لم يشأ القرن العشرون أن ينتهي ليسلم زمام البشرية إلى القرن الحادي والعشرين، قبل أن يحسم حسماً نهائياً المناظرة الكبرى التي دارت في جنباته بين الرأسمالية والماركسية. وليس هناك من شك في أن ثورة أكتوبر الكبرى التي وقعت أحداثها عام 1917 في روسيا، والتي ترتب عليها نشوء نظام سياسي جديد لم يشهده العالم من قبل، كانت من أهم أحداث القرن.
ومنذ نشأ هذا النظام، شُنَّت ضده الحملات العسكرية السياسية والدعائية والإعلامية، وكرس مفكرون غربيون كثرٌ حياتهم العلمية للهجوم عليه، وتفنيد أسسه الفلسفية ودعائمه الاجتماعية والاقتصادية. وفي مقابل ذلك، قام المعسكر الاشتراكي بحملة مضادة على الرأسمالية والإمبريالية والديموقراطية الغربية. وهكذا هيمن على مناخ القرن العشرين هذا الصراع الضاري بين الماركسية والرأسمالية، الذي اتخذ أبعاداً بالغة الخطورة، تمثلت في سباق التسلح النووي، الذي وضع البشرية كلها على حافة الخطر.
ودارت المناظرة – المعركة – وكل فريق يتوعد الآخر بقرب هزيمته الكاملة.
غير أن الرأسمالية أثبتت – بما لا يدع مجالاً لأي شك – قدرتها على تجديد نفسها، واستفادتها من النقد الماركسي في تطوير مشروعها، في الوقت الذي جمدت فيه الماركسية جموداً شديداً، على رغم المحاولات الجسور لإنقاذ المشروع الاشتراكي من الفشل، سواء من خلال الممارسات النظرية النقدية التي أرادت أن تقدم قراءة جديدة للماركسية، ربما من أبرز صورها محاولة الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير، أو من خلال الممارسة السياسية، خصوصاً محاولة الشيوعية الأوروبية التخلي عن بعض المسلمات، في سبيل التكيف مع النظام البرلماني الأوروبي، وقبول فكرة الوصول إلى الاشتراكية من خلال الانتخابات.
من هنا، يمكن القول أن فهم ما حدث في العالم، لا يمكن أن يتم في شكل موضوعي لو بني على أساس «المنهج الاستقطابي» – إن صح التعبير – الذي يميز تمييزاً فاصلاً بين الماركسية والرأسمالية، كما يتم التمييز بين الأبيض والأسود. ذلك أنه عبر مرحلة تاريخية طويلة، تمت فيها عملية التأثر والتأثير، ومن خلالها انتقلت الأفكار والتجارب من نظام إلى آخر، في صمت ومن غير إعلان رسمي.
وهذه العملية البطيئة المعقدة، لا يغني في فهمها سوى مدخل التحليل الثقافي الذي يركز على أنظمة الأفكار في نشوئها وتحولها وتغيرها. من هنا، فإن تتبع الرحلة الطويلة التي قطعها العقل الغربي بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن، سواء في شقه الماركسي أو الرأسمالي، هو الذي يسمح لنا فهم ما حدث من انقلابات سياسية وتغيرات اقتصادية.
والواقع أنه لو أردنا أن نرسم خريطة معرفية شاملة لمستقبل المجتمع العالمي لاكتشفنا أن هناك تغيرات كبرى لحقت ببنيته وهذه التغيرات لحقت بمجالات متعددة في المعرفة والتعليم والأمن النسبي للمجتمعات والأمن القومي للدول وكذلك في مجال التفاعل الحضاري، وفي ميدان الاقتصاد والنظرية السياسية ودور الدولة في التنمية، وأخيراً وقد يكون أولاً في مقولة بازغة مبناها أن عصر العولمة وصل إلى منتهاه، وأننا نعيش اليوم عصر ما بعد العولمة وكل هذه التغيرات الكبرى أطلقنا عليها القوانين الأساسية للمستقبل العالمي.
وندرك جيداً أهمية الوصف الدقيق لكل هذه القوانين وإبراز ملامحها الرئيسة حتى تكون لدى صانع القرار في أي بلد من بلاد العالم رؤية صافية للمستقبل تسمح له برسم السيناريوات المتعددة الكفيلة بتحقيق تقدم بلده وذلك في عالم يتسم بعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ.
وذلك إضافة إلى أن تحليل هذه التغيرات وإبراز منطقها الكامن سيساعد – إلى جانب صانع القرار - النخب السياسية والنخب الثقافية، بل والجماهير عموماً على أن تفهم روح العصر الذي نعيشه وتتعرف بدقة إلى ملامحه الأساسية وتدرك المنطق الكامن وراء كل تغير.
