تميزت العقود الأخيرة من القرن العشرين بقيام مناظرة كبرى دارت حول الحضارات، وذلك بين أنصار «حوار الحضارات» من جانب ودعاة «الصراع بين الحضارات» من جانب آخر. واختتمت المناظرة بدعوة جديدة تتجاوز كلاً من الحوار والصراع، وهي التي نادت بـ «التحالف بين الحضارات».
وهكذا يمكن القول أننا – إذا طبقنا قواعد المنهج الجدلي- لقلنا أن حوار الحضارات كان الفكرة Thesis، وأن صراع الحضارات كان نقيض الفكرة antithesis، وأن الحوار بين الحضارات أخيرا يمثل التآلف بين النقيضين synthesis. وهكذا أغلقت دائرة هذه المناظرة الكبرى بهذا الحل السعيد وهو التحالف بين الحضارات، وفق مشاريع دولية مدروسة تبنتها منظمة الأمم المتحدة.
وإذا أردنا أن نوثق المعلومات الخاصة بأطراف هذه المناظرة الكبرى لقلنا أن الشخصيات الرئيسية التي دخلت في المناظرة ثلاثة هم: محمد خاتمي الرئيس السابق لجمهورية إيران الإسلامية صاحب الدعوة إلى الحوار، والبرفسور صمويل هنتنغتون عالم السياسة الأميركي الشهير المبشر بالصراع. خوسيه زاباتيرو رئيس الحكومة الإسبانية وأردوغان رئيس الوزراء التركي وقت إطلاق مبادرة التحالف بين الحضارات.
وبدأت المناظرة الحضارية الكبرى بالخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس السابق محمد خاتمي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1999 ودعا فيها لتحويل «حوار الحضارات» من مجرد فكرة يتداولها المفكرون إلى سياسة ثقافية تتبناها الأمم المتحدة. وقد لاقى الاقتراح الإيراني قبولاً منقطع النظير وصدر بقرار لا سابقة له بأن يكون عام 2001 هو عام حوار الحضارات.
غير أن عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون سرعان ما دخل إلى حلبة المناظرة بمقالة مهمة نشرها تحت عنوان «صراع الحضارات»، والتي قرر فيها أن العالم سيشهد مرحلة خطيرة من صراع الحضارات يتمثل في حرب ثقافية بين «الحضارة الغربية» و»الحضارة الإسلامية» والحضارة الكونفوشيوسية. وقد أحدث نشر المقالة دوياً عالمياً، ما دفع صاحبها إلى نشر كتاب في الموضوع لاقى ذيوعاً كبيراً وصدرت له ترجمة باللغة العربية.
وبعدما هدأت المعركة بين مدرسة «الحوار» ونقيضتها مدرسة «الصراع» كان الأوان قد آن لإغلاق الدائرة والذي تم بمبادرة «التحالف بين الحضارات» التي أطلقها زاباتيرو وأردوغان كما سبق أن أشرنا. وتقوم المبادرة على أربعة مشاريع: الأول عن الإعلام، ويستند برنامج التحالف إلى دعامتين: موقع إلكتروني بالإضافة إلى مجموعة واسعة من البرامج التدريبية تهدف إلى دعم الصحافيين وصناع الرأي العام في جهودهم لرصد التفاوت الثقافي في بيئة عالمية سريعة التغير. والمشروع الثاني إنشاء صندوق تضامن الشباب ويقدم منحاً لمنظمات الشباب، والمشروع الثالث عن التعليم حيث يمثل تحالف الحضارات وسيلة لنشر المواد لتحسين التفاهم بين الأمم والشعوب، والمشروع الرابع عن الهجرة والدمج لتعزيز العلاقات بين المهاجرين والمجتمعات المطبقة.
وظننا - نحن الباحثين في العلوم الاجتماعية- أن نهاية هذه المناظرة الحضارية التاريخية أغلقت باب الاجتهاد في الموضوع، خصوصاً بعد أن انخفضت التوترات الثقافية بين الأطراف الدولية المتصارعة. غير أنه يبدو أن حالة الاضطراب السياسي الكبرى في السياسة العالمية والتي سبق لعالم السياسة الأميركي الأشهر جيمس روزناو أن تنبأ بها في كتابه المهم «الاضطرابات السياسية الدولية: نظرية عن الاستمرار والتغير» الذي صدر عام 1990 قد أدت إلى بروز مناظرة حضارية عالمية جديدة.
والحقيقة أن الذي لفت نظري إلى هذه المناظرة هو الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة والذي نشر مقالة موثقة بالغة الأهمية في 30 حزيران (يونيو) الماضي في جريدة «المصري اليوم» تحت عنوان «المناظرة العظمى الجديدة» وهو يتحدث عن نظريتين متنافستين: الأولى تتحدث عن انتشار الحضارات Fusion تحاول تفنيد نظرية صراع الحضارات على أساس أننا نعيش بفضل العولمة في ظل حضارة واحدة وإن كان العالم فيه ثقافات متعددة. وصاحبا هذه النظرية هما كيشور محبوتاني ولورانس سومرز واللذان نشرا في الموضوع مقالة مهمة في دورية «الشؤون الخارجية» (عدد حزيران 2016).
