تركيا بعد الانتخابات: تحديات الداخل ورهانات الخارج
شكلت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجريت في 24
من شهر يونيو/ حزيران 2018، وما أنتجت من فوز الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان بفترة
رئاسية جديدة مدتها 5 سنوات، عوضًا عن فوز تحالفه (تحالف الشعب) مع الحزب القومي
بالأغلبية البرلمانية، وتبرز أهمية هذه الانتخابات كونها الانتخابات الأولى التي يتم
فيها انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان في انتخابات واحدة وفي يوم واحد.
وبعد حسم سباق الرئاسة من الجولة الأولى، بحسب ما أظهرت نتائج
للانتخابات الرئاسية والتشريعية المبكرة ، ستدخل الجمهورية التركية مرحلة جديدة قوامها
النظام الرئاسي الجديد، ووفق المرحلة الجديدة سوف يتمتع الرئيس أردوغان بصلاحيات واسعة تمكنه من تعيين هيئته المساعدة
ووزراءه، عوضًا عن تعيين القضاة وقادة الجيش، فضلاً عن كونه رئيس الحكومة.
هذه النتائج حددت توجهات تركيا الداخلية والخارجية بنظامها
السياسي الجديد، وعلى ضوء هذا يمكن القول بأنه لم تكن الانتخابات في تركيا هذه المرة
مجرد استحقاق دستوري عادي، بل كانت محطة مصيرية، ومفصلية في ما يتعلق بمستقبل البلاد،
وبتركيبة الحكم وتوزيع السلطات وهوية الدولة وعلاقاتها الخارجية.
إن هذه الأهمية تتشكل في أهميتها هذه المرة كونها الأولى التي سوف تسمح لحزب العدالة والتنمية بأن يعيد هيكلة وتشكيل الحياة العامة، والهوية التركية والخيارات الاستراتيجية المستقبلية، بعد أن كان البرلمان من قبل له صلاحيات معيقة لسلطات الرئيس.
وفيما
يلي أبرز الملفات التي سوف تتأثر بنتائج هذه الانتخابات بشقيها الرئاسي
والبرلماني:
المستوى
الداخلي
من الموكد أن تركيا ستشهد صراعًا داخليًا وانقسامًا
حادًا في ظل تنامي المعارضة التركية لتوجهات أردوغان، وهو ما سينعكس بالضرورة على
حالة الاستقطاب تجاه السياسات الداخلية والخارجية أيضًا، وأنه لن يكون من اليسير
على أردوغان بصلاحياته الواسعة في التحكم
في رسم خطوط التحركات التركية وفرض رؤيته ومشروعه السياسي في ظل ذلك الوضع.
كما أن التحديات الاقتصادية تفرض نفسها وبشكل سريع على النظام
الجديد، وما سيترتب عليه من رغبة في جذب المزيد من الاستثمارات الخارجية المباشرة والتي
تشير الإحصائيات الى انخفاضها بنسبة ٢٢% أوائل العام 2018، مقارنة بالعام الماضي، لكن
التحدّي الأهم على المدى المتوسط والبعيد هو معالجة العجز المستعصي في الموازنة والعجز
الكبير في الميزان التجاري بالإضافة الى المشاكل الهيكلية في الاقتصاد، هذه
المواجهة لا يمكن لها أن تكلل بالنجاح في ظل حالة من عدم الاستقرار السياسي
والاستقطاب الحاد الذي تعاني منه البلاد.
وجاءت
النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية
والبرلمانية موضحةً الكثير من الأمور التي ستنعكس بالضرورة على العلاقة بين
المعارضة والنظام الحاكم، وفيما يلي أبرز تداعيات نتائج الانتخابات بشقيها الرئاسي
والبرلماني:
نتائج
الانتخابات الرئاسية
نجح التحالف بين حزب العدالة والتنمية والحركة القومية
بقيادة "دولت بهتشلي"، مع حزب الوحدة الكبرى بقيادة "مصطفى
دستيجي"، والذي سُمي تحالف "الشعب"، في حصد الأغلبية من الأصوات، وذلك
في مواجهة القوى العلمانية متمثلة في الحزب الشعب الجمهوري ومرشحه "محرم
انجه".
