ليس هناك شك فى أن التنمية المستدامة هى قضية القرن الحادى والعشرين، ويسود مناخ ثقافى يركز على تأمل وتحليل خبرة القرن العشرين من ناحية أخرى وينحو إلى استشراف المستقبل من ناحية أخرى. فى ضوء التغيرات العالمية التى برزت فى مطلع القرن الحادى والعشرين.
ولعل أبرز هذه التغيرات أن أصبحت النظرية الاقتصادية الرأسمالية ممثلة فى مذهب «الليبرالية الجديدة» هى النظرية السائدة فى العالم، مما دعا عديداً من دول العالم الثالث ومن بينها مصر إلى أن تعيد النظر فى توجهات التنمية، وأن تخفف من سلبيات التخطيط المركزى الجامد، وأن تفتح الباب واسعا وعريضا أمام القطاع الخاص لكى يسهم بإيجابياته فى مجال التنمية، وفى كل الميادين وبلا استثناء، وهكذا تدفقت موجات الخصخصة التى هدفت الى انسحاب الدولة من عديد من المجالات الإنتاجية، وتصفية القطاع العام، وتوسيع قاعدة ملكية المشروعات التى كانت تملكها الدولة بالكامل.
ومما لا شك فيه أنه ضاعف من آثار هذه التغيرات تعمق موجات العولمة الاقتصادية، التى تريد فتح الأسواق بلا حدود، وتدفق تجارة السلع والخدمات والمعلومات. غير إن الأزمة المالية الكبرى التى ضربت الاقتصاد الأمريكى عام 2008 -والتى هى فى حقيقتها أزمة اقتصادية- أسقطت النموذج الرأسمالى التقليدى وجعلت تدخل الدولة فى الاقتصاد مسألة حتمية.
وهكذا يمكن القول أن رئاسة «عبد الفتاح السيسى» للجهورية تمثل عودة للدولة التنموية التى تقوم بتخطيط التنمية وتنفيذ مشروعاتها.
ولعل أبرز اتجاه ينبغى التركيز عليه ونحن نستشرف المستقبل، هو أهمية البعد الاجتماعى للتنمية، وذلك أنه ساد فى وقت من الأوقات مفهوم مختزل للتنمية يركز أساسا على البعد الاقتصادى، وبدون اهتمام واضح بالأبعاد الاجتماعية. غير أن الخبرة المصرية فى مجال التنمية –مثلها فى ذلك مثل الخبرة العالمية- تشير إلى محورية الأبعاد الاجتماعية للتنمية، ولعل هذا الاعتبار هو الذى دعا دوائر التنمية فى العالم إلى صياغة مفاهيم جديدة، لعل أهمها مفهوم «التنمية المستدامة» الذى تتبناه دوائر الأمم المتحدة، والتى تركز على توسيع الاختيارات وفرص الحياة أمام الناس، ومراعاة مصلحة أجيال المستقبل، وفى ذلك ما فيه من إعلاء للبعد الاجتماعى للتنمية.
وتواجه مصر عددا من التحديات المستقبلية، لابد من مواجهتها من خلال توسيع آفاق الخيال التنموى، وعدم حصر مشروعات التنمية فى حدود الوادى الضيق، وترشيد عملية صنع القرار، والتفاعل الحى الخلاق مع المتغيرات العلمية، ومواجهة عدد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وأهمها مشكلات الفقر، والبطالة، والأمية، وقبل ذلك كله مشكلة الزيادة السكانية. ولا شك أن القرار التاريخى الذى اتخذته القيادة السياسية المصرية بالانطلاق فى مجال التنمية بعيدا عن الوادى القديم الذى كاد يضيق بالسكان، إلى آفاق الصحراء ليدل على بصيرة تاريخية، لأنه قرار فيه استشراف للمستقبل، ووضع الأسس الراسخة لتنمية مصر فى القرن الحادى والعشرين، ويمهد الطريق للأجيال القادمة لكى تواصل تعمير مصر المحروسة.
