فى الأسبوع الأول من سبتمبر عام 1957
أجرى راحلنا العظيم الأستاذ محمد حسنين هيكل حواراً صحفياً مع الزعيم جمال عبد
الناصر فى وقت كان يشهد ذروة التآمر الغربى الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية
ضد الأمة العربية من البوابة السورية عبر أهم أدواتها: إسرائيل وتركيا. دائماً
كانت سوريا هى منفذ الاختراق للعمق العربي، أو بالتحديد لـ عمق القرار العربى فمن
يسيطر على سوريا سيكون بمقدوره أن يسيطر على مصر وعلى العراق، ومن يسيطر على الدول
الثلاث سيكون قد سيطر على القرار العربى بل على مفاتيح كل المستقبل العربي. لذلك
فإن عام 1957، أى العام التالى لاندحار العدوان الثلاثى على مصر بعد قرار جمال عبد
الناصر تأميم قناة السويس، لتمويل مشروع بناء السد العالى بعد التراجع الأمريكى عن
وعود تمويل بناء السد، كان عام تجديد التآمر على القاهرة ولكن عبر البوابة
السورية، من هنا جاء اهتمام الأستاذ هيكل بأن يحاور الزعيم جمال عبد الناصر حول
سوريا والصراع الدائر على سوريا، وهو يدرك جيداً أن جوهر الحوار سيكون طرح الرؤية
الإستراتيجية المصرية للرد على المؤامرات الغربية ضد مصر وضد المشروع العربى كله،
ولذلك كانت أسئلته المثارة: ما هى الحقيقة فى سوريا؟ ما الذى تريده السياسة
الأمريكية؟ وما أهدافها وما اتجاهاتها؟ وما موقف باقى الدول العربية؟ وما موقف
مصر؟
المثير هنا ليست الأسئلة العبقرية
التى طرحها الأستاذ هيكل فقط بل أيضاً الإجابات التى وردت على هذه الأسئلة على
لسان الزعيم جمال عبد الناصر فى الحوار الذى نشر يوم 8/9/1959 حول حقيقة السياسة
الأمريكية تجاه سوريا.
فإجابات عبد الناصر جاءت وكأنها ابنة
اللحظة الراهنة وابنة الأزمة الراهنة وليست إجابات مضى عليها 59 عاماً يوم أن
تشابهت الأحداث مع تغير بعض التفاصيل، حيث كانت تركيا تهدد بغزو سوريا على نحو ما
يحدث اليوم، ولكن الجديد هذه الأيام أن دولاً عربية باتت مستعدة للمشاركة مع تركيا
فى غزو سوريا تحت عنوان مزيف هو الحرب ضد الإرهاب، والجديد أيضاً أن الاتحاد
السوفيتى لم يعد موجوداً، كما كان الحال عام 1957، والموجود الآن أخطار بديلة هى
الخطر الإيرانى أو الخطر الشيعى أو حتى الخطر الروسي.
ونظراً لأهمية إجابات الزعيم جمال عبد
الناصر أرجو أن تسمحوا لى حضراتكم أن أنقل لكم بعضها كما وردت فى حواره مع راحلنا
العظيم الأستاذ هيكل.
ففى معرض بحثه عن فهم لحقيقة السياسة
الأمريكية نحو سوريا بدأ ناصر بطرح العديد من الأسئلة مثل: هل انحازت سوريا حقيقة
إلى المعسكر الشيوعى (كان هذا هو الخطر الأكبر الذى تروج له
السياسة والإعلام الأمريكيان). وخلص بعد تحليل واسع إلى إجابة تقول:
كان الإجماع العربى أن إسرائيل هى
الخطر الحقيقى على الدول العربية، وحاولت أمريكا، بشتى الوسائل، أن تجر العرب إلى
صلح مع إسرائيل، فلما فشلت هذه الوسائل، جاء دور الوسيلة الجديدة «خلق أخطار أخري،
ولو كانت أخطاراً صناعية، حتى يتفتت الإجماع العربى وتتفرق قواه. ويكمل:
بدأت نغمة الخطر الشيوعى (الآن يطرح
الخطر الشيعي) ثم بدأ التركيز على مصر وسوريا، ثم اتجهت كل قوى الضغط مرة واحدة
إلى سوريا، ثم ألقيت بضعة ملايين من الدولارات، تطبيقاً لمشروع إيزنهاور (الرئيس
الأمريكى حينئذ) لتكون بمثابة الطعم الذى يلقى للصيد،
هذا فى نفس الوقت الذى تجرى فيه عملية التخويف، جنباً إلى جنب مع عملية الإغراء.
