يكشف الصراع المتفاقم حالياً بين القوى الإقليمية المتنافسة على القيادة والسيطرة فى إدارة شئون إقليم الشرق الأوسط عن أننا بالفعل أمام معالم آخذة فى التراكم لتشكيل نظام إقليمى جديد سواء فى شكل وطبيعة الدول من ناحية الحفاظ على وحدة الدول القائمة أوتقسيمها، ومن ناحية هوية هذه الدول هل هى هويات سياسية أم طائفية ودينية وعرقية، أو من ناحية خرائط التحالفات وخرائط الصراعات بين هذه القوي.
وإذا كانت هذه المعالم سوف تحسمها مآلات الصراعات الإقليمية الساخنة وبالذات فى سوريا والعراق، بالتضامن مع المحددات الأربعة التى سبق أن تحدثنا عنها: الفراغ الإستراتيجى العربى والاندفاع الإيرانى لتبوء مكانة القوة الكبرى القادرة على المنافسة على القيادة الإقليمية خصوصاً بعد الفوز ببرنامجها النووى وإلغاء العقوبات الدولية المفروضة عليها، إضافة إلى الميل الأمريكى للانسحاب التدريجى من هموم المنطقة مقابل الاندفاع والتقدم المتسارع للنفوذ الروسى بها، فإن هناك عاملاً آخر للحسم بهذا الخصوص يتحدد فى طبيعة وخصوصية المشروع السياسى لكل من هذه القوى الإقليمية المتنافسة على الزعامة وبالذات من منظور رؤيتها لمصادر التهديد ذات الأولية. فإدراك كل من هذه القوى الأربع: إسرائيل وإيران وتركيا والسعودية لمصدر التهديد الأهم بالنسبة لمصالحها العليا وأمنها القومى ومشروعها السياسى الإقليمى هو الذى سيحدد التوجه الإستراتيجى لكل من هذه القوى وهو الذى سيتحكم فى أنماط تفاعلاتها.
فإسرائيل مشغولة، برغم تفوقها العسكرى المطلق المدعوم أمريكياً، بالحفاظ على وجودها وتأمين هذا الوجود. إسرائيل مسكونة، فى كل لحظة، بالخوف على هذا الوجود، الذى تدرك أنه استثنائى أو مؤقت، ولا يفارق عقلها الإستراتيجى الانشغال بالنبوءات التوراتية التى تتحدث عن «معركة نهاية الزمان»، التى ستخوضها الدولة اليهودية ضد أعدائها من الكفار (الدول العربية المجاورة)، وهى المعركة التى ترتهن بظهور السيد المسيح الذى سيخوض الحرب إلى جانب هذه الدولة اليهودية، وبعدها سيعم السلام أنحاء العالم لمدة ألف عام تقوم بعدها القيامة، حسب تلك النبوءات التوراتية. ولعل ذلك ما يدفع الإسرائيليين إلى الحرص على تأمين التفوق العسكرى المطلق بما فيه امتلاك السلاح النووى جنباً إلى جنب مع إستراتيجية استئصال الأعداء والتخلص من كل مصادر تهديد هذا الوجود ابتداءً من الشعب الفلسطينى وامتداداً إلى الدول العربية الكبرى وبالأخص مصر والعراق وسوريا، إلى احتواء هؤلاء الأعداء واستمالتهم بعد تدمير قدراتهم العسكرية وتفكيك وحدتهم الوطنية.
والآن بعد التدمير الكامل للعراق وما يحدث من تدمير ممنهج لسوريا وجيشها وقدراتها، وظهور الخطر الإرهابى الأصولى (السُني) متمثلاً فى تنظيمى «داعش» و«القاعدة» وتفشى الصراع الطائفى السُني- الشيعى بين دول المنطقة، يرى الإسرائيليون أن الخطر الوجودى الذى يتهدد إسرائيل هو أولاً إيران والتحالف الذى تقوده للعرب الشيعة، وتنظيم «داعش» الذى يمكن أن يمتد إلى العمق «الإسرائيلي» والشعب الفلسطينى.
هناك انقسامات بين قادة إسرائيل حول ترتيب أولوية هذه المصادر الثلاثة الكبرى للتهديد: إيران ومعها حزب الله، أم تنظيم «داعش» أم الخطر الفلسطينى الداخلي، لكن فى كل الأحوال تحظى إيران ومعها «حزب الله» بكل الأولوية للإدراك الإسرائيلى بأن إيران، وفق أيديولوجية الجمهورية الإسلامية، هى «الخطر الوجودى الحقيقي» فهى لا تعترف بوجود دولة إسرائيل، وإذا لم تكن تطالب بإزالتها، فإنها تروج تكتيكياً، لمقولة أن «زوال إسرائيل حتمية تاريخية» لكن هذا لا يعنى تغييب أو تجاهل وجود مصادر تهديد عربية مازالت محتملة وهنا تبرز مصر، برغم كل التزاماتها بمعاهدة السلام، كمصدر محتمل للتهديد.
