على الرغم من كل هموم المصريين وانشغالاتهم بها التى وصلت أحياناً إلى درجة الانقسام الساخن على نحو ما هو حادث فى أزمة جزيرتى تيران وصنافير وأخيراً أزمة نقابة الصحفيين مع وزير الداخلية لم يستطع المصريون النأى بأنفسهم عن الكوارث التى تحدث فى سوريا الشقيقة وآخرها التدمير والخراب الذى تعرضت له مدينة حلب التى تعتبر مصدر الثقل الصناعى لسوريا وبوابتها مع تركيا.
انشغال المصريين وأحزانهم على ما يحدث لسوريا ومآل التقسيم بعد التدمير الذى يتهددها له دافعان؛ أولهما، ذلك الارتباط العقلى والوجدانى بأبعاده التاريخية بين الشعب العربى فى مصر والشعب العربى فى سوريا. المصريون، وكذلك السوريون، على يقين أنهما شعب واحد قسمته الحدود والسياسة. قديماً عاشوا الوحدة بكل أبعادها التى ربطت بين ما كان يسمى بـ «بر الشام» وبين «بر مصر»، وحديثاً عاشوا الوحدة بمفهومها السياسى العصرى فى دولة واحدة أخذت اسم «الجمهورية العربية المتحدة» لم تهتز روابط المصريين بالسوريين رغم كارثة الانفصال، فعاد ارتباطهم بعد خمسة أعوام فقط بكارثة أشد وطأة هى نكسة عدوان يونيو 1967، وشاء القدر أن يخوضا معاً معركة النصر فى أكتوبر 1973، يوم خاض الجيش العربى فى سوريا ومصر هذه المعركة وحقق نصراً تاريخياً على العدو الصهيوني. ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم ولن يستطيع المصريون نسيان سوريا، وسوف يبقى الشوق إلى الوحدة متجدداً إلى أن يتحقق بمشيئة الله.
أما الدافع الثانى لانشغال المصريين بما آلت إليه الأحداث الدامية فى سوريا فهو الخوف على مصر من أن تتعرض للمصير نفسه. يعيش المصريون فى كل لحظة هواجس الخوف على بلدهم، وسؤالهم المنشغلون به هو: كيف يمكن أن نجنب مصر مصير سوريا؟
يعرف المصريون أنهم عايشوا مع سوريا ودول عربية أخرى أحداث الموجة الثورية، وإذا كان هناك من استطاع النجاة مثل تونس فإن هناك من فشل ووقع أسير صراعاته الداخلية خاصة سوريا واليمن. ومصر لم تسلم من المؤامرة، تعرضت ثورتها للسطو من جماعة الإخوان التى تصورت أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم إقامة دولة الخلافة مجدداً فى الأستانة (اسطنبول الآن)، بايعوا رجب طيب إردوغان، وسعوا لاختطاف مصر، لكن المصريين فجروا ثورة جديدة فى يونيو 2013 استردوا بها ثورتهم، لكنهم رغم ذلك، يعيشون الخطر الإرهابى المتحالف مع الإخوان ويريد إسقاط مصر، ولم يتوقف بعد عن المحاولة.
الخوف المصرى مبرر، لذلك يسأل المصريون كيف لنا أن نحمى مصر من أن تتعرض للمصير السوري؟ ويسأل المصريون أيضاً كيف لمصر أن تساعد سوريا إدراكاً منهم أن أمن وبقاء مصر مرتبط تاريخياً بأمن واستقرار سوريا. هناك اجتهادات كثيرة بهذا الخصوص من أبرزها اجتهادان:
الاجتهاد الأول، يحاول أن يختزل الأزمة السورية فى معلومة غير دقيقة وهى أن الجيش السورى لم يقف مع الثورة السورية، وأن الجيش دعم النظام المستبد وقاتل الشعب ليمنع سقوط هذا النظام، وكان هذا بداية انقسام الجيش، ومن هنا دخلت الثورة السورية فى مستنقع الأزمة. ويرى هذا الاجتهاد أن السبب الأساسى فى نجاح الثورة المصرية أن الجيش انحاز لثورة الشعب، لم يقاتل الشعب، ولم ينقسم على نفسه، حافظ على وحدته، ونجح فى أن يحفظ بذلك وحدة الوطن. وبناء على ذلك يخرج هذا الاجتهاد بإجابتين لسؤال كيف لنا أن نحمى مصر من مصير سوريا بالقول علينا أن نتوحد خلف الجيش، خصوصاً بعد أن أصبح لنا رئيس من الجيش منتخب، علينا ألا ننقسم أو أن ندخل فى أية خلافات مع الرئيس ومع الجيش، فإن خوفنا على مصر يفرض علينا أن نقبل بما يقبل به الرئيس وما يراه الجيش. فهذا هو بر الأمان الوحيد المتاح الآن فى ظل الظروف القاسية والخطيرة التى تتهدد مصر.
