يمكن القول بدون أدنى مبالغة إن انتخاب دونالد ترامب بخطابه السياسى الشعبوى الصارخ رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية يعد فى ذاته إعلانا جهيرا عن نهاية عصر الأيديولوجية وبداية حقبة الشعبوية!
ولا شك أن القرن العشرين كان هو بذاته عصر الأيديولوجية الذى دار فيه الصراع الفكرى العنيف والذى سرعان ما تحول إلى حروب شاملة بين أيديدلوجيات عنصرية مغلقة أبرزها هى النازية والفاشية وبين أيديدلوجيات منفتحة هى الديمقراطية. كانت هذه هى الجولة الأولى من الصراع الأيديولوجى الذى اشتعل فى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والتى انتهت بالهزيمة الساحقة لكل من «هتلر» زعيم النازية و«موسوليني» رائد الفاشية وكذلك إمبراطور اليابان الذى قاد الحملات العسكرية والإمبريالية فى آسيا. غير أنه بالرغم من تحالف الاتحاد السوفيتى مع الدول الغربية فى معسكر «الحلفاء» للقضاء على دول «المحور» (ألمانيا وإيطاليا واليابان) والاشتراك الفعال للجيش السوفيتى فى إنزال الهزيمة الساحقة بها إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة سرعان ما بدأ الصراع الأيديولوجى العنيف بين الشيوعية السوفيتية من جانب التى يتبناها الاتحاد السوفيتى والديمقراطية الرأسمالية التى تتبناها أساسا الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة »العالم الحر«، كما ساد هذا الوصف فى الخطاب السياسي. وبالرغم من اشتعال «الحرب الباردة» ـ إن صح التعبير ـ بين المعسكرين فإن الذى منع اندلاع حرب عالمية ثالثة هو ما أطلق عليه «توازن الرعب النووي» لأن كلا من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية كانا يمتلكان القنبلة الذرية، وهكذا تحول الحديث عن الحرب -لو قامت وكيفية مواجهتها- محل الحرب الفعلية!
لكن ذلك لم يمنع الصراع الإيديولوجى من الاشتعال بين المعسكرين، خصوصا بعد أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) سياسة «الاحتواء» Containment أو وضع السياسات المختلفة وعلى رأسها السياسة الثقافية لاحتواء خطر تمدد الشيوعية إلى بلدان العالم المختلفة.
وفى خضم هذه الحرب الأيديولوجية المشتعلة بين الشيوعية من جانب والديمقراطية الرأسمالية من جانب آخر والتى تعددت معاركها ظهرت نظرية «نهاية الأيديولوجية» التى صاغها أحد أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين وهو »دانيل بل« Danial Bell والتى قرر فيها أنه لا يمكن اعتقال التطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى لمجتمع ما فى ظل أيديولوجية مقننة لها مبادئها المقدسة التى لا يمكن تغييرها فذلك ضد منطق تاريخ التطور الإنساني. ودارت حول هذه النظرية معارك فكرية شتى واعتبرت لدى بعض المفكرين محاولة فاشلة للقضاء على جاذبية الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية فى عديد من بلاد العالم الثالث. غير أن بعض منظرى الرأسمالية قرروا أن يتحولوا من الدفاع عن الديموقراطية الرأسمالية بالهجوم على الماركسية ذاتها وذلك بصياغة نظرية رأسمالية مقننة تقوم على مقولات محددة مثلها فى ذلك مثل الماركسية تماماً.
وقد قام بهذه المحاولة الجسورة -وإن كانت فاشلة- عالم الاجتماع الأمريكى «بيتر برجر» الذى نشر كتابا مثيرا عام 1987 بعنوان «الثورة الرأسمالية». ولعل دافعه إلى ذلك المقولة التى أذاعها المفكر اليمينى الفرنسى المشهور «ريمون آرون» الذى قال - فى معرض دفاعه عن الرأسماليةد- «أننا لن نستطيع أبدا أن نجارى الماركسية ونصوغ نظرية متكاملة مثلها تفسر الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتاريخ« وكانت وجهة نظره أن الماركسية نجحت فى صياغة نظرية شاملة فى الوقت الذى فشلت فيه الرأسمالية فى مجاراتها على هذا الصعيد.
إلا أن بيتر «برجر» تقدم الصفوف لكى يفند وجهة نظر «ريمون آرون» وأصدر كتابه المثير والذى هو فى الواقع نظرية مصاغة بطريقة صورية محكمة. وقد قدم خمسين مقولة للدفاع عن الرأسمالية وتبريرها وإظهار أفضليتها على الماركسية. وهذه المقولات تتعلق بثمانية ميادين رئيسية هي: الرأسمالية والحياة المادية، الرأسمالية والطبقات، الرأسمالية والديموقراطية، الرأسمالية والثقافة الفردية، الرأسمالية وتنمية العالم الثالث، الرأسمالية فى شرق آسيا، الرأسمالية الصناعية، إضفاء الشرعية على الرأسمالية.
