فى ذروة انشغالات مصر بأزماتها ومشاكلها الداخلية المفروضة عليها سواء أمنية كانت أم اقتصادية أم سياسية فإنها تجد الآن نفسها مضطرة للتعامل بالجدية نفسها والاهتمام نفسه الذى تتعامل بهما مع تلك الأزمات والمشاكل الداخلية، مع ما يعيشه عالمنا العربى من أزمات وما يواجهه من تحديات لم تعد بعيدة عن همومنا الداخلية، وباتت تهدد الوجود العربى ومستقبله هناك أسباب كثيرة وملحة تفرض على مصر سرعة وجدية هذا التدخل يأتى فى مقدمتها ذلك المأزق المزدوج الطارئ والمفاجئ الذى فرضه اعتذار المملكة المغربية عن استضافة القمة العربية المقبلة التى كان من المقرر أن تُعقد فى مدينة مراكش يومى 6 و7 إبريل القادم، كما فرضه اعتذار الدكتور نبيل العربى الأمين العام لجامعة الدول العربية عن استمراره فى تحمل مسئولية منصب الأمين العام لدورة ثانية.
كان يمكن لاعتذار الدكتور نبيل العربي، رغم كل قدره ومكانته العالية وتاريخه المهنى الذى يشرف كل مصرى وكل عربي، أن يمر دون مشاكل لولا أنه جاء متزامناً مع الاعتذار المغربى، وكان يمكن أيضاً للاعتذار المغربى أن يكون متداركاً لولا أن هذا الاعتذار جاء «اعتذاراً مسبباً» ووضع جميع الدول العربية، وفى مقدمتها مصر، أمام مأزق التعامل الإيجابى والمسئول مع كل الأسباب المغربية للاعتذار عن استضافة القمة العربية، وهى بالمناسبة، أسباب منطقية وشديدة الاحترام، دون الدخول بالطبع فى خلفياتها، ولماذا جاءت متأخرة إلى هذا الحد الذى أربك المسئولين فى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، لولا أن موريتانيا أبدت استعدادها لاستضافة القمة وإنقاذ الموقف، ولكنه إنقاذ شكلى ولا يمثل خروجاً من المأزق الذى فُرض على الجميع بسبب الاعتذار المغربى الذى جاء فى بيان رسمى صادر عن وزارة الشئون الخارجية وبتعليمات مباشرة من العاهل المغربى.
فقد جاء فى نص هذا الاعتذار أنه «نظراً للتحديات التى يواجهها العالم العربى اليوم، فإن القمة العربية لا يمكن أن تشكل غاية فى حد ذاتها، أو أن تتحول إلى اجتماع مناسباتي، وأن الظروف الموضوعية لا تتوافر لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات فى مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب العربية».
الاعتذار المغربى لم يكتف بذلك لكنه شاء أن يكون أكثر صراحة، لذلك قرر أن يسجل رسمياً أنه «أمام غياب قرارات مهمة ومبادرات ملموسة يمكن عرضها على قادة الدول العربية، فإن هذه القمة ستكون مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية (ليست على مستوى التحديات)، وإلقاء خطب قد تعطى انطباعاً خاطئاً بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي». كما أكد الاعتذار المغربى أن «العالم العربى يمر بمرحلة عصيبة، بل أنها ساعة الصدق والحقيقة، التى لا يمكن فيها لقادة الدول العربية الاكتفاء بمجرد القيام، مرة أخري، بالتشخيص المرير لواقع الانقسامات والخلافات التى يعيشها العالم العربى دون تقديم إجابات جماعية حاسمة وحازمة لمواجهة هذا الوضع سواء فى العراق أو فى اليمن أو فى سوريا التى تزداد أزماتها تعقيداً بسبب كثرة المناورات والأجندات الإقليمية والدولية، كما لا يمكنهم الوقوف مكتوفى الأيدى أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية أو الاقتصار على دور المتفرج، الذى لا حول له ولا قوة، على المآسى التى تمس المواطن العربى فى صميمه».
وزاد الاعتذار على ذلك أن «المغرب لا تريد أن تعقد قمة بين ظهرانيها دون أن تسهم فى تقديم قيمة مضافة فى سياق الدفاع عن قضية العرب والمسلمين الأولي، ألا وهى قضية فلسطين والقدس الشريف، فى وقت يتواصل فيه الاستيطان الإسرائيلى فوق الأراضى الفلسطينية المحتلة، ويتزايد فيه عدد القتلى والسجناء الفلسطينيين».
