ما الذى يجعلنا نعرض مرة أخرى للعدوان الثلاثى الذى شاركت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ضد مصر عقب قرار الرئيس «جمال عبد الناصر» بتأميم قناة السويس؟
السبب هو أن المؤرخ المعروف الدكتور «عادل غنيم» كلف بتحرير موسوعة عن القضية الفلسطينية، وقد خصص المجلد الثالث كله عن العدوان الثلاثى الذى شارك فى كتابة بحوثه مجموعة مرموقة من المؤرخين المصريين الذين حاولوا تجلية كل جنباته.
وقد تعود الدكتور «غنيم» أن يدعونى لأشارك فى تدشين كل مجلد من مجلدات الموسوعة. وهكذا اجتمعت مجموعة من المؤرخين لحضور هذا الحدث العلمى المهم والذى يعد المجلد الجديد الذى صدر إضافة قيمة للمكتبة العربية.
واكتشفت وأنا أستعد لحضور هذه الندوة العلمية وكنت أقلب فى أوراقى القديمة أننى قمت بدور المعلق أيضا على ندوة شبيهة وفى نفس الموضوع نظمها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عن «حرب السويس بعد أربعين عاما» عقدت فى 29 أكتوبر 1996، وأشرف على إعداد أبحاثها المرحوم المؤرخ المعروف «رءوف عباس».
وتبين لى أننى كتبت فصلا كاملا عن الموضوع بعنوان «التاريخ بين الكتابة والتأويل» ناقشت فيه ثلاثة موضوعات هى «كيف يكتب التاريخ» و«قراءة التاريخ»، و«السويس والتاريخ والمؤامرة» نشرته فى كتابى «العالمية والعولمة» الذى صدر عام 2000 عن دار نهضة مصر.
وحين طالعت ما سبق أن كتبت تبين لى أنه يصلح للتعليق على الموسوعة القيمة التى أشرف على تحريرها الدكتور «عادل غنيم» – باعتبار أنه ينصب على نفس الموضوع والواقع أن ممارسة كتابة التاريخ تقليد قديم عرفته كل الحضارات الإنسانية، ولكن تحوله إلى علم اجتماعى مسألة حديثة، وقد شهد التاريخ- باعتباره ممارسة علمية- تطوراً حاسماً فى القرن العشرين فى إطار نشأة وتطوير العلوم الاجتماعية بشكل عام، ويرى بعض الباحثين أن أهم تطور لحق بكتابة التاريخ هو ظهور «التاريخ الاجتماعى» باعتباره بمناهجه ونظرياته وأدوات بحثه، إضافة مهمة للمعارف الإنسانية، بحكم أن التاريخ السياسى للنظم والدول والحكام كان هو الذى يسيطر على الساحة، غير أن التاريخ الاجتماعى بتركيزه على الجوانب الاقتصادية وعلى ممارسة الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، وتفاعلاتها مع السلطة السياسية وأساليب حياتها وأنماط معيشتها، أعطى دفعة كبيرة للدراسات التاريخية.
ولو تأملنا الكتابة التاريخية المعاصرة لاكتشفنا أن هناك نمطين أساسيين يسيطران على الساحة: كتابة التاريخ من منظور ضيق، وكتابته من منظور واسع.
ونقصد بكتابة التاريخ من منظور ضيق الاقتناع بالسرد التاريخى الرتيب للأحداث، دون الانطلاق من مشكلة بحثية محددة تثير التساؤلات أو تصوغ الفروض التى يمكن التحقق منها، ودون توسيع آفاق الرؤية لتشمل- بالإضافة إلى الأحداث السياسية- الجوانب النفسية والثقافية والاجتماعية. هى كتابة إذن تعيد سرد ما حدث، بغير إضافات خلاقة، ودون سعى أصيل للوصول إلى تفسيرات جديدة للأحداث فى ضوء قراءات مناسبة لإنجازات العلوم الاجتماعية، فى مجالات علم السياسة والعلاقات الدولية وعلم النفس السياسى.
