تكشف الأزمات العربية الراهنة، وبالذات الأزمات التى تعتصر الدول الوطنية العربية (القطرية) التى باتت مهددة فى وجودهها بإعادة التقسيم أو بالتفتيت جنباً إلى جنب مع كل ما يتعرض له النظام العربى من محاولات حثيثة لتفكيكه استعداداً لفرض نظام آخر بديل عن مجموعة من الحقائق المهمة: أولى هذه الحقائق، أن الدولة الوطنية العربية، سواء كانت ليبرالية وديمقراطية، أو كانت مستبدة وتسلطية، سواء كانت جمهورية، أو كانت ملكية أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمى كشريك فى الإنتاج ومن ثم كشريك فى القرار، بل أضحت غير قادرة على حماية وجودها والتصدى لمحاولات إعادة تقسيمها.
ثانية هذه الحقائق، أن هذه الدولة الوطنية لم تستطع بتحالفاتها الدولية، سواء كانت مع الغرب الرأسمالى بقيادته الأمريكية، أو مع الشرق السوفيتى السابق وما بعده، أو بتحالفاتها الإقليمية مع تركيا أو مع باكستان أو إيران، أن تحقق أهداف الاستقرار والتماسك السياسى أو تحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى والمكانة الإقليمية والدولية. لقد كانت هذه التحالفات أدوات للتغلغل وفرض التبعية ونهب الثروات وقضم الأراضي، وفرض الاستعلاء والاستكبار سواء كان عالميا أو إقليميا.
ثالثة هذه الحقائق، أن مشروع «الإسلام السياسي»، بشتى تلاوينه سواء كان إخوانيا، أو كان جهادياً سلفيا تحول إلى التكفير (داعش والقاعدة وتفريعاتهما)، أو كان شيعيا طائفيا ممتد الولاء نحو طهران وولاية الفقيه، لم يحفظ للدولة الوطنية تماسكها الاجتماعى والسياسي، وكان أحد أهم أسباب وأدوات إعادة التفتيت والتقسيم وتهديد الوجود الوطنى لهذه الدول، فضلا عن أنه أخذ يهدد هويتها الحضارية القومية العربية، ويضرب نظامها العربى فى العمق بطرح مشروعات الخلافة الإسلامية متباينة الرؤي. رابعة هذه الحقائق، أن العروبة والمشروع القومى العربي، هما الضمان الأهم، وربما الوحيد، لبقاء وجود الدولة الوطنية العربية ذاته، لكن العروبة، كهوية، والمشروع القومى العربى كمرتكز لن يستطيعا تحقيق ذلك دون ربط شرط الوحدة، كأساس جوهرى للمشروع، بشروط التقدم الحضارى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كما أن امتلاك هذه الشروط لا يكفى أيضاً لتحقيق الأهداف دون مواجهة مصادر تغذية الدعوة التقسيمية لدولنا العربية.
هناك ثلاثة مصادر تغذى وتدفع بمخططات إعادة التقسيم والتفتيت للدول العربية وتفكيك النظام العربى وانفراطه. أول هذه المصادر هو المخططات الاستعمارية الغربية المندمجة مع المشروع الصهيونى الاستعمارى الاستيطانى التى تربط بين نجاح فرض السيطرة الغربية على وطننا العربى بالإمعان فى تقسيمه وتجزئته وفرض الدولة اليهودية فى فلسطين كأهم أدوات ذلك التقسيم وتلك السيطرة، وهو المشروع الذى أخذ يتجدد فى السنوات الأخيرة عبر مسميات متعددة ودعاوى لإطلاق الصراعات العرقية والطائفية فى الدول العربية، ويعبر عن نفسه الآن بدعوة الفيدراليات فى سوريا والعراق كمقدمة لتجديد مشروع إعادة التقسيم.
ثانى هذه المصادر، هو الدولة التسلطية العربية المستبدة والفاشلة والعاجزة التى أجهضت فرص التقدم وهددت التماسك الوطنى والاجتماعي، وكانت أهم وسائل الانخراط العربى فى التبعية للغرب، وهى التى أدت بسياساتها تلك، إلى اضمحلال قدرات الدول العربية وتحولها إلى دول فاشلة وعاجزة وقابلة للانفراط، وحفزت المكونات الاجتماعية العرقية والطائفية للتمرد والانخراط فى مخططات إعادة التقسيم.
ثالث هذه المصادر هى ، تيارات الإسلام الجهادى التكفيرية، التى وجدت فرصتها سانحة مع اندلاع مشروع الثورات والانتفاضات وانقضت على حلفائها التقليديين من نظم الحكم التسلطية والمستبدة، وانطلقت لفرض مشروع »الخلافة الإسلامية« بإعطاء الأولوية لإسقاط الدول وأنظمة الحكم القائمة، وتفجير المجتمعات من الداخل بتكفيرها سعياً وراء إقامة دولة «الخلافة الإسلامية».
