يومًا بعد يوم تتكشف معالم الصراع القادم
فى المنطقة حيث بدأ الشرق الأوسط يطوى صفحة مرحلة صراع آخذ فى الانحسار، ولو
مرحليًّا، هو الصراع العربي- الإسرائيلى كما أرادت وكما خططت إسرائيل. فقد توارت
أولوية القضية الفلسطينية عند معظم، إن لم يكن كل الدول العربية. كما أن الصراع
الآخر الطارئ على المنطقة وهو الصراع ضد أو مع الإرهاب فهو الآخر فى طريق
الانحسار، يحدث ذلك فى العراق وفى سوريا، وربما يحدث فى ليبيا ومصر، وما نشهده
الآن من عمليات إرهابية دامية ومريرة فى مصر ومناطق أخري، حتى فى أوروبا، هى النزع
الأخير للإرهاب الذى يضرب بأجنحته فى كل مكان، تمامًا مثل الطائر الذبيح، لكنه فى
النهاية سيسلم الروح عاجلاً، أم آجلاً. أما الصراع الذى سيفرض نفسه وبقوة فهو
الصراع الإسرائيلي- الأمريكى مع إيران، وسوف يأخذ هذا الصراع معالمه من خلال
الموقف أو المواقف التى سوف تتخذها الدول العربية منه. قد يأخذ معالم الاستقطاب
السُّني- الشيعي، كما تأمل وتخطط إسرائيل، إذا شاركت دول عربية فى الصراع ضد إيران
إلى جانب إسرائيل على قاعدة الصراع الطائفي، وقد لايأخذ هذا الطابع خصوصاً إذا
كانت تركيا قد خططت أن تكون فى صف إيران لأسباب ودوافع متعددة أبرزها بالطبع
الصراع المشترك الإيراني- التركى ضد ما يعتبرانه «الخطر الكردي» على الأمن القومى
للبلدين، لكن فى النهاية سيكون الصراع الإسرائيلي- الأمريكى مع إيران هو الصراع
البارز، الذى سيأتى على قاعدة تسويات الأزمة السورية بالأساس.
المدخل المباشر لهذا الصراع الإقليمى
الجديد سيكون حول القدرات النووية الإيرانية انطلاقاً من رفض تل أبيب وواشنطن
الاتفاق النووى الذى وقعته «مجموعة دول 5+1» مع إيران عام 2015 باعتباره اتفاقاً
لا ينسجم ولا يحقق المصالح الوطنية للبلدين، وسيكون أيضاً حول القدرات الصاروخية
الباليستية الإيرانية، وحول السياسة الإقليمية لإيران، لكن ما هو أهم سيكون،
وبوضوح شديد حول النظام السياسى الإيرانى نفسه، وهدف إسقاط هذا النظام كما يوضح
سياسيون ومفكرون أمريكيون بارزون أمثال نيت جينجريتش الخبير الإستراتيجى الشهير
الذى أكد ذلك منذ أيام، وكما يؤكد قادة إسرائيل بأن هذا النظام يعتبر تهديداً
وجوديًّا لدولة إسرائيل.
أول معالم هذا الصراع هو محورية إيران:
الدولة والنظام والقدرات والسياسات، هى العدو الأول الأساسى الآن فى هذا الصراع
القادم، لإبعاد أى ذكر للقضية الفلسطينية من ناحية، ولإشغال إيران بعيداً عن هذه
القضية من ناحية أخري. فى السابق كان الصراع مع إيران حول دورها فى دعم قوى
المقاومة ضد إسرائيل أو ما تسميه كل من تل أبيب وواشنطن بالجماعات والمنظمات
الإرهابية، وحول الموقف الإيرانى من إسرائيل حيث ترفض إيران الاعتراف بوجود
إسرائيل وتهدد صراحة هذا الوجود، الآن سوف يصبح الصراع حول إيران نفسها، وستكون
إيران مضطرة للتخندق حول نفسها والدفاع عن وجودها وأمنها المباشر بعيداً عن
الانشغال بقضايا أخرى حتى ولو كانت فلسطين. ثانى هذه المعالم هو التطابق فى الرؤى
بين واشنطن وتل أبيب. فالسياسات الأمريكية نحو إيران ستكون أصداء للسياسات الإسرائيلية.