هناك اجتهاد آخر يتفق مع الاجتهاد الأول فى أن توحد الجيش المصرى مع الشعب وانحياز الجيش لثورة 25 يناير كان صمام الأمان لمصر، لكنه يختلف مع الاجتهاد الأول فى أن الجيش السورى خذل الثورة وقاتل الشعب وانحاز للنظام. فما عُرف بـ «الثورة السورية» كان فى بدايته انتفاضة إصلاحية لم تعرف شعار «إسقاط النظام»، ولم يتدخل الجيش ضدها، وحدها قوات الأمن هى من تصدى بعنف للمتظاهرين، لكن الجيش وقف يدافع عن الدولة ضد المنظمات الإرهابية التى دخلت إلى سوريا رافعة شعار الثورة لإسقاط النظام والدولة معاً من أجل إقامة «دولة الخلافة». إرهاب مدعوم وممول من الخارج استطاع أن يحدث انشقاقاً فى صفوف الجيش نفسه وبانقسام الجيش دخلت سوريا طريق الهاوية.
ويرى هذا الاجتهاد أن سوريا كانت مهيأة لهذا التدخل الخارجى وهذا الاستقطاب الداخلى بسبب سيطرة نظام الدولة التسلطية على الحكم وهى الدولة التى سيطرت على كل مقاليد القوة والسلطة واختزلت المجتمع المدنى وصادرت الحياة السياسية وأقصت الشعب عن الحكم وعن الثروة، غابت الحرية وغابت العدالة. فتداعى التماسك الوطنى بكل أشكاله خاصة السياسية والاجتماعية، وأصبحت الدولة والمجتمع قبلها، مهيئين لقبول التدخل الخارجي، والشئ نفسه سبق أن حدث فى العراق، فقد سقطت الدولة فى العراق قبل أن يطأ الغزو الأمريكى أرض العراق، بسبب انهيار التماسك الوطنى الذى تداعى أمام سطوة الدولة التسلطية التى احتكرت كل مصادر الثروة والسلطة.
هذا الاجتهاد يرى أن حماية مصر من المصير السورى تتحقق من خلال تحقيق القدر الأعلى من التماسك الوطنى عبر آليات المشاركة السياسية والانخراط بالمشاركة فى مشروع وطنى يستهدف الانتصار للشعب، وتحقيق الأهداف التى تفجرت ثورة 25 يناير من أجلها، وقامت ثورة 30 يونيو لاستردادها وهى أهداف الحرية والعدالة والكرامة لكل المصريين.
هذا الاجتهاد لا يرى صداماً بينه وبين دعوة الحرص على الجيش ووحدته ودعم الرئيس ولكن ليس على أساس التفويض بالتفرد فى إدارة البلاد ولكن على أساس المشاركة الشعبية الواسعة وإدارة الحكم بشفافية ومحاربة كل أشكال الفساد، والعودة مجدداً إلى الأهداف التى طالب بها الشعب يوم ثورته، فعندما تصبح إرادة الشعب هى الإرادة العليا لن تستطيع أعتى القوى الخارجية إحداث أى اختراق فى الداخل المتوحد بين الشعب بكل أطيافه وبين جيشه ورئيسه، فهذا هو صمام الأمان، الذى نستطيع من خلاله إيجاد حلول لكل الأزمات دون أى اهتزاز لا فى الأمن ولا فى الاستقرار، فالأمن الحقيقى لا يفرضه الإكراه، لكنه يتحقق بالرضا. نقلا عن الأهرام