فى ضوء تفرقتنا بين الهوية العربية
الشاملة والهويات الوطنية والتى رسمنا حدودها فى المقال الماضى نحاول اليوم إبداء
السمات البارزة للهوية العربية من خلال صياغة عدد من المقولات الأساسية.
المقولة الأولى هناك شخصية عربية تعبر
عن أمة عربية واحدة.
والمقولة الثانية تقوم الشخصية العربية
على دعامتين أساسيتين: نمط أساسى للإنتاج نما وتطور فى البلاد العربية كلها وفق
مراحل متشابهة، وبناء فوقى وأحد أبرز عناصره: الخبرة التاريخية المشتركة واللغة
العربية والتراث الثقافى المشترك.
والمقولة الثالثة تتميز الشخصيات
الإقليمية المختلفة فى الوطن العربى بحكم تميز التكوين الاقتصادى- الاجتماعى لكل
منهما. بعبارة أخرى تفرد التاريخ الاجتماعى لكل شخصية إقليمية يكسبها سمات فريدة
قد لا توجد فى شخصيات إقليمية أخرى. فهناك سمات للشخصية المصرية ليس ضروريا
تواجدها فى الشخصية العراقية أو التونسية.
المقولة الرابعة الهوية العربية
والشخصيات الإقليمية بحكم ارتباط الأولى بنمط الإنتاج السائد وارتباط الثانية
بالتكوين الاقتصادى- الاجتماعى لكل منها، ليست بناء مجردا مغلقاً، وإنما هى تتغير
بتغير نمط الإنتاج السائد، أو بتغير المكونات الأساسية للتكوين الاقتصادى
الاجتماعى المحدد. وترتيبا على ذلك ينبغى رفض أى تعميم عن الهوية العربية ينظر إلى
حصر سماتها باعتبارها سمات ثابتة لا تتغير مع مرور الزمن.
فى ضوء هذه المقولات المحددة، يمكن أن
نتقدم خطوة أخرى نحو إعطاء مضمون حى لهذه المبادئ النظرية.
وسنبدأ بالحديث فى ظهور وتطور نمط
الإنتاج فى الوطن العربى: إذا طالعنا السطور الأولى لكتاب «الدكتور عبد العزيز
الدورى» «مقدمة فى التاريخ الاقتصادى العربى» نجده لا يخالجه أدنى شك فى أنه يتحدث
عن التاريخ الاقتصادى لأمة عربية واحدة. أنظر إليه يقول: «إن فهم خبرات الأمة
وتتبع سيرتها التاريخية، ضرورة أولية لوعى الحاضر وبداية لأزمة للانطلاق إلى
المستقبل».
ويعرض الأستاذ «الدورى» فى المقدمة
لخطته، التى نلخص المسيرة العامة لظهور وتطور نمط الإنتاج فى العالم العربى.
وبعدما يستعرض الدكتور «الدورى» المراحل التى مر بها الاقتصاد العربى يصل إلى فترة
السيطرة العثمانية، وهى فترة ركود اقتصادى فى البلاد العربية، افتتحت بسيطرة
البرتغاليين على طريق التجارة إلى الهند ويضرب الملاحة العربية –وهى من عناصر
الرخاء الاقتصادى- وختمت بالاستعمار الغربى. وبدأت الفترة بنظام إقطاعى فرضته
الدولة أو أقرته، وانتهت بتكوين الإقطاع الجديد فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين، وهى فترة جعلت البلاد العربية ولايات على هامش الأحداث وعرضتها للتغلغل
الغربى وأكدت التخلف فيها».
وهكذا تظهر المسيرة التى مر فيها نمط
الإنتاج فى المشرق العربى، الذى نظر إليه الدكتور الدورى كوحدة واحدة. وإذا كان لم
يدخل فى بحثه التطور فى المغرب العربى، فإن «سمير أمين» فى كتابه «الأمة العربية»
يستعرض تطور نمط الإنتاج فى المشرق العربى والمغرب العربى معاً وهو يلاحظ- فى
استعراضه للأقطار المختلفة للوطن العربى فى المرحلة قبل الاستعمارية، وتمييزه بين
المشرق من ناحية ومصر بمفردها من ناحية أخرى، وأخيراً المغرب من ناحية ثالثة- أنه
بالرغم من الفروق بين كل منطقة، إلا أنه مع الزمن تبين أن هناك حدا أدنى من
التشابه فى البنية الاجتماعية- الاقتصادية فى المشرق والمغرب، مع تمايز واضح لمصر.
