دعتنى كلية الآداب بجامعة عين شمس للاشتراك فى حلقة نقاشية عن الهوية والثقافة فى إطار ندوة علمية حاشدة ناقشت بحوثا متعددة فى الموضوع، وشارك فيها باحثون من دول عربية متعددة بالإضافة إلى الباحثين المصريين وذلك يوم 7 مايو الماضى.
وقد آثرت أن أقدم خريطة معرفية متكاملة لأبعاد
الهوية والثقافة لأن المفردات الأساسية لهذه الخريطة هى الكفيلة بإثارة المشكلات
المهمة التى تثيرها الهوية من ناحية، والثقافة من ناحية أخرى.
وموضوع
الهوية يقضى أولا تعريفها تعريفا دقيقا من ناحية، والتمييز الدقيق بين أنماطها
المختلفة من ناحية أخرى، لأن هذا التمييز هو الذى يسمح لنا بالنفاذ إلى جوهرها وما
تثيره من مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية. وأنا حريص على أن أسجل أننى
اعتمدت أساسا فى دراسة موضوع الهوية على كتاب نادر فى هذا المجال لأنه أحاط بمختلف
أبعاد الموضوع بصورة مبدعة حقاً. وعنوان هذا الكتاب هو «سياسة
جديدة للهوية: المبادئ الأساسية لعالم يتسم بالاعتماد المتبادل». ومؤلف الكتاب هو
«بيكو باريك» وترجم الكتاب ترجمة رائعة وقدم له «حسن محمد فتحى» وراجعه «محمود
ماجد عبدالخالق» وصدر عام 2013 عن المركز
القومى للترجمة بالقاهرة.
وقد
حرص المترجم فى تقديمه الممتاز للكتاب أن يشير إلى ثلاثة كتب أساسية علاج كل منها
الموضوع من زاوية خاصة وإن كانت كلها تتميز بالعمق.
وقد أدهشنى حقا أن المترجم لم يفلت من دائرة اهتماماته بعرض المؤلفات السابقة فى الموضوع ما سبق لى أن كتبته عن «الهوية والعولمة» حيث يقرر -وأنا أقتبس من تقديمه- «كما أرشح للقارئ أن يراجع ما كتبه المفكر المصرى «السيد يسين» عن الهوية والعولمة حيث يقر بوجود علاقات جدلية فريدة من نوعها فى طبيعة العلاقة بين المفاهيم والأشياء بين الهوية والعولمة فيقول إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان فى آن واحد. وفى دائرة هذا التجاذب والتقاطب والتكامل يأخذ مفهوم الهوية على الغالب دور الطريدة بينما يأخذ مفهوم العولمة دور الصياد. فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتجهز عليها ثم تتغذى بها. وفى دائرة هذه المطاردة تعاند ثقافة الهوية أسباب الذوبان والفناء وتحتد فى طلب الأمن والأمان وتتشبث بالوجود والديموقة والاستمرار».
وأعترف أن المترجم القدير قد عبر ببلاغة منقطعة النظير عن آرائى فى العلاقة بين الهوية والعولمة ربما بصورة أفضل مما كتبته لأنه عبر عن جوهر أفكارى بدقة بالغة. وأيا ما كان الأمر فإن أى خريطة معرفية للهوية لابد لها أن تبدأ أولا بتعريف الموضوع.
وقد بادر «بيكو باريك» فى الفصل الثانى من كتاب الممتع وعنوانه «مفهوم الهوية» بتعريفها بعد أن بدأ الفصل بهذه السطور ذات الدلالة «تنشأ قضية الهوية فى سياقات مختلفة مخلفة تراثا ثريا من الخطاب فى كل سياق «ثم ما يلبث أن يتساءل» من الجائز أن نتساءل أيضا ما الذى يكسبنا كينونتنا الفردية ويفرقنا ويميزنا عن الآخرين ويجعلنا هذا الشخص المختلف عن الآخرين؟
ويختتم تساؤلاته بتعريف دقيق مبناه «تكمن هوية الشئ
فى تلك السمات الجوهرية التى تحدد أنه هذا الشئ أو هذا النوع من الأشياء، وليست
الأشياء الأخرى وتميزه عن الأشياء والأنواع الأخرى».