ومجموع هذه التغيرات الكبرى التي بدأت في تغيير ملامح المجتمع العالمي تسع تغيرات تلمس ميادين شتى. وسنبدأ اليوم بالحديث عن الانتقال من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة.
ويمكن القول أن الانتقال من مجتمع المعلومات العالمي بسماته إلى مجتمع المعرفة يعد نقلة كيفية في مجال التطور الحضاري الإنساني.
وليس معنى ذلك أن المجتمعات الإنسانية السابقة أو الحديثة أو المعاصرة لم تكن مجتمعات معرفة، لكن الفرق يبدو في نوع المعرفة التي تسود المجتمع، خصوصاً في ظل انتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة، وبروز الإنترنت كشبكة عامة فتحت فرصاً جديدة لتوسعة الفضاء العام للمعرفة.
ويمكن القول أن السيطرة على المعرفة - اليوم كما كان في الماضي - يمكن أن تترافق مع عدد كبير من التفاوتات والإقصاءات والصراعات الاجتماعية.
وفي ظل الفكرة التي تذهب إلى أن «المعرفة قوة»، فقد ظلت ردحاً طويلاً من الزمن حكراً على من يسيطرون على المجتمعات، خصوصاً الحكماء في المجتمعات القديمة الذين كانوا يحتكرونها، بحيث لا يتاح للعامة أن يعرفوا أسرارها المصون.
غير أنه اعتباراً من «عصر الأنوار»، أدى التقدم في المسار الديموقراطي الذي يقوم على أساس مبدأ الانفتاح وانتشار أفكار العالمية والحرية والمساواة، أن ظهر – وإن كان ببطء - فضاء عام للمعرفة ساعد على تطويره انتشار المعارف بواسطة المخطوطات، ثم كان ظهور الطباعة قفزة كبرى في هذا المجال، إضافة إلى شيوع التعليم العام والتعليم الجامعي.
والسؤال المطروح الآن هل سيؤدي انتشار تكنولوجيا المعلومات وبروز الإنترنت كشبكة عامة إلى فتح فرص جديدة لتوسعة الفضاء العام للمعرفة، وهل سنملك وسائل تسمح لجميع الناس بالنفاذ في شكل متساو وشامل إلى المعرفة؟
الواقع أن تحقيق هذا الهدف هو أساس أي مجتمعات حقيقية للمعرفة لتكون مصدراً لتنمية بشرية مستدامة.
ولا بد من توضيح الفرق الجوهري بين مجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة، وذلك لأن المعلومات لا تكون بذاتها معرفة، والمعرفة تحتاج بصورة عامة إلى عقل نقدي يفاضل بين المعلومات ويميز بين الزائف منها والصحيح، ويستطيع أن يفاضل بين الآراء المختلفة ليفرز الذاتي من الموضوعي.
وهناك اتفاق بين الباحثين على أن هناك عوامل كثيرة أدت إلى تغيير قواعد ممارسة الأنشطة الاقتصادية لا تؤثر تأثيراً كبيراً في المنافسة بين المشروعات وهي:
العولمة التي أدت إلى أن الأسواق والمنتجات أصبحت معولمة، وتعميق تكنولوجيا المعلومات. الميديا الجديدة التي أدت إلى زيادة المنتجات وتوزيع المعارف، والتي أدت في النهاية إلى نشوء ما يطلق عليه الذكاء الجماعي Collective intelligence. التشبيك الإلكتروني وزيادة القدرة على الاتصال. وفي ضوء هذه التطورات، فإن السلع والخدمات يمكن أن تنمى وتشترى وتتاح وفي أغلب الحالات تسلم عبر الشبكات الإلكترونية.
وهناك سمات متعددة لاقتصاد المعرفة لا يتسع المجال لاستعراضها.
ويلتفت التقرير الأول لليونسكو عن مجتمع المعلومات إلى مسألة في غاية الأهمية هي أخطار التسليع المفرط للمعارف. وهو يقرر أن المعرفة أضحت مسلعة «في شكل معلومات قابلة للتبادل والترميز».
وهناك انتقادات لهذا الاتجاه، لأن المعرفة في هذه الصورة يمكن التلاعب بها في قواعد البيانات ومحركات البحث وإدماجها في الإنتاج كإحدى ترتيبات العلم القائم على التكنولوجيا، وتحويلها إلى شرط للتنمية وإلى رهان للسلطة أو إلى أداة للمراقبة قد تنتهي إلى هدم نفسها بنفسها من حيث هي معرفة.
وتبدو الخطورة في أن الاستحواذ على المعارف بعد التسليع المفرط لها في المجتمع العالمي للمعلومات قد يشكل تهديداً جدياً لتنوع الثقافات المعرفية.
من هنا، يصح التساؤل عن المكان الذي ستمثله بعض المهارات والمعارف المحلية أو الأصلية في اقتصاد تعطى فيه الأولوية للمعارف العلمية أو التقنية؟