غير أن هناك نمطاً آخر لكتابة التاريخ، وهو كتابته من المنظور الواسع بمعنى الاستفادة من منجزات العلوم الاجتماعية المختلفة.
ولنأخذ على سبيل المثال العدوان الثلاثى الذى كان موضوع أبحاث الموسوعة. فى تقديرنا لا يمكن فى بحث مختلف جوانب هذه الحرب، إغفال تأثير الذاكرة التاريخية المصرية على صنع القرار الخاص بتأميم قناة السويس.
والذاكرة السياسية أصبحت الآن موضع دراسة خاصة فى علم السياسة المقارن.
وهكذا يمكن القول إن دراسة تأثير الذاكرة التاريخية على من اتخذوا
قرار التأميم وعلى رأسهم «عبد الناصر» مسألة أساسية لفهم الدوافع، ولتقدير لماذا
اتخذ هذا القرار الثورى العنيف، الذى أصبح من بعد رمزا لقدرة الدول النامية على
استخلاص حقوقها من الدول الاستعمارية التى نهبتها.
من ناحية أخرى يثير قرار التأميم، موضوع التنشئة السياسية للضباط
الأحرار الذين كان زعيمهم هو «جمال عبد الناصر» وقد التفتت الموسوعة لهذا الموضوع
مخصصة فصلا كتبه المؤرخ المعروف «عاصم الدسوقى» عن «فلسطين فى وعى الضباط الأحرار».
ويثير موضوع التآمر بين الدول الثلاث التى شاركت فى العدوان ثلاث
نقاط رئيسية، الأولى الإشارة إلى وثيقة «سيفر» التى تضمنت الاتفاق التآمرى لفرنسا
وإنجلترا وإسرائيل.
أما النقطة الثانية فهى إشارات أبحاث الموسوعة إلى أن «عبد الناصر»
لم يتوقع «أن يصل حجم التآمر إلى هذا الحد لدرجة أنه لم يصدق التقارير التى تسلمها
من بعض السفراء المصريين فى عدة دول أوروبية والتى أجمعت على أن عدوانا إسرائيلياً
فرنسيا وبريطانيا يتم الترتيب له.
ومن ناحية أخرى كان يزيد من ثراء التحليل التاريخى الاعتماد على
إنجازات العلوم السياسية فى مجال بحث «عملية صنع القرار» والعوامل الخارجية
والداخلية التى أثرت عليه بالإضافة إلى العوامل النفسية.
وهكذا يمكن القول إن مكونا أساسيا من مكونات الكتابة التاريخية، هى
الطريقة التى يقرأ بها المؤرخ نفسه الوقائع التاريخية، ومدى قدرته على الاستفادة
من منجزات العلوم الاجتماعية المختلفة.
ولعل الملاحظة التى نختم بها عرضنا الوجيز هى اتجاهات أعضاء النخبة
السياسية الحاكمة وهى هنا الضباط الأحرار إزاء العدوان.
ويلفت النظر بشدة الاتجاه الاستسلامى «لصلاح سالم» الذى اقترح أن يسلم «عبدالناصر» نفسه للسفارة الإنجليزية زاعما أن الهدف من العدوان الخلاص منه شخصياً.
ومن ناحية ثانية غلبة الاتجاهات الأخلاقية العقيمة على أسلوب بعض صناع القرار من القادة العسكريين وفى مقدمتهم المشير «عبدالحكيم عامر» الذى اعترض على اقتراح الرئيس «عبد الناصر» سحب بعض القوات من سيناء للدفاع عن القاهرة قائلاً إن ذلك عار!
ويكشف تردده فى اتخاذ القرار عن خبرة مفتقدة فى القيادة العسكرية
وهذا ما أثبته سلوكه فى حرب 1967.
كما أن اتخاذ القرارات العسكرية الثورية من قبل «جمال عبدالناصر»
تكرر فى 1967 فى القرارات الاستراتيجية التى اتخذها والتى أدت إلى تصعيد الموقف مع
إسرائيل.
وأيا ما كان الأمر فالموسوعة الفلسطينية عمل تاريخى أصيل يستحق من أشرف عليه ومن شارك فيها أخلص التحية.