تخويف الملوك والرؤساء العرب من الخطر الشيوعي.. تخويف الملوك والرؤساء العرب من
أن هذا الخطر محدق وقريب.
تخويف الملوك والرؤساء العرب من أن
هذا الخطر أنشب مخالبه بالفعل فى بلد من بلادهم ويوشك أن ينقض منها على غيرها ما
لم يتصدوا له، ويخرجوا لقتاله، وفى هذا سارت السياسة الأمريكية تحاول أن تحقق
غاياتها.
بعد هذا التحليل وصل عبد الناصر إلى
بلورة إدراكه لحقيقة الصراع على الأرض العربية من جانب الولايات المتحدة ومن جانب
إسرائيل، وهو الصراع الذى يفضح نفسه فى ما كان يحدث فى ذلك الوقت بسوريا.
فعن السياسة الأمريكية قال: لقد
اختبرت السياسة الأمريكية خلال خمس سنوات طويلة (1952- 1957)، والنتيجة التى وصلت
إليها هى أن هذه السياسة تجاه العرب تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
- تصفية مشكلة إسرائيل على أساس الأمر
الواقع، أى تحويل خطوط الهدنة مع إسرائيل إلى خط حدود دائم (الآن باتت حدود
إسرائيل هى كل فلسطين كاملة)، وإهدار كل حق للاجئين من عرب فلسطين (الآن
مطلوب تحويل كل الشعب الفلسطينى إلى لاجئين).
- فرض تنظيم دفاعى يخدم المصالح الأمريكية
وحدها (الآن تسعى واشنطن إلى فرض مشاريع للنظام الشرق أوسطي: من الشرق الأوسط
الكبير عام 2003 إلى الشرق الأوسط الجديد عام 2006، والآن يخطط لنظام إقليمى طائفى
ودينى وعرقي).
- وأخيراً، الانحياز إلى السياسة
الأمريكية فى جميع المشكلات الدولية بحيث تتحول الدول العربية بالفعل إلى منطقة
نفوذ لأمريكا (التبعية الكاملة).
أما فيما يتعلق بإسرائيل فقدخلص عبد
الناصر إلى أن المشروع الأمريكى يدور فى أربع دوائر أو محاور متداخلة ومتماسكة هى
نفس ما يحدث الآن:
1- تحويل الأنظار عن خطر إسرائيل (الآن
تتركز الجهود على اصطناع العدو البديل).
2- خلق أخطار وهمية من بعض العرب على
البعض الآخر (الآن العرب الشيعة فى مواجهة العرب السُنة).
3- إعطاء سلاح لا يخيف إسرائيل إلى بعض
الدول العربية (الترسانة العربية مكتظة الآن بأسلحة هائلة لا تصلح لحرب ضد إسرائيل
بقدر ما تصلح لحرب العرب ضد العرب وهذا ما يحدث فى اليمن وسوريا وغيرهما)
4- ربط الدول العربية فى نطاق واحد مع
إسرائيل، نطاق تقوم فيه أمريكا بدور التوفيق والتنسيق فى جميع النواحى العسكرية،
وذلك أن إسرائيل لم تعد، فى الحقيقة، عدواً لهذا البعض من الدول العربية فحسب بل
أصبحت زميلاً لها فى حلف مشترك.
طرح جمال عبدالناصر كل هذه
الاستخلاصات ولكن الأهم هو استنتاجه الذى قاله وكأنه يختتم معنا مقالنا هذا بقوله:
الخطة هى نفس الخطة، والأهداف هى نفس الأهداف، وإنما الذى اختلف هو الأسلوب فقط.
وكل ذنب سوريا الآن- فى نظر السياسة الأمريكية- أنها لم تركع تحت أقدامها، ولم
تأتمر بأمرها، ولو كانت سوريا قد ركعت، كما ركع غيرها، لما كان كل هذا الضغط عليها
من كل ناحية.
لم يكتف عبدالناصر بأن تكون رؤيته
لأزمة سوريا صائبة فقط بل قرر أن يكون الجزء الأهم من الحل، فكان قرار الوحدة مع
سوريا بتأسيس الجمهورية العربية المتحدة الذى صادف أمس الاثنين الذكرى الثامنة
والخمسين لتأسيسها.
وهو القرار الذى كان بحجم مصر ودورها
وقدرها، لذلك كانت مؤامرة الانفصال فى 28
سبتمبر 1961 بمشاركة دولتين عربيتين،
وبعدها عدوان يونيو 1967 كى تبقى مصر خارج سوريا وخارج دورها، والآن جاء دورنا لنقرر
هل سنكون فى قلب التاريخ أو خارج دورنا وخارج التاريخ.