إذا كان منحنى الفعل العربى الراهن يمكن وصفه بأنه «آخذ فى الانحدار» فإن منحنى الوعى العربى الذى يشكل الإدراك بالخطر والوعى بالمصالح والأهداف قد تداعى نحو هاوية سحيقة لم يعد لها قرار بعد أن اختلطت المفاهيم والحسابات والعلاقات وأخذ التداعى يستقطع أجزاء من الجسد العربى ويلقى بها قرباناً لمن كانوا، حتى الأمس القريب هم الأعداء، أو «الأعداء التاريخيين».
كان الأمل أن يشكل مؤتمر القمة العربى القادم قاطرة إنقاذ للأمة العربية، ومحور ارتكاز لإعادة استنهاض الوطن العربي، وجاء اعتذار المغرب عن عدم استضافة هذه القمة ليكشف المستور ويفضح كل سياسات المداورة والمجاملات وعجل بلحظة الحساب مع النفس، لكن، وبقدرة قادر، قرر مجلس وزراء الخارجية العرب، فى اجتماعهم الدورى رقم 145 بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة (10/3/2016) القفز فوق كل الاستحقاقات والاستفسارات الواردة فى الاعتذار المغربى والاكتفاء بإعلان الموافقة على مرشح مصر لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية وإصدار بيان أدانوا فيه التدخلات الإيرانية فى الشئون الداخلية لبعض الدول العربية، واعتبار «حزب الله» منظمة إرهابية.
ببساطة شديدة قدم وزراء الخارجية العرب مؤشرات تؤكد أولاً أن جامعة الدول العربية تتجه نحو طريق مسدود وأنها قد قررت طواعية أن تكون خارج سياق الأحداث والتطورات الخطيرة التى تطول النظام العربى نفسه، وتؤكد ثانياً أن مؤتمر القمة العربى القادم الذى سيعقد فى العاصمة الموريتانية نواكشوط، سيكون مؤتمراً شكلياً لن يقدم شيئاً له قيمة أو اعتبار، وقد يكون شاهداً، بكل أسف، على دخول النظام العربى مرحلة الاحتضار.
نقول ذلك لأسباب كثيرة نذكر منها:
أن مجلس وزراء الخارجية لم يشأ أن يدخل فى صميم أسباب اعتذار المغرب، ولم يذكر البيان الختامى لمجلس وزراء الخارجية أى تعليق سواء بالإيجاب أو بالسلب على ما ورد من أسباب مغربية موضوعية ووجيهة جداً لاعتذاره عن عدم استضافة القمة، كما أن البيان لم يذكر معلومة واحدة تؤكد أن القمة المقبلة سوف تبحث فى الأسباب الواردة بالاعتذار المغربي، أو أنها ستقدم معالجات جادة للقضايا العربية والأزمات الساخنة سواء ما يتعلق بالتحديات الخطيرة التى تواجه القضية الفلسطينية أو ما يتعلق بالأزمة السورية وانعكاساتها على المستقبل العربى كله.
أن مجلس وزراء الخارجية العرب لم يعلن موقفاً واضحاً ولم يتخذ إجراءً محدداً واحداً نحو ما هو مثار الآن من تصريحات أمريكية وأخرى روسية حول «الخيار الفيدرالى» كحل للأزمة السورية، وهو الخيار الذى يقود بالضرورة إلى تقسيم سوريا. هناك تصريحات وردت على لسان وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى وأخرى على لسان سيرجى ريفكوف نائب وزير الخارجية الروسى تدور كلها حول تقسيم سوريا.
معنى ذلك، وبصراحة شديدة أن ما فشل الأمريكيون فى تحقيقه بغزوهم العراق واحتلاله بفرض خيار أن «التقسيم هو الحل» باتوا حريصين على إنجاحه فى سوريا بتوافق، ربما، مع الروس هذه المرة، دون أن يوجد ما يمنع من البدء فى تعميم هذا الخيار فى دول عربية أخرى إذا نجحوا فى فرضه على سوريا.
لماذا صمت وزراء الخارجية العرب عن هذا الخطر الذى يعنى أول ما يعنى إنهاء أى وجود للنظام العربى الراهن الذى يضم عضوية 22 دولة عربية. فخيار التقسيم، إن جرى قبوله وتعميمه، سيأتى بعشرات الدول التى ستنشأ إما على قاعدة العرقية والإثنية أو على قاعدة الطائفية والدين، أى أن العروبة ستختفى كهوية محددة للدويلات الجديدة، وعندها سيفرض واقع إقليمى جديد نفسه، واقع مفعم بعشرات الدويلات والكيانات الدينية والطائفية والعرقية ليست له أى علاقة بالنظام العربى الراهن برغم كل هشاشته.