وفى مجال الممارسة الفعلية حاول بعض المنظرين الفرنسيين الماركسيين وعلى رأسهم «لويس ألتوسيز» الإنقاذ النظرى للماركسية لكى تتحرر من جمودها وتصبح أكثر قدرة على التعامل مع الواقع، ولذلك حاول فى كتابه الشهير «قراءة كتاب رأس المال» تجديد النظرية الماركسية، إلا أنه اعترف بعد ذلك بفشله حين قرر فى مؤتمر عقد فى إيطاليا بعنوان «الماركسية فى المجتمعات ما بعد الثورية» على سبيل النقد الذاتى «كنا نبحث عن جوهر خالص للنظرية الماركسية» وتبين لنا أنه ليس هناك جوهر أساسى لأى نظرية.
أما على الصعيد الرأسمالى فقد حاولت الدول الديمقراطية إنقاذ الرأسمالية من مصيرها الحتمى بعد فشلها فى اشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة واستحدثت صيغة دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State والتى تضمن تأمينات اجتماعية متعددة للمواطنين الضعفاء اقتصاديا فى مجال البطالة والمرض إلا أن التجربة فشلت للعجز عن تمويل هذه البرامج الاجتماعية المتعددة. وقبيل نهاية القرن حدثت واقعة كبرى لها دلالتها التاريخية العظمى وهى انهيار الاتحاد السوفيتى بعد فشل النظام السلطوى فى إشباع الحاجات الأساسية للجماهير وفى تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد ثبت بما لا يدع للشك مجالاً أن النظام الديمقراطى العتيق لم يكن سوى شعار خادع يحمى مصالح أعضاء الطبقة العليا على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، ولذلك أعلن بعض علماء السياسة فشل الديمقراطية النيابية وضرورة ابتداع نوع جديد من الديمقراطية أطلقوا عليه »ديوقراطية المشاركة«.
كما أن الجماهير فى المجتمعات الرأسمالية ضاقت بالخطاب السياسى التقليدى الذى يعد الجماهير بالجنة الموعودة ولكنه لا ينفذ، ومن هنا صعد الخطاب الشعبوى الذى يمثله »دونالد ترامب« خير تمثيل لكى يغازل مطالب الناس واحتياجاتهم ويعدهم بتحقيق الجنة الموعودة.
لم يكن نجاح »ترامب« فى الواقع إلا وجها واحدا من الوجوه المتعددة لحقبة الاضطراب العالمي!
ولا شك أن القرن العشرين كان هو بذاته عصر الأيديولوجية الذى دار فيه الصراع الفكرى العنيف والذى سرعان ما تحول إلى حروب شاملة بين أيديدلوجيات عنصرية مغلقة أبرزها هى النازية والفاشية وبين أيديدلوجيات منفتحة هى الديمقراطية. كانت هذه هى الجولة الأولى من الصراع الأيديولوجى الذى اشتعل فى الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والتى انتهت بالهزيمة الساحقة لكل من «هتلر» زعيم النازية و«موسوليني» رائد الفاشية وكذلك إمبراطور اليابان الذى قاد الحملات العسكرية والإمبريالية فى آسيا. غير أنه بالرغم من تحالف الاتحاد السوفيتى مع الدول الغربية فى معسكر «الحلفاء» للقضاء على دول «المحور» (ألمانيا وإيطاليا واليابان) والاشتراك الفعال للجيش السوفيتى فى إنزال الهزيمة الساحقة بها إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة سرعان ما بدأ الصراع الأيديولوجى العنيف بين الشيوعية السوفيتية من جانب التى يتبناها الاتحاد السوفيتى والديمقراطية الرأسمالية التى تتبناها أساسا الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة »العالم الحر«، كما ساد هذا الوصف فى الخطاب السياسي. وبالرغم من اشتعال «الحرب الباردة» ـ إن صح التعبير ـ بين المعسكرين فإن الذى منع اندلاع حرب عالمية ثالثة هو ما أطلق عليه «توازن الرعب النووي» لأن كلا من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية كانا يمتلكان القنبلة الذرية، وهكذا تحول الحديث عن الحرب -لو قامت وكيفية مواجهتها- محل الحرب الفعلية!
لكن ذلك لم يمنع الصراع الإيديولوجى من الاشتعال بين المعسكرين، خصوصا بعد أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) سياسة «الاحتواء» Containment أو وضع السياسات المختلفة وعلى رأسها السياسة الثقافية لاحتواء خطر تمدد الشيوعية إلى بلدان العالم المختلفة.