هذا الإدراك تؤكده العديد من الدراسات الإسرائيلية المهمة، التى ترى أن مصر «لا تزال فى مقدمة الدول العربية التى تمثل خطراً على وجود الدولة العبرية» تبحث معظم هذه الدراسات عن إجابة لسؤال: «عندما ينهار السلام مع مصر» من أبرزها دراسة الدكتور «إيهود عيلام» الباحث الإسرائيلى الذى عمل سابقاً فى وزارة الدفاع والمقيم حالياً فى أمريكا الذى نشر كتاباً بعنوان «الحرب القادمة بين إسرائيل ومصر» يرتكز على فرضية أساسية مفادها أن «العلاقات مع مصر، مهما كانت جيدة، يمكنها أن تتدهور إلى مواجهة، ربما بسرعة أيضاً، وصدام كهذا قد يكون محدوداً، ولكن لا يزال ضرورياً الاستعداد لمواجهته، وفى ضوء واقع أن مصر تملك أقوى جيش عربي، ينبغى التعامل معها وفق قدراتها العسكرية، وليس فقط وفق السياق الحالى معها، مهما كان إيجابياً».
التوجس نحو مصر مستمر ولن يتغير طالما ظل جيش مصر قوياً وطالما ظلت مصر دولة متماسكة، ومع ذلك يعطى الإسرائيليون أولوية للتحالف مع «الدول العربية السنية» المعتدلة، بقدر اهتمامهم بتأجيج الصراع والاستقطاب الطائفى السنى الشيعى والطموح لخلق جبهة تحالف تضم إسرائيل والدول العربية السنية المعتدلة، ضد إيران والدول والمنظمات العربية الشيعية. باعتبارها مصدر الخطر والتهديد الرئيسى دون تجاهل ما يمثله تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات الجهادية السنية، وقد حسم موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلى أمر أولوية الخطر الإيرانى أم «الداعشي» بقوله أمام مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومى أن «داعش أفضل بالنسبة إلى إسرائيل من إيران»، وأوضح أن إسرائيل «ترفض أى سيطرة أو نفوذ إيرانى فى سوريا»، وأن إسرائيل «إذا أرادت الاختيار بين سيطرة إيران أو داعش على الحدود السورية فهى تفضل أن تكون إيران بعيدة عن تلك الحدود».
إذا كانت إسرائيل واضحة فى تحديد خريطة الأعداء والأصدقاء فإن إيران أقل وضوحاً، هى تعطى الأولوية للعداء لإسرائيل، لكنها، وفى ذات الوقت، ليست مع وجود قوة عربية قادرة على تحدى أو منافسة النفوذ الإيرانى فى المناطق التى تراها إيران مجالاً حيوياً لنفوذها، ولذلك هى تعطى أولوية لعلاقات التعاون والتنافس مع العرب وتركيا بدلاً من الصراع، لكنها لا تستبعد الصراع إذا كان مفروضاً، من منظور إدراكها لمصالحها ومتطلبات أمنها القومي.
على الجانب الآخر أخذت تركيا تتحول من دولة موازنة بين إسرائيل وإيران إلى قوة طامحة للسيطرة والقيادة الإقليمية، لذلك وجدت نفسها تدخل فى صدام مع إيران وإسرائيل، لكن الصراعات الإقليمية خاصة الأزمة السورية، فرضت عليها جدولة الصراعات بالمهادنة مع إسرائيل والتسخين مع إيران، خصوصاً بعد تدهور المكانة التركية فى إدارة الأزمة السورية فى ظل الوجود العسكرى القوى لروسيا وإيران، مع الحرص على تأسيس تحالف مع الدول العربية السنية تحلم بقيادته والمساومة به مع إيران وإسرائيل.
أما المملكة العربية السعودية فترى أن إيران هى العدو الإستراتيجي، وتسعى لتشكيل تحالف لمواجهة النفوذ الإيرانى فى العراق وسوريا واليمن ولبنان، من هنا جاء الحرص السعودى على تشكيل «تحالف إسلامى سُني» موسع فى القلب منه التحالف الإستراتيجى مع تركيا والسعى لضم مصر إلى هذا التحالف السعودى - التركي، وهو التحالف الذى ربما يتحول إلى تدخل برى سعودي- تركى تحت مظلة أمريكية فى سوريا عنوانه محاربة الإرهاب وهذا التدخل، الذى بدأت مؤشراته منذ يومين، سيكون حتماً فى مواجهة مع إيران، ترجع خطورة هذا التدخل لوجود روسيا كحليف قوى للنظام السورى ورافض لأى تدخل تركي، وحرب مثل هذه، سوف تحسم حتماً مستقبل الصراع الإقليمى ومستقبل القوى الإقليمية معاً.