من أغرب التعليقات التى جرى تسريبها فى جلسات غير رسمية نقلاً عن بعض السادة وزراء الخارجية العرب فى أثناء وجودهم بالقاهرة للمشاركة فى أعمال الاجتماع الدورى رقم 145 لمجلس وزراء الخارجية العرب (10/3/2016) اعتقاد بعضهم أن اليمن لن يعود كما كان وكذلك سوريا والعراق وربما ليبيا، الأمر الذى يعنى أن النظام العربى ومنظمته أى جامعة الدول العربية مقبلان على تغيرات هيكلية قد تضع نهاية كاملة لهذا النظام، وقد تؤدى إلى انفراطه على ضوء احتمال ظهور دويلات وكيانات عرقية وأخرى طائفية على أنقاض بعض تلك الدول التى باتت مهددة بالتقسيم، وعلى ضوء ما يجرى طرحه من رؤى وأفكار أمريكية وأخرى روسية حول منطقية «الحل الفيدرالى» لسوريا الجديدة، وهو حل قد يتحول إلى «كونفيدرالى» أو إلى تقسيم وقد ينتقل من سوريا إلى العراق وإلى دول عربية أخري.
ربما يرى البعض قدراً لا بأس به من المنطقية والعقلانية فى طرح هذه الرؤي، لكن روح اليأس والاستسلام للواقع العربى شديد المرارة هى المثيرة للغرابة وللألم ممن يفترض فيهم إيجاد الحلول ومقاومة التحديات ومواجهتها، وهي، أى هذه الروح، تجعل من وطننا العربى حالة أقرب إلى حالة الإمبراطورية العثمانية فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما تفاقمت عليها الأطماع الغربية وأخذت توصف بـ «رجل الشرق المريض» وأخذوا يسعون إلى تفكيكها وتقسيمها فيما بينهم.
الآن يبدو أن وطننا العربى معرض للمخطط نفسه، التفكيك وإعادة التقسيم بتحويله هو الآخر إلى «رجل شرق مريض» ولكن هذه المرة المخطط أوسع فى أطرافه وأعمق فى أبعاده. فالأطماع لم تعد مقتصرة على القوى الدولية الكبرى خاصة الولايات المتحدة وروسيا، ولكن القوى الإقليمية الشرق أوسطية: الكيان الصهيونى وإيران وتركيا متورطة هى الأخرى فى هذا المخطط، وهنا يجدر بنا أن نتساءل: لماذا وكيف جرى تحويل وطننا العربى إلى كيان هش قابل للتفكيك وإعادة التقسيم برغم أن ما يمتلكه وطننا العربى من مصادر قوة تفوق بكثير ما تمتلكه هذه القوى الثلاث مجتمعة؟
فوفقاً للمعطيات الحسابية تبلغ مساحة وطننا العربى ما يزيد على 13 مليون كلم2 فى حين لا تزيد مساحة تلك الدول الثلاث مجتمعة عن 3 ملايين كلم2. ويقترب عدد السكان فى الدول العربية من 350 مليون نسمة فى حين لا يصل عدد سكان تلك الدول الثلاث إلى 170 مليون نسمة، كما يزيد الدخل الإجمالى للدول العربية على 3 تريليونات دولار سنوياً، فى حين لا يتجاوز دخل تلك الدول 2 تريليون دولار سنوياً.
هناك أسباب كثيرة مسئولة عن تدنى فعالية القدرات العربية أهمها الانقسامات والصراعات العربية- العربية، وعمق الاختراق الأجنبى للقرار السياسى العربي، والهدر الهائل للموارد، وبشكل عام يمكن القول إنه على الرغم من التفوق العربى فى مصادر القوة، لكن تشغيل هذه القوة عديم الكفاءة، فحال الدول العربية أشبه بعربات قطار محملة بشتى أنواع البضائع والمنتجات لكنها تفتقد إلى قاطرة وإلى نظام للتشغيل، ومن هنا بالتحديد تتأكد الأهمية القصوى لتوفير شرطين أساسيين لتجديد فرص واحتمالات النهوض العربي؛ الشرط الأول هو القيادة العربية القادرة على تحمل مسئوليات النهوض بالعمل العربى المشترك نحو تحقيق الأهداف، والشرط الثانى هو التوافق العربى على أجندة عمل عربية ذات أولويات محددة، أجندة عمل للإنقاذ حتماً سوف يأتى على رأسها حتمية الدفاع عن وحدة وتماسك الدولة الوطنية العربية والحيلولة دون انفراطها، إضافة إلى طرح مشروع لنظام عربى يؤسس لـ «اتحاد عربى» واضعاً نصب العيون هدف تحقيق التكامل العربى الاقتصادى والسياسى معاً.