ويؤكد هذه النتيجة «على الوردى» حين
يتحدث عن صراع البداوة والحضارة على اتساع العالم العربى، ويقوم بتصنيف للأقطار
العربية من هذا المنظور. يقول «الوردى»: «نستطيع على أى حال تصنيف الأقطار
العربية... إلى ثلاثة أصناف رئيسية:
صنف يشبه العراق من حيث وجود الحضارة
والبداوة فيه جنبا إلى جنب، تسيطر عليه الحضارة تارة والبداوة تارة أخرى. ويشمل
هذا الصنف أكثر البلاد العربية كالأردن والشام والمغرب وتونس والجزائر واليمن.
وصنف البداوة فيه أشد وأكثر تأثيرا من
الحضارة (نجد والإحساء والعسير وليبيا والجزء الصحراوى من الجزائر وعمان وحضرموت).
وهناك أخيرا نمط تكون فيه الحضارة أقوى
من البداوة. وهو صنف نادر الوجود فى العالم العربى. والقطر العربى الوحيد الذى
تتمثل فيه خصائص هذا الصنف هو -إلى حد ما- القطر المصرى ولاسيما الوجه البحرى، أما
الصعيد فيمكن عده من الصنف الأول (يشبه العراق).
ويمكن القول إن العناصر الأساسية للبناء
الفوقى العربى الواحد فى الوطن العربى ينهض على ثلاثة عناصر بارزة: الخبرة
التاريخية المشتركة، واللغة العربية، والتراث الثقافى المشترك. ويكفى بالنسبة
للعنصر الأول أن نتذكر الخبرة التاريخية المشتركة للأمة العربية حين خضعت غالبية
أقطارها للهيمنة العثمانية حوالى خمسة قرون، أصابتها بالعقم والجمود، وكانت تمثل
مرحلة انهيار حضارى حقيقية. ومن ناحية أخرى مازالت حية فى أذهاننا الخبرة
التاريخية المشتركة للأمة العربية فى الكفاح ضد الاستعمار والهيمنة الغربية بكل
صورها وأشكالها: وصاية كانت أو انتدابا، أو احتلالا، أو استعمارا استيطانيا.
أما بالنسبة للغة العربية، نموها
وتطورها وقدرتها على مجاراة روح العصر، فمشكلاتها واحدة على مستوى الأمة.
ويبقى أخيرا التراث الثقافى المشترك،
الذى مازال حيا فى أذهان الأمة العربية، والذى من فرط ترسخه وتجذره فى الوعى
العربى، وفى الوجدان العربى، يراه بعض النقاد العرب عائقا حقيقيا فى سبيل التطور
والتقدم.
ولا يعنى ذلك أن البناء الفوقى العربى
يتسم بالثبات، بل إنه نتيجة للتغيرات التى تفاوتت فى عمقها والتى لحقت بنمط
الإنتاج، يمر بمرحلة تغيرات بالغة العمق، بعبارة أخرى تتفكك روابط وتنشأ علاقات
أخرى بين مختلف مكوناته، تحت تأثير عوامل تغير بالغة التنوع.
ويناقش هذا الموضوع «شارناى» أحد
الباحثين الفرنسيين الثقات فى دراسته «جوانب التفكك الثقافى والتآلف القومى». وهو
يميز تمييزا ذكيا بين عصر النهضة الثقافية الأولى الذى بدأ فى نهاية القرن التاسع
عشر، وعصر النهضة الثقافية الثانية الذى واكب عمليات التنمية الاقتصادية واسعة
المدى فى الوطن العربى فى السنوات الأخيرة، حيث برز مفهوم «الإستراتيجية الثقافية»
الذى يشير إلى عمليات الإحياء الثقافى والتغيير المخطط المدروس للقيم التقليدية فى
الموروث الثقافى.