أما النظرية المضادة فقد صاغها ستيفس والت الأستاذ في جامعة هارفارد والذي نشر في دورية «السياسة الخارجية» في أيار (مايو) 2016 مقالة عرض فيها نظريته عن اضطراب Confusion الحضارات. ومضمون مقالته أنه – على عكس ما ذهب إليه محبوتاني وسومرز فإن حالة الصراع العالمي لم تنخفض بل إن القدرة في مجال حل الصراعات والنزاعات قد تضاءلت.
وقد استفدت من مقالة الدكتور عبد المنعم سعيد، وقمت بعملية بحث واسعة النطاق، واطلعت على النصوص الأصلية للمناظرة والتعقيبات النقدية عليها والتي كتبها مفكرون متعددون، ولو أردنا أن نقدم رؤية نقدية للآراء المتعارضة التي حفلت بها المناظرة الحضارية الكبرى الجديدة لأكدنا أننا في الواقع نحتاج إلى صياغة «نموذج معرفي» جديد لفهم العلاقات الدولية في عالم اليوم.
وأول مفردات هذا النموذج المعرفي أنه على رغم التسليم بأن العولمة أدت إلى أن تنشأ حضارة عالمية تستخدم كل الشعوب أدواتها - خصوصاً ما حققته الثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها البث التلفزيوني الفضائي الذي سمح للإنسانية للمرة الأولى في تاريخ البشرية أن يشاهد ملايين الناس الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية في الوقت الواقعي Real Time لحدوثها، ما ساعد على نمو «وعي كوني عالمي» ستكون له آثار عميقة الغور في سلوك الدول والبشر - بالإضافة إلى اختراع شبكة الإنترنت - إلا أن علينا ألا ننسى أن الصراع العالمي يقوم عادة بين دول لها مصالح استراتيجية متعارضة. وبغض النظر عن الحضارة المعولمة الواحدة فإن هذه الدول تستخدم كل الوسائل بما فيها الوسائل العسكرية لتحقيق أهدافها. ليس ذلك فحسب بل إن بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية -زعيمة الإمبريالية في الوقت الراهن- قد تتورط في مؤامرات مخابراتية مخططة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وقد يصل هذا التدخل إلى محاولات قلب بعض النظم السياسية التي لا ترضى عنها كما حاولت إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك قبل ثورة 25 يناير. وقد تحاول تدعيم جماعة إسلامية متطرفة مثل جماعة «الإخوان المسلمين» باعتبارها –كما رأت- معتدلة إذا ما قورنت بتنظيم «القاعدة» أو بتنظيم «داعش». ولعل هذا هو الذي دفع قادة الولايات المتحدة إلى عدم الاعتراف بالانقلاب الشعبي في 30 حزيران (يونيو) الذي دعمته القوات المسلحة المصرية، وذلك على أساس الزعم بأنه من المهم إعادة إدماج جماعة «الإخوان» في الحياة السياسية مرة أخرى.
ولو ركزنا على الصراع الدولي العنيف الذي يدور الآن بين الإمبراطورية الأميركية الغاربة وبين روسيا من ناحية والصين من ناحية أخرى لأدركنا أن الحضارة العولمية الواحدة لا يمكن لها أن توقف هذا الصراع بسهولة.
ومن ناحية أخرى لو نظرنا إلى «انتشار الإرهاب المعولم» ونشوء تنظيم «داعش» الذي أعلن الخلافة الإسلامية المزعومة وباشر هيمنته باستخدام وسائل بربرية وصلت إلى حد قطع رؤوس الرهائن علانية أو إغراقهم أو إحراقهم وهم أحياء، لأدركنا أن ظاهرة «التوحش» أصبحت إحدى الظواهر الخطيرة التي تهدد أمن وسلامة الشعوب قبل الحكومات والنظم السياسية. ويكفي أن نحصر عدد عشرات آلاف القتلى وملايين المهجرين الذين هربوا من بلادهم إلى أوروبا لإنقاذ أنفسهم من الجحيم المنتشر في البلاد التي قامت فيها ثورات الربيع العربي لكي ندرك أن البعد الحضاري أو حوار الثقافات لا يمكن له أن يقف سداً منيعاً أمام الاضطراب العالمي. ومن ثم يمكننا أن نصل إلى نتيجة أساسية مفادها أن نظرية اضطراب العالم لها مصداقية مؤكدة وأن نظرية «دمج» الثقافات تقوم على بعض الوقائع التي لا شك في صدقها ولكنها تتغافل عن وقائع الصراع الدولي الحاد الذي يدور الآن على مستوى العالم.