فإذا كان موقع «واللا» الاستخباراتى الإسرائيلى قد أقر مؤخراً بأن «الولايات
المتحدة تتبنى حرفيًّا الموقف الإسرائيلي» من المصالحة الفلسطينية الأخيرة بين
السلطة الفلسطينية وحركة «حماس» تعليقًّا على ما ورد على لسان «جيسون جرينبلات»
مبعوث الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط حول شروط واشنطن إزاء تلك
المصالحة والتى أكد فيها أنه «يجب على حكومة الوحدة الفلسطينية أن تتعهد بنبذ
العنف وأن تعترف بإسرائيل»، فإن الموقف الأمريكى من إيران ومن الاتفاق النووى
الإيرانى هو ذاته الموقف الإسرائيلى بعد أن تحول هذا الموقف الأمريكى تحولًا
جذريًّا فى عهد الرئيس ترامب عنه فى عهد الرئيس باراك أوباما. ثالث هذه المعالم أن
الصراع ضد إيران لن يقتصر على الاتفاق النووى الإيرانى أو حتى القدرات النووية
الإيرانية بل سيكون صراعًا شاملًا وسيكون مخططًا ومنسجمًا أمريكيًّا وإسرائيليًّا.
فإذا كان الرئيس الأمريكى قد أعلن يوم الخميس (13/7/2017) أن الاتفاق النووى مع
إيران «ليس فى مصلحة الأمن القومى للولايات المتحدة»، ورفض التصديق على الاتفاق،
وأحال أمره إلى الكونجرس لاتخاذ قرار حول ما يعتبره «ثغرات» فى الاتفاق، وأكد أنه
سيقوم بإلغائه إذا لم يتوصل الكونجرس إلى هذا التشريع، فإنه طرح إستراتيجية مواجهة
شاملة ضد إيران تضم أربعة عناصر. أول هذه العناصر هو العمل مع الحلفاء فى الشرق
الأوسط وأوروبا لمواجهة نشاط إيران المزعزع للاستقرار ودعم الإرهابيين فى المنطقة.
والثانى فرض عقوبات إضافية لعرقلة النظام على تمويل الإرهاب، والثالث فرض عقوبات
على إيران لتجاربها الصاروخية الباليستية والأسلحة التى تهدد جيرانها وتهدد
التجارة العالمية والملاحة الدولية. والرابع هو منع إيران من اتخاذ مسار للحصول
على سلاح نووي. لم يكتفِ ترامب بذلك، لكنه فرض عقوبات على «الحرس الثورى
الإيراني»، وأكد أن «إيران تتعامل مع كوريا الشمالية، وأنه كلما طال أمد انتظار
مواجهة التهديدات، كما حدث مع كوريا الشمالية، أصبحت التهديدات أكثر خطرًا».
هذه الإستراتيجية الأمريكية للمواجهة
الشاملة مع إيران تتطابق مع الرؤية الإسرائيلية التى تؤكد الترابط بين المشروعين
النووى والصاروخى فى كوريا الشمالية وإيران، وأن أى تقاعس عن مواجهة المشروعين
النووى والصاروخى لإيران سيجعل منها كوريا شمالية أخرى وسيفرضها قريبًا «دولة حافة
نووية»، أى دولة تملك كل القدرة على إنتاج السلاح النووي. كما تتطابق مع الإستراتيجية
التى أخدها «معهد بحوث الأمن القومي» فى إيران وعرض معالمها كل من عاموس يادلين
وأفنر جولوب وهى إستراتيجية متعددة المراحل فى الزمن القصير والقريب والبعيد حيث
ترى أن الأولوية ليست الآن هى إسقاط الاتفاق النووى مع إيران بل الإبقاء عليه،
والعمل من الآن على إيجاد الظروف الإستراتيجية المناسبة لإلغائه فى المستقبل من
خلال التأسيس لتحالفين الأول دولى موسع يضم الاتحاد الأوروبى ودولاً آسيوية فاعلة
(بينها الهند وكوريا الجنوبية وتركيا) للمواجهة الشاملة مع إيران، والثانى أمريكي-
إسرائيلى يحدد خطوطًا حمراء لسياسة إيران ويكون مستعدًا وقادرًا على مواجهتها.
هذه المعالم الرئيسية الثلاثة للصراع الذى
يُخطط له فى الشرق الأوسط تصطدم مع مصالح أطراف دولية بارزة خاصة روسيا والصين
والاتحاد الأوروبي، لكن تبقى مواقف الدول العربية هى المرجحة لمستقبل هذا الصراع
هل ستكون داعمة أو مناوئة.. هذا هو التحدى العربى الجديد.