الهوية الأصولية الإسلامية المتطرفة لها تاريخ طويل فى الصدام مع الحداثة الغربية. وذلك منذ المرحلة الأولى لتكونها فى العصر الحديث حين كانت مجرد هوية متخيلة تحلم بإقامة الدولة الدينية محل الدول العلمانية العربية الكافرة، وتسعى لقلب هذه الدول بالعنف لو فشلت باستخدام الوسائل السلمية فى سعيها لاسترداد الحلم المفقود وهو الخلافة الإسلامية التى تم إلغاؤها عام 1928 وكانت لهذه الواقعة التاريخية أصداء عميقة فى العالم الإسلامى.
والهوية الإسلامية تحولت بعد ذلك من مرحلة «الهوية المتخيلة» التى لا تقنع بمجرد الحلم بمجموعة من الأفكار المجردة والأمانى المتخيلة إلى «هوية أصولية» تعمل على تأسيس حركات إسلامية نضالية كان أبرزها تأسيس الشيخ «حسن البنا» جماعة الإخوان المسلمين فى مصر عام 1928 التى انبثقت منها- من بعد- حركات أصولية متعددة.
ويمكن القول أنه منذ بداية تبلور مشروع الهوية الإسلامية المتخيلة والجماعات الإسلامية وفى مقدمتها- جماعة الإخوان المسلمين - ترفض الحداثة الغربية جملة وتفصيلا، وذلك على أساس فهمها الخاص للأنواع المتعددة للحداثة الغربية.
ويمكن القول ابتداء أن الحداثة الغربية - باعتبارها مشروعا حضاريا- تقوم على عدة أسس جوهرية. أولها وأهمها تحرير الفرد من ربقة الشمولية التى كانت سائدة فى المجتمع الإقطاعى الأوروبى، وتقرير حرية الفرد فى الحركة والسلوك، وأهم من ذلك الاعتراف بحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى إطار الديمقراطية. والأساس الثانى للحداثة الغربية هو العقلانية وهى جوهر الحداثة الفكرية الغربية التى شعارها االعقل- وليس النص الدينى- هو محك الحكم على الأشياءب.
والأساس الثالث للحداثة الغربية هو الاعتماد على العلم والتكنولوجيا فى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ومعنى ذلك أن الحداثة الغربية جعلت الدستور هو المرجعية العليا التى تقرر حقوق المواطنين وواجباتهم وليس النص الدينى.
والأساس الرابع للحداثة الغربية هو حرية المواطنين فى ممارسة السلوك الاجتماعى والثقافى فى حدود الدستور والقانون.
ولو تأملنا بدقة التعريفات السابقة لمختلف أنماط الحداثة الغربية لأدركنا على الفور لماذا رفضت الحركات الأصولية الدينية هذه الحداثة.
فهذه الحركات تعتبر أن مرجعيتها الأساسية ليست الدستور وإنما القرآن الكريم الذى ترى فيه حلا لكل مشكلات المجتمع سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية. ومن ناحية أخرى هى ترى أن الديمقراطية كنظام سياسى -التى تمثل جوهر الحداثة الغربية- ليست سوى «بدعة» غربية لأن الشورى -فيما ترى- هى العمود الأساسى للنظام السياسى الإسلامى، وبغض النظر عن الخلاف الشهير بين الفقهاء وهل هى ملزمة أم معلمة.
أما رفضها القاطع للحداثة الفكرية التى ترى أن «العقل وليس النص الدينى هو محك الحكم على الأشياء» فمنطقى لأنها تعتبر أن المرجعية العليا ليست للعقل ولكن للنص الدينى سواء كان قرآنا أو سنة.
وقد رفضت الحركات الأصولية بشدة مبدأ حرية المواطنين فى ممارسة السلوك الاجتماعى لأنها ترى ضرورة إخضاعهم للرقابة الدينية اللصيقة، التى تأخذ فى بعض البلاد الإسلامية المعاصرة تشكيل فرق دينية للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتمارس الرقابة على سلوك الناس فى الشوارع ولها حق ردعهم بل عقابهم.