بهذا المعنى فإن الخيار القومى لن يكون فى مقدوره أبداً مواجهة مخططات ومشروعات إعادة التقسيم والتفكيك دون إستراتيجية لمواجهة هذه المصادر الثلاثة للخطر. ولن تكتمل المشروعات العربية لمواجهة مخاطر إعادة التقسيم والتفكيك دون استراتيجيات عربية متكاملة للنهوض السياسى والاقتصادى والعسكرى والاجتماعى العربي، ودون توفير شرطين أساسيين يتوقف عليهما تجديد فرص واحتمالات النهوض العربي. الشرط الأول هو القيادة العربية القادرة على تحمل مسئوليات النهوض بالعمل العربى الوحدوى المشترك نحو تحقيق الأهداف. فلابد من خلق قيادة عربية يكون فى مقدورها تفعيل القدرات العربية واستنهاض الطاقات والعمل مجدداً فى اتجاه إعادة التوحيد بعد مواجهة موجات الانفراط. والشرط الثانى هو التوافق العربى على أجندة عمل عربية ذات أولويات محددة، أجندة عمل للإنقاذ حتما سيأتى على رأس أولوياتها الدفاع عن وحدة وتماسك الدولة الوطنية العربية والحيلولة دون انفراطها، إضافة إلى طرح مشروع لنظام عربى يؤسس لـ »اتحاد عربي« يضع نصب أعينه هدف تحقيق التكامل العربى الاقتصادى والسياسي. هذان الشرطان سيبقيان مرهونين بتأسيس »حركة تحرر عربية شعبية وحدوية وديمقراطية«، تعمل جنباً إلى جنب مع القيادة الرسمية للنظام العربي، على استنهاض الوعى والقدرات العربية للدفاع عن وجود وتماسك الدولة الوطنية العربية وتجديد الطموح نحو الاتحاد الذى يقود إلى وحدة العرب.
هذه الحركة الجديدة يجب أن تكون شعبية بقدر ما تكون ديمقراطية وأن تمتد فى عضويتها لتشمل كل القوى والتيارات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى المؤمنة بوحدة الأمة والحريصة على دعم وجود الدولة العربية والمعادية لسياسات ودعوات ومخططات إعادة التقسيم والتفكيك للدول العربية، وهى التى تكون ما تسميه الآن «الكتلة التاريخية» التى يقع عليها مسئولية التصدى لكل هذا الخطر، الوصول إلى تكوين هذه «الكتلة التاريخية» يتم عبر حزمة من الآليات التى باتت ضرورية إن لم تكن حتمية أولى هذه الآليات الوصول إلى وفاق وطنى داخلى يجمع كل القوى صاحبة المصلحة فى الدفاع عن الوطن وأمنه وسلامته، ضمن صياغة مشروع سياسى وطنى جديد يؤمن المشاركة السياسية، دون تخوين، لكل من لم ينخرط فى أية سياسات عدائية لدولته، وكل من تصدى ورفض كل اعتداء خارجى على هذا الوطن. هذا التوافق الوطنى لن يتحقق دون مصالحة وطنية فى الدول التى شهدت صراعات داخلية على السلطة طيلة السنوات الخمس الماضية، مصالحات تقوم على المصارحات والشفافية وصدق النوايا فى الدفاع عن أمن الوطن واستقراره ووحدته. ثانية هذه الآليات ربط النضال الوحدوى بالنضال الديمقراطى مدعوما بالنضال من أجل العدل الاجتماعي، فهذه النضالات الثلاثة لم يعد من الممكن الفصل بينها: ديمقراطية ـ عدالة اجتماعية ـ وحدة.
ثالثتها: طرح مفهوم «الديمقراطية التشاركية» الذى يؤمن مشاركة شعبية حقيقية فى السياسة والحكم من خلال انخراط الأحزاب والمنظمات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى واتحادات النقابات المهنية والعمالية فى أدوار تتعلق بالاقتصاد والإنتاج والسياسة العامة للدولة، بحيث تكون كل هذه القوى وعاء للعمل الوطنى المشترك القادر على ضمان حقوق عادلة فى الثروة والسلطة لكل الشعب بمكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية. فالديمقراطية الليبرالية سقطت بسقوط النظام الرأسمالى بعد أن أضحى هذا النوع من الديمقراطية مفعما بالتزوير للإرادات منذ أن تحول إلى «ديمقراطية من يملكون».
رابعتهاً: الربط بين هذه الحركات الوطنية التحررية داخل الأوطان مع مثيلاتها فى الأقطار العربية الأخرى بحيث يتحقق تحالف شعبى عربى عريض يضم كل التيارات الفاعلة فى المجتمعات العربية، والقادرة على التوحد على مشروع عربى للنهوض الحضارى وتحمل مسئولية السعى إلى تحقيقه من خلال تكوين شبكة متكاملة من أدوات التعامل الجماهيرية الشعبية والثقافية والإعلامية تكون قادرة على توظيف كل أدوات الاتصال ومعتمدة على قاعدة واسعة من المفكرين والمبدعين والشباب والطلائع العربية تحمل مسئولية الانتصار للمشروع العربى وتجديده وتطويره والترويج له.