الدور المصرى بين الهيبة والمصالح وشهادة التاريخ
لا يستطيع أحد أن ينكر العلاقة الارتباطية بين الهيبة والمصالح، فالهيبة بالنسبة للدولة تعنى مزيجاً فريداً من المكانة والقوة. والمكانة بدون القوة تبقى معنوية ومحدودة التأثير خاصة فى الصراعات بين الدول. والقوة بدون المكانة هى طيش انفعالى محكوم عليه بالزوال، لذلك فإن الربط بين الهيبة والقوة هو الذى يحفظ المكانة التى تحمى المصالح، وهذا كله يتوقف على مدى رشادة الأدوار التى تقوم بها الدولة دعماً للمكانة وتحقيقاً للهيبة وحفظاً للمصالح. ونحن فى مصر الآن أحوج ما نكون للوعى بهذه العلاقة. وهذا يستلزم خلق توافق وطنى حول حتمية هذه المنظومة من الأدوار عن وعى وعن اقتناع، وعى يأخذ فى اعتباره مدى فداحة المخاطر التى تتهدد مصالح مصر وأمنها القومي، واقتناع بدروس التاريخ التى أكدت دائماً ومازالت تؤكد أن مصر صاحبة الأدوار المشهودة كانت هى مصر القوة والمكانة والهيبة، وأن مصر المنكفئة على ذاتها المنعزلة عن جوارها كانت هى مصر الضعيفة المهددة والمسيّرة دائماً من الخارج، العاجزة عن امتلاك استقلالية قرارها الوطني، ولعل فى تجربة علاقات مصر بأفريقيا ما يؤكد هذه العلاقة الارتباطية بين الدور وبين الهيبة من ناحية وبين الهيبة وبين المصالح من ناحية أخري.
فالدور المصرى الواعى والرشيد والفعال فى القارة الأفريقية على مدى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، أعطى لمصر هيبة ومكانة مرموقة وغير مسبوقة فى القارة الأفريقية فأصبحت هى القيادة وهى الريادة التى لا يجرؤ أحد أن يتطاول عليها أو يتحداها، ومن هنا تعاظمت المصالح المصرية فى القارة الأفريقية، والعكس هو الذى حدث والذى يحدث، عندما تراجعت المكانة، بسبب ما حدث من ارتباك فى الدور وتقاعس عن أداء المهام وارتداد كامل عن المشروع الوطنى الذى كان الدور المصرى فى أفريقيا أحد روافده. وما يقال عن تجربة الدور المصرى فى أفريقيا يقال أيضاً عن تجربة الدور المصرى فى العالم العربي، بل وعلى المستويين الإقليمى والعالمى عندما كانت مصر قائدة ورائدة لحركة التحرر العربية وشريكاً فاعلاً فى قيادة وريادة حركة التحرر العالمية وخاصة معسكر حركة عدم الانحياز.
الوعى بهذه العلاقة بين المكانة والدور وبين القدرة على تحقيق المصالح وحمايتها يفرض علينا أيضاً ضرورة إدراك أن دور أى دولة القادر على تحقيق المكانة وحماية المصالح وتعظيمها ينبع حتماً من عمق تجربتها التاريخية، أو بالأحرى هو محصلة هذه التجربة وليس أبداً مشروطاً بالقدرات المالية. كما يعتقد البعض عن خطأ أو عن قصور فى الوعي.
فالدور هو أولاً محصلة تفاعلات التجربة التاريخية للدولة ولا يمكن أن ينشأ أبداً من فراغ على نحو ما تتوهم بعض الدول التى استيقظت يوماً فوجدت نفسها تسبح وسط أمواج من مليارات الدولارات. والدور ثانياً هو انعكاس مباشر للموقع الجيوستراتيجى للدولة، وقدرتها على تفعيل هذا الموقع، وهو ثالثاً تعبير عن القدرات الكلية للدولة (القوة الشاملة) بأنواعها المختلفة: الصلبة والناعمة والذكية، وهو رابعاً مرتبط بحزمة من المحددات التى قد تسمح وقد تعوق أداء هذا الدور: محددات داخل الدولة مرتبطة بنظامها السياسى من ناحية فعالية هذا النظام، ومدى تحقق التماسك الوطنى بأشكاله المختلفة السياسى والاجتماعى والعرقى والمذهبي، إلى جانب محددات أخرى من خارج الدولة مرتبطة بكل من البيئة الإقليمية والدولية، وهو فى النهاية دفاع عن المصالح الوطنية وهو مسعى إستراتيجى لحماية الأمن الوطنى من كل مصادر التهديد بأنواعها المختلفة (العسكرية، الأمنية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية) وبأبعادها المختلفة سواء كانت داخلية أم إقليمية أم دولية. هذا يعنى أن الدور يعد مصلحة فى ذاته، فدور الدولة يكون فى بعض الأحيان على رأس مصالحها الوطنية ومتطلبات أمنها الوطنى.