بعد هذا كله جاء القرار المغربى ليحدد الموقف العربى المطلوب اتخاذه، فى ظل هذه الظروف الصعبة والتحديات الهائلة، بالقول إن «المملكة المغربية تتطلع إلى عقد قمة للصحوة العربية، ولتجديد العمل العربى المشترك والتضامنى باعتباره السبيل الوحيد لإعادة الأمل للشعوب العربية».
من هنا بالتحديد تتكشف معالم المأزق الذى فرض على مصر أن تواجهه، لأن مصر ليست مجرد دولة عربية عادية كأى دولة، بل هى دولة دور ومسئولية وتاريخ لا يمكن أبداً عزله عن الواقع بكل آلامه، والمستقبل بكل آماله، ولأنها كذلك فإنها لا يمكن أبداً أن تقبل بالمشاركة فى قمة «مناسباتية» أو «مجاملاتية»، ولا يمكن أن تعتذر، لكنها يجب أن تكون قاطرة العرب وقيادتهم لانعقاد قمة على النحو الذى حدده خطاب الاعتذار المغربى «قمة للصحوة وتجديد الأمل»، تتجاوز بالكامل كل سلبيات القمة السابقة التى كشفت أن النظام العربى لم يستطع الإفاقة من صدمة موجة الثورات والانتفاضات العربية على الرغم من مرور خمسة أعوام على تلك الصدمة، ولم يجد القادة العرب فى تلك القمة شيئاً يقدمونه لأمة تتداعى مكانتها وقدراتها غير بعض العبارات الركيكة الخالية من أى قدرة على فعل شيء له معني، وجاء البيان الختامى شاهداً على عمق استفحال ظاهرتى الانقسام والعجز العربيين. الانقسام فى الرؤى والمواقف لدرجة تجاوزت كل الثوابت وكل الخطوط الحمراء العربية، والعجز عن مواجهة التحديات لدرجة تقزمت معها الأدوار العربية أمام استفحال وتغوّل أدوار القوى الإقليمية الكبرى الثلاث: الكيان الصهيونى وإيران وتركيا، التى أخذت تصول وتجول حسب أهوائها ومصالحها فى تمزيق أواصر الخصوصية العربية، والقيام بالأدوار التى كان يجب أن يقوم بها العرب دفاعاً عن مصالحهم وأمنهم الذى أخذ يتبعثر ويتداعي.
مصر مطالبة بأن تقود تيار التصحيح والتجديد والصحوة فى النظام العربى من خلال قيادة مشروع لإعادة بناء النظام العربى يكون قادراً على حل الأزمات وترميم التصدعات ابتداءً من التفاعل الإيجابى والمسئول مع كل الملاحظات الواردة فى الاعتذار المغربي.
قد يكون الوقت قصيراً للقيام بكل هذه المهام قبل موعد انعقاد القمة المقبلة فى موريتانيا، لكن يمكن التوافق على جعل هذه القمة مدخلاً أساسياً للشروع فى تنفيذ هذا المشروع، على أن تكفل هذه القمة انسجاماً عربياً، بات ضرورياً، حول حلول الأزمات العربية الساخنة وعلاج الانقسامات فى المواقف من هذه الأزمات وفى العلاقات مع دول الجوار الإقليمي. ومن هنا يفرض مأزق اعتذار الدكتور نبيل العربى نفسه على مصر.
فإذا كانت مصر قد أكدت أنها ستقدم مرشحاً جديداً للمنصب فإن هذا المرشح الجديد يجب أن يكون على قدر التحديات بعيداً عن المجاملات. فالمرشح الجديد يجب أن يمتلك الولاء للعروبة وأن يؤكد تاريخه المهنى جدية هذا الولاء، وأن يكون مغروساً فى عمق مشروع التجديد والإصلاح والصحوة المأمولة، وأن يملك الكفاءة والمقدرة على التعامل مع كل التحديات، وان يكون أفضل تعبير عن الدور المصرى الجديد والتزاماته نحو القضايا العربية الكبرى وفى مقدمتها قضية فلسطين الذى تفرضه تطلعات الشعب المصرى بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وبتلخيص شديد أن يكون أفضل تعبير عن المشروع الوطنى للثورة المصرية فى دولة العزة والكرامة وليس دولة التبعية والعجز والفشل التى أسقطها الشعب، حتى لا يكون اختيار شخص غير مناسب تعميقاً للمأزق المصرى وتقزيماً للدور المصرى فى تفاعلاته العربية والإقليمية والدولية، ومصر مليئة بالكفاءات التى تمتلك كل القدرات المطلوبة لهذا المنصب الرفيع.