ابتدع تخصصاً علمياً فريداً هو «الفوتوكيمسترى» - أدركت أنه حصل على الجائزة الرفيعة ليس فقط لأنه اكتشف اكتشافاً علمياً مبهراً فى مجال اختراع كاميرا فائقة السرعة نستطيع من خلالها مراقبة سلوك تفاعل الذرات فى الوقت الواقعى لها، ولكن لأنه قام فى الواقع بثورة علمية.
وقد لفت نظرنا فيلسوف العلم الأمريكى الشهير توماس كون فى كتابه الذائع الصيت «بنية الثورات العلمية» أن بعض الاكتشافات العلمية تعد ثورة علمية لأنها - بحكم تفردها - تغير ممارسة العلم نظرية وممارسة.
وهكذا اعتبر انجاز «جاليليو» ثورة علمية، وكذلك نظرية النسبية التى صاغها ألبرت آينشتين، ويضاف إليهم أحمد زويل الذى اكتشف لأول مرة فى تاريخ الإنسانية زمناً جديداً هو «الفمتوثانية».
وقد قرر ذلك بكل وضوح البروفيسور بنجنت نوردن رئيس لجنة جائزة نوبل للكيمياء بالأكاديمية السويدية للعلوم فى عبارة بالغة الدلالة «أن استخدام زويل لتقنية الليزر فائقة السرعة «فمتوسكوب» يمكن وضعه فى سياقه التاريخى جنباً إلى جنب مع استخدام جاليليو للتليسكوب. الذى صوبه شطر كل شئ مضئ فى القبة السماوية الزرقاء. أما زويل فقد صوب ليزر الفيمتوثانية على كل شئ يتحرك فى عالم الجزئيات. لقد انتقل زويل بتيلسكوبه هذا إلى آفاق العلم. ويمكننا الآن أن ندرس التحركات الحقيقية للذرات فى الجزئيات، ويمكننا أن نتحدث عنها فى الزمان والمكان بنفس الطريقة التى نتصور بها تلك الذرات والجزئيات.. فلم تعد الجسيمات أشياء غير مرئية».
وأضاف «روبرت برادوسكى» مؤرخ العلوم والأستاذ بمعهد روشستر للتكنولوجيا «وباختراع هذه الطرق العلمية أصبح زويل كريستوفر كولمبس لعالم الفمتو وأول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التى تقع فى جزء من مليون بليون جزء من الثانية».
(راجع هذه الأحكام المضيئة عن الثورة العلمية التى قام بها أحمد زويل وهى منشورة على ظهر غلاف كتاب زويل الرائع «رحلة عبر الزمن: الطريق إلى جائزة نوبل») (القاهرة: الطبعة الأولى مركز الأهرام للنشر، 2003). ولو تتبعنا التكريمات العلمية المتعددة التى حصل عليها الدكتور زويل قبل حصوله على جائزة نوبل وبعدها لأدركنا أن أكبر جامعات العالم وأشهر المراكز العلمية منحته الدكتوراه الفخرية وميدالياتها التذكارية المهمة مثل ميدالية «أينشتين» مما يدل على الإدراك العالمى بالأهمية التاريخية للثورة العلمية التى أنجزها أحمد زويل. ولم تتأخر مصر عن تكريم إبنها البار فقد منح «قلادة النيل» التى لا تمنح إلا لرؤساء الدول وها هى مصر تنظم لزويل رحمه الله جنازة عسكرية يتصدرها الرئيس السيسى تقديرا لمكانته العالمية.
بدأ الدكتور زويل زيارة مصر بصورة منتظمة بعد حصوله على جائزة نوبل، وقدم للحكومة المصرية مشروعه القومى للنهضة العلمية والذى أطلق عليه مدينة زويل. وبدأ زويل من خلال المحاضرات والندوات يتفاعل بعمق مع النخبة الثقافية المصرية.
وفى هذا المجال نظمت له ندوة فى دار الأوبرا لإلقاء محاضرة ورأس الندوة الأستاذ/ أسامة هيكل وزير الإعلام الأسبق الذى دعانى لكى أكون معقباً على محاضرة زويل عن «البحث العلمى والنهضة الحضارية».