لقد تأكد للكثير من السادة وزراء الخارجية العرب، خلال اجتماعهم الأخير، مدى فداحة غياب ما يعتبرونه «كبير العرب» فبقدر ما كانت الحسرة تعتصر قلوب هؤلاء الوزراء العرب النابهين وهم يقولون إن الواقع العربى المؤلم سيحول دون عودة اليمن وسوريا والعراق إلى سابق عهودها السابقة، بقدر ما كان موقع القيادة العربية الشاغر بغياب مصر ودورها القيادى يؤلمهم، ويدفعهم إلى التحسر على هذا الغياب للدور المصرى الذى لم يكن فى مقدور أى من الدول العربية أن تملأه على مدى أكثر من أربعة عقود مضت.
لقد دفع فشل المتنافسين على وراثة دور مصر القيادى إلى الافتراء عليها واتهامها فى صحفهم بأنها «أصبحت عاملاً معطلاً للحلول فى المنطقة!..» وأنه «إذا كانت القاهرة لا تصنع الحلول، وقد يكون ذلك أمراً مقبولاً، لكن أن تضع السياسة الخارجية المصرية العصا فى العجلة، كلما أردنا تقدماً ايجابياً فى حلول مشكلات الشرق الأوسط، فهذا أمر غير منتظر، فضلاً عن أنه غير مقبول بالمرة!».
إلى هذا الحد، وصلت بذاءة الافتراء على مصر بل وأكثر لسبب محدد هو أن مصر لم تنساق وراء سياسات «تسعير الأزمات» داخل الدول العربية. فبعد سلسلة من الافتراءات على السياسة العربية لمصر كانت خلاصة أصحاب هذه الافتراءات أن «مصر غائبة عن المشهد العربي، والمشهد الأفريقي، وهى بوضعها الحالى لا تستطيع أن تتعايش مع الإيقاع السريع للأحداث الخارجية بسبب هواجسها الداخلية المتعاظمة، ولأنها لا تستطيع فإنها لا تريد أن يستطيع أحد آخر. هى تشبه تماماً الأب الكبير السن الطريح الفراش، الذى يرفض أى تحرك من أبنائه بحجة أنه سيشفي، وسيبادر إلى القيام بأعماله بنفسه».
أعرف أن هذه الافتراءات بحق مصر قد لا تعبر أو قد لا تتطابق تماماً مع الرؤى الرسمية لأصحاب القرار فى دولهم لكنها بقدر ما تكشف عن مدى عمق الحقد المتأصل تاريخياً فى إدراكات هذه الدول على دور مصر ومكانتها، بقدر ما تكشف أيضاً عن حسرة هؤلاء عن عجز كل خزائن الدولارات التى يملكونها عن ملء موقع مصر الشاغر منذ أربعة عقود.
فالدور ليس مجرد ثروة، أو مجرد خزائن ثروات فحسب، ولكن دور أى دولة ينبع من عمق تجربتها التاريخية، فهو محصلة تفاعلات هذه التجربة التاريخية أولاً، وهو ثانياً انعكاس مباشر للموقع الاستراتيجى للدولة وقدرتها على تفعيل هذا الموقع، وهو ثالثاً تعبير عن القدرات الكلية للدولة (القوة الشاملة) بأنواعها المختلفة، وهو رابعاً وأخيراً مرتبط بحزمة من المحددات التى قد تسمح والتى قد تعوق أداء هذا الدور: محددات داخل الدولة مرتبطة بنظامها السياسى ومدى توافر شروط وفعالية هذا النظام، إضافة إلى مستوى التماسك الوطنى بأشكاله المختلفة السياسى والاجتماعى والعرقى والمذهبى وقدرته على مواجهة عوامل الانفراط، إلى جانب محددات أخرى من خارج الدولة ترتبط بالبيئة الإقليمية والدولية، وكيف أن هذه البيئة مواتية أم غير مواتية، محفزة أم معوقة.
بهذا المعنى فإن الدور لا يمكن شراؤه بكنوز الدنيا حتى لو كانت متاحة وإذا كنا جميعاً، ليس فقط نحن المصريين فحسب، بل نحن كل العرب، نرفض مثل تلك الافتراءات على مصر ودورها، فإننا جميعاً أيضاً نرفض ولا نقبل أن تبقى مصر مترددة، لأى سبب كان، عن القيام بدورها وتحمل مسئولياته، ليس فقط دفاعاً عن شرف عربى ينتهك وتاريخ عربى يبدد، بل عن حاضر ومستقبل مصر والعروبة الذى ينتظره كل مصرى وكل عربى ولا يرى بديلاً عنه.