وفى خضم هذه الحرب الأيديولوجية المشتعلة بين الشيوعية من جانب والديمقراطية الرأسمالية من جانب آخر والتى تعددت معاركها ظهرت نظرية «نهاية الأيديولوجية» التى صاغها أحد أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين وهو »دانيل بل« Danial Bell والتى قرر فيها أنه لا يمكن اعتقال التطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى لمجتمع ما فى ظل أيديولوجية مقننة لها مبادئها المقدسة التى لا يمكن تغييرها فذلك ضد منطق تاريخ التطور الإنساني. ودارت حول هذه النظرية معارك فكرية شتى واعتبرت لدى بعض المفكرين محاولة فاشلة للقضاء على جاذبية الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية فى عديد من بلاد العالم الثالث. غير أن بعض منظرى الرأسمالية قرروا أن يتحولوا من الدفاع عن الديموقراطية الرأسمالية بالهجوم على الماركسية ذاتها وذلك بصياغة نظرية رأسمالية مقننة تقوم على مقولات محددة مثلها فى ذلك مثل الماركسية تماماً.
وقد قام بهذه المحاولة الجسورة -وإن كانت فاشلة- عالم الاجتماع الأمريكى «بيتر برجر» الذى نشر كتابا مثيرا عام 1987 بعنوان «الثورة الرأسمالية». ولعل دافعه إلى ذلك المقولة التى أذاعها المفكر اليمينى الفرنسى المشهور «ريمون آرون» الذى قال - فى معرض دفاعه عن الرأسماليةد- «أننا لن نستطيع أبدا أن نجارى الماركسية ونصوغ نظرية متكاملة مثلها تفسر الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتاريخ« وكانت وجهة نظره أن الماركسية نجحت فى صياغة نظرية شاملة فى الوقت الذى فشلت فيه الرأسمالية فى مجاراتها على هذا الصعيد.
إلا أن بيتر «برجر» تقدم الصفوف لكى يفند وجهة نظر «ريمون آرون» وأصدر كتابه المثير والذى هو فى الواقع نظرية مصاغة بطريقة صورية محكمة. وقد قدم خمسين مقولة للدفاع عن الرأسمالية وتبريرها وإظهار أفضليتها على الماركسية. وهذه المقولات تتعلق بثمانية ميادين رئيسية هي: الرأسمالية والحياة المادية، الرأسمالية والطبقات، الرأسمالية والديموقراطية، الرأسمالية والثقافة الفردية، الرأسمالية وتنمية العالم الثالث، الرأسمالية فى شرق آسيا، الرأسمالية الصناعية، إضفاء الشرعية على الرأسمالية.
وفى مجال الممارسة الفعلية حاول بعض المنظرين الفرنسيين الماركسيين وعلى رأسهم «لويس ألتوسيز» الإنقاذ النظرى للماركسية لكى تتحرر من جمودها وتصبح أكثر قدرة على التعامل مع الواقع، ولذلك حاول فى كتابه الشهير «قراءة كتاب رأس المال» تجديد النظرية الماركسية، إلا أنه اعترف بعد ذلك بفشله حين قرر فى مؤتمر عقد فى إيطاليا بعنوان «الماركسية فى المجتمعات ما بعد الثورية» على سبيل النقد الذاتى «كنا نبحث عن جوهر خالص للنظرية الماركسية» وتبين لنا أنه ليس هناك جوهر أساسى لأى نظرية.
أما على الصعيد الرأسمالى فقد حاولت الدول الديمقراطية إنقاذ الرأسمالية من مصيرها الحتمى بعد فشلها فى اشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة واستحدثت صيغة دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State والتى تضمن تأمينات اجتماعية متعددة للمواطنين الضعفاء اقتصاديا فى مجال البطالة والمرض إلا أن التجربة فشلت للعجز عن تمويل هذه البرامج الاجتماعية المتعددة. وقبيل نهاية القرن حدثت واقعة كبرى لها دلالتها التاريخية العظمى وهى انهيار الاتحاد السوفيتى بعد فشل النظام السلطوى فى إشباع الحاجات الأساسية للجماهير وفى تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد ثبت بما لا يدع للشك مجالاً أن النظام الديمقراطى العتيق لم يكن سوى شعار خادع يحمى مصالح أعضاء الطبقة العليا على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، ولذلك أعلن بعض علماء السياسة فشل الديمقراطية النيابية وضرورة ابتداع نوع جديد من الديمقراطية أطلقوا عليه »ديوقراطية المشاركة«.
كما أن الجماهير فى المجتمعات الرأسمالية ضاقت بالخطاب السياسى التقليدى الذى يعد الجماهير بالجنة الموعودة ولكنه لا ينفذ، ومن هنا صعد الخطاب الشعبوى الذى يمثله »دونالد ترامب« خير تمثيل لكى يغازل مطالب الناس واحتياجاتهم ويعدهم بتحقيق الجنة الموعودة.
لم يكن نجاح »ترامب« فى الواقع إلا وجها واحدا من الوجوه المتعددة لحقبة الاضطراب العالمي!