كانت هذه أول مرة أتعرف عليه وعلى شخصيته الفذة، واكتشفت من خلال المحاضرة أنه يتمتع بعقلية فلسفية نادرة، وأن لديه نظريات اجتماعية وحضارية تتعلق بالاعتماد على البحث العلمى المتقدم لتحقيق التنمية المستدامة وتنفيذ المشروع الحضارى الذى تحلم به مصر للخروج من نفق التخلف إلى آفاق التقدم.
منذ هذه الندوة بدأت بينى وبين الدكتور زويل صداقة عميقة أساسها إدراكى بأهمية الثورة العلمية التى أنجزها، والتى جعلته فى عداد أنبغ علماء العالم، وإدراكى أننى وإن كنت أستاذاً لعلم الاجتماع السياسى إلا أننى مهتم اهتماما خاصاً بمشكلات البحث العلمى نظرية وتطبيقا منذ عملى فى نهاية الخمسينيات باحثاً بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.
فى هذا المركز العتيد الذى تتلمذت فيه على أستاذى الراحل دكتور مصطفى سويف عالم النفس الشهير تعلمت فيه أهمية القراءة فى تاريخ العلم وفلسفة العلم وسوسيولوجيا العلم، ومن هنا سر تقديرى الشديد لإنجاز زويل المبهر. وإدراكا من الدكتور زويل لاهتماماتى العلمية دعانى لإلقاء محاضرة فى جامعة زويل عن «مشكلات البحث العلمى فى العالم العربى» حضرها أساتذة الجامعة والطالبات والطلبة. وعقب المحاضرة التى سجلت على اليوتيوب دارت مناقشات متميزة بينى وبين الحضور.
كنت أقابل الدكتور زويل كلما جاء فى زيارة لمصر، وربما كانت آخر مرة نلتقى فيها فى الندوة التى نظمتها دار أخبار اليوم التى يرأس مجلس إدارتها الأستاذ ياسر رزق.
وحضرها مجموعة من المفكرين من بينهم الدكتور محمد المخزنجى بحكم تتبعه الدقيق لإنجازات العلم العالمى.
وأذكر أننى داعبت الدكتور زويل قائلا له هل تقدر أنك أنجزت ثورة علمية كاملة باكتشافك الفيمتوثانية! قال مبتسماً أترك تقدير ذلك للعلماء ومؤرخى العلوم. كنت أتابع بإعجاب شديد المحاضرات التى يلقيها الدكتور زويل فى الجامعات العربية أو فى الجامعات الغربية، ولفت نظرى أنه مثله فى ذلك مثل ألبرت أينشتين لم يكن مجرد عالم بارز ولكنه كان فيلسوفاً بالمعنى الدقيق للكلمة لأنه كان يتبنى مجموعة من الآراء المبنية على قراءات عميقة فى العلوم الاجتماعية التى تتعلق بعلاقة البحث العلمى بالتطور الحضارى فى العالم.
ويشهد على ذلك اهتمامه الشديد بتبسيط العلوم، بالإضافة إلى المقالات التى كان ينشرها فى الصحف وتحمل آراءه المثمرة التى تتعلق بدور العلم فى إنجاز التنمية وتحقيق السلام العالمى فى سياق من حوار الحضارات الذى يقرب بين الثقافات المتعددة التى يزخر بها العالم.
وقد جمع الدكتور زويل مقالاته فى الصحف ومقابلاته الإذاعية والتليفزيونية فى كتاب أعدته للنشر دار نشر آسيوية.
وقد فوجئت منذ شهور بمكالمة تليفونية من الدكتور زويل - وكان فى الولايات المتحدة الأمريكية - وطلب منى أن أعد فقرة تعليقا على هذا الكتاب الجديد لكى تنشر على ظهر الغلاف كما هى عادة الناشرين الغربيين. وقد قلت له إن تأملى لمشواره العلمى جعلنى أتذكر كتاباً مهما قرأته فى شبابى الباكر عنوانه «أينشتين عالما وفيلسوفا» وهذه هى الفكرة الجوهرية التى سيتضمنها تعليقى على كتابه الذى أرسل أصوله لى الناشر قبل النشر.
عبر زويل فى المكالمة عن سعادته بالفكرة والتى سجلت فعلاً على ظهر الكتاب تقديراً للنبوغ العلمى العالمى لابن مصر البار.
وداعا أيها الصديق العزيز.