كما لم تحصل "ميرال أكشنار"، التي أنشقت عن
الحركة القومية بسبب تأييد زعيمها "بهتشلي"، لأردوغان، في حين لم يحصل
حزب "السعادة"، ممثل الإخوان المسلمين في تركيا على النسب التي تؤهله للمنافسة،
وكذلك أيضًا لحزب "وطن" وفيما يلي أبرز النتائج التي حصل عليها المرشحين
في الانتخابات:
المرشح |
الحزب |
نسبة التصويت |
رجب طيب أردوغان (الرئيس الحالي) |
العدالة والتنمية |
52.4% |
محرم انجه |
الشعب الجمهوري |
30.8% |
صلاح الدين ديمرتاش |
الشعوب الديموقراطي |
8.3% |
ميرال أكشنار |
الخير |
7.4% |
كرم ملة أوغلو |
السعادة |
0.9% |
دوغو برينتشاك |
وطن |
0.2% |
وعلى خلفية هذه النتائج يمكن اتضاح العديد من الأمور
أهمها أن الرئيس التركي أردوغان أستغل حالة الطوارئ التي أقرها البرلمان بعد
محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، والذي أتهم فيها الداعية فتح الله
جولن، وما تبع ذلك من سياسات من شأنها تأميم المجال العام، واعتقال العديد من
المعارضين والصحفيين المناهضين لسياساته، كما شهدت تركيا تراجعًا في تصنيف الحريات
إلى مرتبة 157 من أصل 180 دولة؛ حيث تتذيل قائمة الدول في مجال حرية الصحافة وفق منظمة
مراسلون بلا حدود.
هذه السياسات كان من شأنها بلورة وخلق حالة من عدم
التوافق بل الاختلاف الجذري بين أردوغان من جهة والأحزاب المعارضة من جهة أخري
تجاه العديد من القضايا، وما كان سيترتب عليه حال فوز المعارضة في الاستحقاق
الرئاسي والبرلماني تجاه العديد من الملفات الداخلية والخارجية.
إضافة إلى ذلك، يعمل أردوغان على استثمار الانتصارات العسكرية
التي تحققت في عفرين خلال عملية غصن الزيتون ضدّ الأكراد ومن قبلها عملية درع
الفرات، وتداعياتها بتعزيز الشعور القومي التركي، وهو ما يراهن عليه باستثمار أصوات الكتلة "الحرجة"، ممن لم
يحددوا مواقفهم بالتصويت لأردوغان أو منافسيه، وفي السنوات الأخيرة، أصبحت تلك المشاهد
مألوفة لحملات أردوغان في توظيفها العمليات العسكرية لتحقيق مكاسب سياسية.
وعلى الرغم من النجاحات التي حققها أردوغان، إلا أنه يواجه
العديد من العقبات أبرزها الأوضاع الاقتصادية الصعبة في ظل تراجع قيمة العملة
المحلية التركية(الليرة)، أمام الدولار، وارتفاع نسب التضخم، وتراجع حجم الاستثمار
الداخلي، فضلاً عن التوترات الخارجية المتعلقة بالعلاقات مع العديد من دول المنطقة
وأوروبا.
الجدير بالذكر أن أردوغان كان قد مرر الاستفتاء على
التعديلات الدستورية المتعلقة بتغيير النظام السياسي وصلاحيات رئيس الجمهورية في 16
أبريل/نيسان 2017، بفارق ضئيل بين الأصوات المعارضة والمؤيدة للتعديلات الدستورية كشفت
النقاب عن تراجع مكانة حزب العدالة والتنمية؛ حيث بلغت نسبة المؤيدين للتعديلات الدستورية
(51.4%)، وبين المصوتين ضد التعديل في الاستفتاء (48.6%) وهو فارق يزيد في عدد الأصوات
عن مليون صوت، وبذلك يمثل انتصار "متواضع" بفارق ضئيل على معارضيه أو
"انتصارًا بطعم الهزيمة"، خاصة في ظل خسارة الحزب لأهم معقلين تصويتين هما
إسطنبول وأنقرة واللتان كانتا يصوتان لصالح الحزب من قبل.
نتائج
الانتخابات البرلمانية
على الرغم من فوز حزب العدالة والتنمية وحليفه
"بهتشلي"، زعيم الحركة القومية إلا أن هذا الفوز يكشف عن تراجع شعبية
الحزب الحاكم برغم تحقيقه تقدمًا؛ ففي الانتخابات البرلمانية؛ حيث يسعى حزب العدالة
والتنمية لفوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية وفوزه بالأغلبية البرلمانية مع الحزبين
المتحالفين معه، ليضمن تناغمًا وتعاونًا بين الرئاسة والبرلمان، إلا أن النتائج
جاءت لتعبر عن تراجع شعبية العدالة والتنمية مقارنة بالانتخابات البرلمانية
السابقة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، حصل الحزب على نسبة 49.49% من إجمالي
الأصوات على الرغم أنها كانت من دون تحالفات كما هي عليه في الانتخابات الأخيرة؛
أي أنه انخفض عدد مقاعد الحزب الحاكم من 317 مقعدًا في البرلمان الحالي المؤلف من
550.
يذكر أن الائتلاف الذي يقوده أردوغان والحزب القومي حاز
على نسبة 53.6 % في البرلمان؛ حيث استحوذ الائتلاف على 342 مقعدًا (العدالة
والتنمية 293 مقعدًا، والحركة القومية 49 مقعدًا) من أصل ٦٠٠ مقعد.