القضايا التى غابت عن اجتماع وزراء الخارجية العرب أكثر مما تعد لكن إضافة إلى كل ما سبق تجاوز الوزراء فى اجتماعهم الأخير تطورات ومستجدات يصعب المرور عليها دون معالجة ودون تدبر من أبرزها الدعوة التى وجهها الرئيس الأمريكى باراك أوباما لكل من السعودية وإيران بالتوقف عن صراعاتهما الراهنة، وهى دعوة تكمل ما سبق أن قاله الرئيس الأمريكى فى لقائه بقادة دول مجلس التعاون الخليجى بواشنطن وكامب ديفيد (مايو 2015) برفض اعتبار إيران مصدراً للتهديد بالنسبة للدول الخليجية وتأكيده أن مصادر تهديد هذه الدول تكمن فى داخلها، فى نظمها السياسية وفى أيديولوجياتها الجامدة وفى غياب الحلم بالمستقبل عند الملايين من الشباب. ففى مقابلته مع مجلة «ذى اتلانتيك» قال أوباما إن «الحروب والفوضى فى الشرق الأوسط لن تنتهى إلى أن تتمكن السعودية وإيران من التعايش معاً، والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام البار». كما قال إن «المنافسة بين السعوديين والإيرانيين التى ساعدت فى إذكاء الحروب بالوكالة والفوضى فى سوريا والعراق واليمن، تتطلب منا أن نقول إلى أصدقائنا (السعوديين) وكذلك للإيرانيين إنهم فى حاجة للتوصل إلى طريقة فاعلة للتعايش معاً». وزاد على ذلك بأن «هناك حدوداً للمدى الذى يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة لحماية المنطقة».
رسالة أوباما واضحة وصريحة وهى أن الصراع السعودي- الإيرانى أضحى خطراً على المنطقة، وأن التعايش بينهما هو السبيل إلى درء المخاطر، وأن واشنطن لم تعد مستعدة للدخول فى حروب بالمنطقة، أى أنها لن تكون طرفاً فى أى صراع سعودى ضد إيران.
يبدو أن رسالة أوباما لم تصل بعد إلى من يعنيهم الأمر، وكذلك لم تصل رسالة زيارة أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركى لإيران، ولم يصل أيضاً مغزى تأكيدات الرئيس التركى حرصه على تحسين علاقات بلاده مع إسرائيل عند استقباله بعض قادة المنظمات اليهودية فى أمريكا. ولم يسأل أحد عن مسار علاقات العرب مع تركيا هذه التى مازالت دول عربية تتعامل معها كحليف إستراتيجى فى الوقت الذى لم تظهر فيه، ولو لمرة واحدة، استعدادها لمقايضة علاقاتها مع إيران بعلاقاتها مع العرب، ناهيك عن علاقاتها مع إسرائيل.
لم يبحث أحد فى مغزى تأكيدات رئيس الوزراء التركى فى لقائه مع الرئيس الإيرانى فى طهران (5/3/2016) بأنه «من الأهمية البالغة للبلدين إيجاد منظور مشترك ما لإنهاء القتال بين أشقائنا»، ولافتاً إلى وجود »نقاط مشتركة إقليمياً، أهمها معارضة البلدين لـ «تقسيم سوريا»، ومؤكداً أنه «إذا كانت لدينا وجهات نظر مختلفة، لكن ليس بمقدورنا تغيير تاريخنا أو جغرافيتنا».
تفاعلات إقليمية مثيرة وتحولات أكثر إثارة فى مواقف الأطراف تخص مصالح عربية شديدة الحيوية لكن وزراء الخارجية العرب لم يكلفوا أنفسهم فهم ألغازها وقرروا الأخذ بالأحوط وهو التجاهل والقفز فوق الأزمات وفوق ألغام تحالفاتهم التى انقسموا فيها بين من يتعامل مع إيران كعدو ومع تركيا كصديق وبين من يتعامل مع تركيا كعدو ومع إيران كصديق أو على الأقل كمنافس، فى وقت يتقارب فيه الأتراك مع الإيرانيين، وفى وقت بدأ يشعر فيه العدو التاريخى للعرب بأنه أضحى سيد الموقف وسط كل هذا التشتت والتمزق العربى فى علاقات العرب مع أنفسهم ومع جيرانهم، وفى وقت أضحت فيه مواقف العرب من هذا العدو الصهيونى باهتة الأمر الذى حفزه على أن يروج أنه لم يعد فقط حليفاً محتملاً للعرب بل ربما حليفً مؤكد.