وقد تأخذ هذه الرقابة شكل إقامة دعاوى «الحسبة» على المفكرين الذين ينشرون أفكارا يعتقد قادة الحركات الأصولية أن فيها ازدراء للأديان.
ولو تأملنا التكوين الداخلى لبعض الجماعات الأصولية -وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين- لاكتشفنا على الفور أنها جماعة «سلطوية» لأنها تقوم أساسا على تقديم «البيعة» لمن يطلق عليه المرشد العام للجماعة.
ولقد كان مشهد المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور «محمد بديع» بعد إعلان نجاح الدكتور «محمد مرسى» فى انتخابات رئاسة الجمهورية بالغ الدلالة على السلطة المطلقة لهذه الجماعة.
فقد نشرت صورة له مجتمعا مع الدكتور «مرسى» وهو يقبل رأسه معلنا أنه «أحلّه من بيعته»! مع أن الممارسة الفعلية لحكم الدكتور «مرسى» تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أنه كان يصدر قراراته بناء على أوامر مكتب الإرشاد الذى يرأسه «فضيلة» المرشد العام!
ومن ثم يمكن القول- إذا شئنا أن نتبنى نظرة موضوعية ونقدية- لموضوع الرفض الإسلامى للحداثة الغربية ضرورة أن نركز تركيزا شديدا على الممارسات الاستعمارية الغربية المتعددة وما صاحبها من مجازر ومعارك دامية ضد الشعوب العربية مما أوجد عداوة واضحة بين هذه الشعوب والحداثة الغربية التى أرادت الدول الغربية فرضها بالقوة على البلاد العربية لخدمة مصالحها الاستعمارية.
إلا أنه يمكن القول أن عددا من كبار المفكرين العرب فى عصر النهضة العربية الأولى استطاعوا ببراعة الفصل بين الوقائع التاريخية الثابتة فيما يتعلق بالممارسات الغربية الاستعمارية والتقدم الحضارى الذى أحرزته الدول الغربية فى كل الميادين بما فى ذلك الميدان العسكرى مما مكنها من استعمار العالم العربى.
ولذلك ركز جيل المنورين العرب الأوائل على البحث الدقيق فى موضوع أساسى اتخذ له عنوانا هو «لماذا تخلف المسلمون وتقدم الغربيون؟».
وفى هذا المجال لم يكتف الرواد العرب الأوائل من المفكرين النهضويين بنقد «نصوص» الحداثة الغربية أيا كانت هذه النصوص كتبا أو ممارسات عملية، ولكنهم قاموا بأنفسهم «بالرحلة» إلى الغرب حتى يسجلوا بأنفسهم -من خلال الملاحظة المباشرة- سر تقدم الغربيين.
وربما كان أبرز رواد أدب الرحلة فى الفكر العربى الحديث هما «رفاعة الطهطاوى» المصرى و«خير الدين» التونسى.أما «الطهطاوى» فقد أرسله «محمد على» والى مصر ليكون إماما لبعثة علمية مصرية سافرت إلى فرنسا للتخصص فى علوم متعددة مدنية وعسكرية. وكانت المفارقة أن هذا «الإمام» هو الذى أتاح لنا كتابه البالغ الأهمية «تخليص الإبريز فى وصف باريز» التعمق فى فهم مختلف الممارسات الفرنسية من خلال اطلاع عميق على أبرز النصوص الفكرية الفرنسية.
أما اخير الدين التونسى فقد أخرج لنا كتابه الشهير «أقوم المسالك فى وصف الممالك» الذى سجل فيه ملاحظاته الثاقبة على التجربة الأوروبية.
وهكذا يمكن القول إن المعركة مع الحداثة الغربية متعددة الأوجه. غير أن أصحاب النزعات الأصولية قرروا بصورة قطعية «أنه يمكن أن تتبنى تقدمهم التكنولوجى وترفض رفضا قاطعا أفكارهم لأنها تتعارض مع الهوية الإسلامية المتخيلة. وهكذا حرم أنصار هذه النزعات الأصولية أنفسهم من التعمق فى أصول نظرية التقدم الغربية»!