ويميز
«باريك» بين ثلاثة أنماط من الهويات تثير كل منها مشكلات متعددة.
النمط
الأول هو الهوية الشخصية، والنمط الثانى هو الهوية الاجتماعية، والنمط الثالث هو
الهوية الإنسانية.
والهوية
الفردية لها ثلاثة أبعاد مترابطة ولكن مختلفة. فالكائنات البشرية عبارة عن أفراد
منفردين، ومراكز مميزة للإحساس بالذات، ويمتلكون أجساما وتفاصيل ذاتية مختلفة،
وحياة داخلية لا يمكن إقصاؤها، وشعور بالكيان الشخصى، والأفكار والآراء الخاصة.
فالفرد ــ إذا نظرنا للهوية الدينية ــ قد يكون يهوديا أو مسيحيا أو مسلما أو بوذيا. وإذا نظرنا إلى الانتماء السياسى فهو قد يكون شيوعيا أو ليبراليا أو إسلاميا أو فوضويا.
ومما لا شك فيه أن الانتماء الدينى المحدد سيفرض أنماطا معينة من السلوك الاجتماعى حسب الدين الذى يؤمن به الفرد. كما أن الانتماء السياسى للفرد سيحدد مجال معتقداته التى يؤمن بها ونوعية سلوكه الاجتماعى.
ومما لا شك أن الهوية الدينية تثير مشكلات متعددة.
لعل أهمها ظهور ما يطلق عليه «الأصوليات» سواء كانت أصوليات يهودية أو مسيحية أو
إسلامية. وهذه الأصوليات تأخذ عادة شكل المذاهب الدينية
المتطرفة التى تزعم أنها تعود إلى أصول الدين النقية وتتشبث بها بصورة قد تؤدى من
بعد إلى أن تكون مصدرا للعنف أو الإرهاب، مثل «الأصولية اليهودية» فى إسرائيل أو
«الأصولية الإسلامية» التى كانت هى الدافع الرئيسى لنشوء جماعات إسلامية إرهابية
مثل جماعة «الجهاد وبالجماعة الإسلامية» فى مصر، وتنظيم «القاعدة» وأخيرا «تنظيم
داعش».
ويلفت
النظر حقا فى نمط الهوية الدينية ما يمكن تسميته التحولات الجذرية فى الهوية الشخصية
التى تصيب عددا من المفكرين البارزين.
ولدينا فى مصر أمثلة بارزة على التحولات فى الهوية
الشخصية قد يكون أبرزها تحول «سيد قطب» من مفكر شبه ليبرالى وشبه يسارى بحكم كتابه
«العدالة الاجتماعية فى الإسلام» إلى مفكر إسلامى متطرف كما يشهد على ذلك كتابه
الشهير «معالم فى الطريق» الذى فصّل فيه نظريته عن تكفير المجتمع ونعته بالجاهلية،
ودعا للانقلاب عليه بالقوة المسلحة لتأسيس الدولة الدينية.
ولو
نظرنا إلى النمط الثانى للهوية فهو «الهوية الاجتماعية» والتى تتسم بالتداخل
والتماسك الاجتماعى. فالناس جماعات عرقية أو ثقافية أو غيرها، وهذه الجماعات تشكل
وتميز نفسها عن الآخرين.
ومن
النماذج البارزة للهوية الاجتماعية «الهوية المصرية» والتى دار حولها جدل بين
المفكرين المصريين يدور حول التساؤل الرئيسى هل نحن مصريون فقط أم نحن مصريون وعرب
فى نفس الوقت؟
ونصل
أخيرا إلى «الهوية الإنسانية» بمعنى أننا جميعا -بشكل أو بآخر-
متشابهون
مهما اختلفت جنسياتنا لأننا بشر. ولعل هذه الحقيقة هى التى أبرزها الكاتب الأمريكى
الشهير «مارك توبن» فى كتابه «ما الإنسان» حين قرر أن الإنسان هو الإنسان فى كل
مكان. وهى الفكرة الجوهرية التى ركز عليها الفيلسوف «جيرمى ديـكين» فى كتابه
الأخير الصادر عام 2014 «حضارة التعاطف» والتى يرى أنها تمثل مستقبل
الإنسانية فى القرون المقبلة بعد أن تمر بمرحلة العنف الدموى والإرهاب المعولم.