت وهماً أنها ستقابل من الشعب العراقي بالورود واجهتها حركة مقاومة عراقية شرسة استطاعت أن تسقط مئات الجنود الأميركيين قتلى، والذين كان مشهد جنازاتهم في أميركا مؤشراً على الهزيمة الأميركية في العراق، رغم كل الجرائم المضادة للإنسانية التي ارتكبها الجيش الأميركي.
في إطار محاولة يائسة لتبرير الهزيمة الأميركية صرحت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية السابقة: «كانت استراتيجيتنا في غزو العراق صحيحة غير أننا ارتكبنا أخطاء تكتيكية لا حدود لها»!
وقد نقد هذه المقولة بطريقة منهجية دقيقة أنتوني كوردزمان الخبير الأميركي المرموق والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم العربي. وأهمية النقد الذي يوجهه كوردزمان أنه ما فتئ منذ الغزو الأميركي للعراق يلفت النظر إلى خطأ القرار الاستراتيجي للحرب، التي تتبعها خطوة خطوة، محذراً الإدارة الأميركية من المخاطر الحقيقية على أمنها. وكان كوردزمان قد نشر بحثاً في آذار (مارس) 2006 بعنوان «الحرب الطويلة: الجرح الذي أحدثناه بأنفسنا» ويعني الغزو الأميركي للعراق.
وقد لخص هذا المفكر الاستراتيجي الأميركي المرموق أسباب خطأ غزو العراق والذي تمثل في إصدار قرارات عدة غير موفقة اتخذتها الإدارة الأميركية.
ويمكن إيجاز تحليله النقدي في نقاط عدة. النقطة الأولى الخوض في حروب طويلة في مدى زمني قصير، وتبني حلول جزئية وغير مناسبة. والنقطة الثانية التقليل من المخاطر المحتملة والتضخيم من الفوائد المرجوة، وتجاهل آليات متعددة غير المواجهة العسكرية المباشرة، مثل الديبلوماسية والاحتواء والردع. والنقطة الثالثة أنه على الولايات المتحدة أن تحارب الحرب التي تريدها لا الحرب التي تواجهها، وغياب استراتيجية واقعية لإنهاء الصراع، وعدم وجود استراتيجية عليا.
والنقطة الرابعة هي تجاهل معدلات وطبيعة التوترات المدنية والصراعات العرقية والقبلية والاقتصادية ومسألة الحكم السليم.
والنقطة الخامسة هي الخلط بين مقاومة الإرهاب مع العمليات التي تهدف لفرض الاستقرار وعملية بناء الدولة من جديد. والنقطة السادسة إساءة تقدير حجم الموارد المطلوبة للحرب، والمبالغة في رد الفعل كلما طال الصراع وتعمقت الأزمة. والنقطة الأخيرة إنكار خطورة الموقف المتزايد أمام الكونغرس والشعب الأميركي.
وفي عام 2007 شهدنا إحياء لمشروع التخطيط الاستعماري لتفتيت الوطن العربي، ويؤكد ذلك مشروع القرار الذي أصدره الكونغرس بتقسيم العراق إلى ثلاث دول، ووافق على المشروع 75 عضواً في مقابل رفض 23 عضواً. غير أن هذا المشروع الذي تم التصويت عليه وإن كان غير ملزم، إلا أنه يمكن القول أنه - بلغة القانون- كاشف وليس منشئاً، وذلك لأنه كانت له مقدمات في الفكر الاستراتيجي الأميركي عقب الغزو الأميركي العسكري للعراق عام 2003.
ويلفت النظر بشدة أن هذا القرار بصدد تقسيم العراق عام 2007 تم إحياؤه هذه الأيام بالملامح نفسها التي ميزت الخطة الاستراتيجية الأميركية الأصيلة.
ويدل ذلك تقرير مهم نشرته جريدة «الحياة» في عددها الصادر في 29 كانون الثاني (يناير) 2016 في الصفحة الأولى بعنوان «الحرس الثوري الإيراني يكشف خطة أميركية لعراق جديد». وذكر التقرير «أفاد موقع تسنيم القريب من الحرس الثوري الإيراني أن مسؤولين أميركيين من الاستخبارات المركزية والخارجية ولجنة الأمن في الكونغرس التقوا مسؤولين عراقيين من كل الأطياف في أوقات مختلفة في لندن وأربيل وبغداد وعمان وأبلغوهم كما أبلغوا عواصم مؤثرة أن هناك عجزاً غير قابل للمعالجة إذا استمر الحكم العراقي على وضعه الحالي».
وإذا أردنا الإيجاز لقلنا أن الخطة – كما ورد في التقرير الذي أشرنا إليه- تتمثل في تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم: سني وشيعي وكردي في إطار فيديرالي بالإضافة إلى إقليم العاصمة الفيديرالية.
وتبدو خطورة هذه الخطة الإمبريالية في أنها المرحلة الأولى من مراحل التفتيت الكامل للوطن العربي. ولو تأملنا الأوضاع الب الغة التعقيد في سورية لأدركنا أن هناك خطة لم يعلن عنها بعد لتقسيم سورية، وهناك على المدى المتوسط خطط استراتيجية أخرى لتفتيت المملكة العربية السعودية، بل إن مصر نفسها وهي النموذج الأمثل لمجتمع مترابط ومستقر يتم التآمر أيضاً لتقسيمها سواء على أساس ديني بين المسلمين والأقباط، أو على أساس عرقي من خلال إثارة مشكلات النوبة من حين إلى آخر.
وهكذا يمكن القول أن العالم العربي بعد ثورات الربيع المزعومة لا يمر فقط بمرحلة إسقاط الدول، كما حدث في العراق وسورية وليبيا واليمن، ولكنه - أخطر من ذلك- معرض لمخاطر تقسيم الدول العربية المستقرة.
ومعنى ذلك أن خطة إقامة «شرق أوسط جديد» كما رددته من قبل الأوساط السياسية الإسرائيلية وبعض القيادات الأميركية يتم تنفيذها على مراحل للقضاء النهائي على الهوية القومية العربية. هذا هو التحدي الإمبريالي فكيف ستكون الاستجابة العربية؟