إدراك هذا كله يؤكد لنا أن الدور بالنسبة لمصر ليس اختياراً بل ربما يرقى إلى مستوى الفريضة، فهو معيار للكفاءة الوطنية وهو مسئولية وطنية وقومية، وإذا كان الانحسار والانطواء والتراجع إلى داخل الحدود قد فرض علينا فى مرحلة سوداء من تاريخنا، فإن هذا الانحسار والانكفاء يجب ألا يتحول إلى ثقافة وطنية أو إلى قناعة سياسية، فنحن لسنا مضطرين بعد ثورتين هائلتين رفعتا شعارات الحرية والكرامة والعزة الوطنية أن نقبل ثانية بالتراجع عن دورنا الذى لا يوجد بين أقطار الأمة العربية من هو قادر على أن يملأ فراغ غياب هذا الدور المصرى وهذا ما أكدته تجربة العقود الأربعة الماضية من تاريخنا العربي، لكننا ونحن نفكر فى استعادة هذا الدور يجب أن نأخذ فى الاعتبار تطورات تجرى حولنا شديدة الخطورة.
من أهم هذه التطورات أن الدول العربية تشهد الموجة الثانية من إعادة التقسيم والتفتيت. خطورة هذه الموجة أنها ترتكز على قاعدة الهوية العرقية والطائفية مستهدفة الهوية القومية العربية ومن ثم فإن العروبة نفسها باتت مهددة بهذه الموجة التقسيمية التى تكاد تكون خطراً سرطانياً وربما تكون العروبة بمنظور جديد ديمقراطى ملتزم بتحقيق العدالة هى الحل مجدداً للدفاع عن الوحدة الوطنية للدول العربية.
والنظام العربى هو الآخر يمر بمرحلة شديدة الخطر، من جراء خطر التقسيم الذى يهدد الدول العربية تحت طائلة الصراع الطائفي- العرقى المستشري، ومن جراء غياب القيادة القادرة على تحقيق الأهداف الأمنية من استعادة التماسك واستعادة الانضباط فى العلاقات والتفاعلات العربية ووقف وهج نيران الحروب والصراعات الدامية المشتعلة فى العديد من الدول العربية، فى وقت تواجه فيه القضية الفلسطينية أخطر تحدياتها.
كل هذا يحدث فى ظل صعود ثلاثة مشاريع كبرى تزاحم النظام العربى على النفوذ وتهدده بدرجات متفاوتة فى أمنه واستقراره وتفرض عليه الكثير من التحديات هى المشروع الإسرائيلى والمشروع التركى والمشروع الإيراني، تتصارع كلها على القيادة والسيطرة فى ظل غياب المشروع العربى وغياب القوة العربية القادرة على المنافسة وحماية المصالح العربية وفى ظل ظهور فراغ قوة فى المنطقة ناتج عن الانسحاب الأمريكى مع تطلع ثلاث قوى عالمية كبرى على وراثته، أو على الأقل تقاسم النفوذ الأمريكى هي: روسيا والصين والاتحاد الأوروبى على الأرض العربية.
تطورات خطيرة تفرض حتمية الدور المصرى دفاعاً عن المصالح واستعادة للهيبة والمكانة كما تؤكدها دروس التاريخ، لكن يبقى السؤال الأهم وهو: ما هى الأدوار وما هى المهام التى يجب أن تنهض مصر للقيام بها وضمن أية ضوابط أو توجهات؟.