على الجانب الآخر، فإن تحالف الأمة الذي يضم رسميًا أحزاب الشعب الجمهوري الكمالي والخير القومي المنشق عن الحركة القومية والسعادة الإسلامي/المحافظ، بينما يشاركهم بشكل غير رسمي الحزب الديمقراطي.
كان قد حاز على 192 مقعدًا(الشعب الجمهوري 146، حزب
الخير 46)، فيما حاز حزب الشعوب الديموقراطي الكردي على 66 مقعدًا. الجدير بالذكر
أن ابتعاد حزب الشعوب الديموقراطي عن التحالف مع حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير
لسببين أهمهما: عدم التحالف مع حزب الخير القومي التوجه والمعروف بمعاداته
للأكراد، والسبب الآخر هو تجنب شبهة الإرهاب وهي التهمة التي يواجهها عدد من قياديي
حزب الشعوب الديمقراطي، على جانب حزب السعادة الإسلامي المحافظ، يذكر أنه لم يكن
له ممثلين في البرلمان على مدار 17 عامًا، ولم يحصل على تزكية، إلا أنه حقق في هذه
الانتخابات نسبة أكبر من تلك التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية السابقة في
نوفمبر 2015، وكان الحزب "السعادة" قد حصل في انتخابات 2015 على نسبة
%0.7 بواقع حوالي 320 ألف صوت، واليوم حصل على %1.36 بواقع 673 ألف صوت، ويبدو أن أغلبهم
من رصيد حزب العدالة والتنمية.
وعلى خلفية هذه النتائج يظهر في الأفق الحاجة إلى أن يقوم
المعسكر الرابح في الانتخابات بقيادة أردوغان باحتواء المعسكر الخاسر وذلك حرصًا على
تهيئة الأرضية اللازمة لانطلاق النظام السياسي الجديد بشكل سلس ولإشعار الجميع بانّهم
شركاء في هذا النظام السياسي وان لهم مصلحة فيه سرعان ما ستنعكس بشكل إيجابي
للتغلب على حالة الانقسام والاستقطاب الداخلي، بيد أن هذا لم يحدث، ففي 27 يونيو/
حزيران 2018، أي بعد إعلان نتائج الانتخابات بعدة أيام اعتقلت السلطات التركية 192
عسكريًا، بزعم مشاركتهم في عملية الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، ودعمهم
لرجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله جولن والذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء
محاولة الانقلاب.
إن فوز أردوغان برئاسة الجمهورية وحصول تحالفه البرلماني
على الأغلبية البرلمانية سينعكس بشكل كبير ومباشر على مشروعه السياسي المتمثل في
السيطرة على مؤسسات الدولة وتطويعها بما يخدم مصالحه، بل الأمر قد يمتد لإعادة
تشكيلها لتكون أقل استقلالية وأكثر مركزية ومُحافظة وارتباطًا به وبحزب العدالة والتنمية
الحاكم، كما وسيعمل أردوغان على تطويع العديد من المؤسسات التي لم يسيطر عليها
بشكل كامل مثل القضاء والتعليم والمالية، بعدما هيمن بشكل شبه تام على مؤسسات
الجيش والإعلام، خاصة بعد الإجراءات التي أتخذها أعقاب الانقلاب الفاشل يوليو/
تموز 2016، ولا يُخفي "أردوغان" هذه التطلعات، بل ويعتبرها جزءًا من برنامجه
الانتخابي.
المستوى
الخارجي
لا يوجد أدنى شك في أن فوز أردوغان لم يقتصر تبعاته على
السياسة الداخلية فحسب، بل أنه سينعكس بالضرورة على العديد من الملفات الخارجية
واستراتيجة تركيا وعلاقاتها مع الدول الأخرى، كما أن سيطرة المشروع السياسي الجديد
لتركيا متمثلًا في أردوغان والذي أعلن عن ملامحه من قبل، سوف يظهر الآن وبشكل أكثر
جرأة من ذي قبل.
إن تداعي استمرار أردوغان في الحكم بنمطه الجديد سوف
يمتد لمزيد من التصادم بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي والتي شهدت في الفترات
الأخيرة توترات وتصادمات، حول السياسات التركية الأخيرة في المنطقة.
وعلى مستوى
العلاقات التركية- الأميركية؛ فقد وصلت العلاقات إلى أدنى مستويات الثقة وتكاثرت الأزمات
بين الطرفين خاصة فيما يتعلق بملف الأكراد وتحالفهم مع الولايات المتحدة، الذي
تعتبره تركيا من مهددات أمنها القومي.
إضافة إلى ذلك، هناك العديد من التوترات بين العديد من
الدول العربية فيما بتعلق بالتدخلات التركية في الشئون العربية، وفي هذا الصدد
اجتمعت الدول العربية في قمة الدمام في 15 أبريل/نيسان 2018، لبحث كيفية مواجهة
هذه التدخلات ومواجهة الإرهاب.