ومما لا شك فيه أن اتخاذ القرار الاقتصادى فى ظل موجات العولمة المتدفقة وما تفرضه من قيود على حركة الدول –وبخاصة الدول النامية- تحتاج إلى ترشيد عملية صنع القرار. ويتمثل هذا الترشيد أساسا بالإسراع لتحضير المجتمع المصرى ليكون عضوا فاعلا فى مجتمع المعلومات العالمى، ولن يتحقق ذلك إلا بتطبيق خطة قومية لجمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها، عن كافة جوانب المجتمع المصرى. كما أن حرية تداول المعلومات تعد عنصرا أساسيا من عناصر التحديث، لأن من شأنها أن تيسر عمليات الحوار والنقاش والجدل فيما يتعلق بالاختيارات التنموية، والتى لا يجوز أن تكون قرارا تتخذه نخبة أو قلة تكنوقراطية قليلة العدد، بل لابد لها أن تكون محصلة نقاش ديمقراطى واسع المدى، فى إطار المؤسسات الدستورية، وعلى مستوى الجامعات ومراكز البحوث، وفى دوائر المثقفين، بل وفى دوائر الرأى العام المختلفة.
ومن ناحية أخرى لابد فى عملية صنع القرار من التركيز على المتغيرات الكونية التى قلبت موازين العالم، وغيرت من عديد من الممارسات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وفى نفس الوقت الحرص على التفاعل مع المتغيرات الإقليمية، لأن مصر كانت وستظل عضوا أساسيا فى إقليمها، وهو النظام العربى.
ولابد أن تنصب جهود التنمية فى مجال التصدى لعدد من أبرز وأخطر المشكلات الاجتماعية وعلى رأسها الفقر. وقد لاحظت عديد من التقارير الدولية والإقليمية والمحلية وأهمها تقارير «التنمية البشرية»، أن دوائر الفقر- نتيجة عوامل شتى من أبرزها العولمة وآثارها السلبية- بدأت تتسع بالتدريج، بحيث أصبحت نسبة لا يستهان بها من السكان تعيش تحت خطر الفقر، وهكذا لابد من عدم الاعتماد على المؤشرات الزائفة الخاصة بارتفاع معدلات الدخل القومى كمؤشر على التقدم فى مجال التنمية، وإنما هنا حتمية فى الاعتماد على مؤشر عدالة التوزيع بين مختلف الطبقات، لأنه مؤشر اكثر موضوعية وصدقا فى الدلالة على نجاح عملية التنمية الشاملة، ولسنا فى حاجة إلى الإشارة إلى أن الفقر أصبح مشكلة عالمية، تجابهها الدول المتقدمة مثلها فى ذلك مثل الدول النامية، ومن هنا تعددت البرامج التى تحاول القضاء على الفقر ومواجهته، ولذلك يمكن لصانع القرار المصرى الاستفادة من الخبرة الدولية فى هذا الموضوع الهام، الذى إن لم يحل بصورة إيجابية يمكن أن يؤثر تأثيرا خطيرا على الاستقرار السياسى.
ومما لا شك فيه أن مشكلة البطالة أصبحت هى المشكلة التى تؤرق بال المسئولين فى كافة النظم السياسية المعاصرة، وأيا كانت أسباب البطالة، وهل هى ترد إلى عوامل الركود الاقتصادى، أو زيادة الاعتماد التكنولوجى، أو الفشل فى الإدارة الرشيدة للاقتصاد، فمما لا شك فيه أنها تمثل قنبلة موقوتة بالنسبة لأى نظام سياسى. وتثبت الشواهد أن هناك علاقة وثيقة بين البطالة وعدم الاستقرار السياسى والتوتر الاجتماعى وزيادة معدلات المشكلات الاجتماعية المرضية. كالتفكك الأسرى والجريمة.
وإذا انتقلنا إلى الأمية – والتى ترتفع فى مصر معدلاتها إلى 26% من السكان- لأدركنا أن مصر لا تستطيع أن نجتاز القرن الحادى والعشرين، بغير أن تصوغ استراتيجية فعالة لمواجهة هذه المشكلة الزمنة. وهل يتصور حقا أن تنجح مصر فى التعامل مع الثورة العلمية والتكنولوجية والاتصالية وهى تزخر بهذا العدد الضخم من الأميين؟ إن الأمية تقف عائقاً أمام تنمية القوى البشرية وتدريبها وتأهيلها للتعامل مع منجزات الصناعة والتكنولوجيا الحديثة.
ومما لا شك فيه أن مشكلة الزيادة السكانية تأتى فى صدارة التحديات للتنمية المستدامة فى مصر. وذلك لأن كل جهود التنمية يمكن أن تتبدد إمن لم يحدث ضبط حقيقى فى مجال السكان.