منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وحتى يومنا هذا لا يزال
الحديث حول مستقبل العراق السياسي يشكل حديث الساعة، سواء من قبل أصحاب مَلَكَة
التنبؤ أو من قبل أصحاب مَلَكَة التحليل والنقد. وعلى مدى عقدين من الزمن من عمر الطبقة السياسية الحالية اختزنت
الذاكرة الشعبية صوراً قاتمة لناحية بناء الدولة، وذلك بفعل تفشي الفساد،
والبطالة، واتساع دائرة عسكرة المجتمع، وغياب بسط السلطة على كافة جغرافيا القُطر،
والتدهور الاقتصادي في بلد يحوز على الثروة النفطية، والمخاطر المتعلقة بالإرهاب
وغيرها، وهذا ما أدى إلى إضفاء نظرة تشاؤمية على المستقبل السياسي عند البعض.
لقد قامت تلك الطبقة، وبدلاً من استحداث قوانين لتحسين حياة
المواطنين وتحقيق المصلحة العامة، باستحداث قوانين تفتح أبواباً للفساد لتكديس
الثروات وتحقيق المصلحة الخاصة، وطبعاً، وفي كل مرة، كان إعلامها يقوم بتصوير
الأمر على أنه يصب في مصلحة الشعب، لا في مصلحتها.
وفي ظل سيطرة المحاصصة الطائفية، لم يُعد من الممكن التوصل
لاتفاق جديد بين القوى السياسية المختلفة خاصة وأن الممارسة الشائعة في النظام
السياسي العراقي أن تتوافق أحزاب الأغلبية لتشكيل الحكومة وفقًا للعرف المتبع منذ
أول انتخابات أجريت بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق صدام حسين بحيث يكون رئيس
الوزراء شيعيًا، ورئيس الجمهورية كرديًا، ورئيس البرلمان سنيًا.
وبفعل تلك القوانين باتت مكونات تلك الطبقة تمتلك ثروات هائلة
تقوم باستثمارها انتخابياً في كل دورة انتخابية، ما يؤدي من جهة لإعادة إنتاجها
برلمانياً، ومن جهة ثانية يؤدي لمزيد من تراكم الثروة، كما أصبح لبعضها مليشياتها
الخاصة، فضلاً عن ارتباطاتها الخارجية الإقليمية أو الدولية، وخصوصاً الارتباط بكل
من إيران والولايات المتحدة الأميركية، صاحبتي النفوذ الأبرز في العراق، وهذا ما
عزز بدوره النظرة التشاؤمية.
مسارات الأزمات
هناك مجموعة من السمات الرئيسية التي تحتل المشهد السياسي
العراقي وتؤثر في مجريات أوضاعه المستقبلية على سبيل المثال، تفاقم التنافس بين
الإطاريين والصدريين: يشهد العراق انسدادًا سياسيًا، منذ إجراء الانتخابات
التشريعية في أكتوبر 2021 بسبب التجاذب بين التيار الصدري والإطار التنسيقي خاصة
وأن كليهما يمتلك نقاط قوة مختلفة، على سبيل المثال يستند التيار الصدري على ولاء
قاعدة شعبية كبيرة من العراقيين، كما نجح الصدر في استمالة الشباب والمواطنين
العراقيين غير المنتمين لتيارات سياسية بسبب رفضه لنظام المحاصصة وانتشار الفساد
ورفضه التدخل الخارجي في الشئون العراقية، كما يمثل التيار الصدري كتلة كبيرة في
الشارع العراقي ويؤشر على ذلك فوزه بأكبر كتلة في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021،
قبل أن يستقيل نوابه من البرلمان في ظل خلافات حول تشكيل الحكومة الجديدة.
على الناحية الأخرى، تستند قوى الإطار التنسيقي على شبكة من
تحالفات قوى المال والسلاح، وهذا التحالف الذي نجح ترغيبًا وترهيبًا في السيطرة
على قوى الدولة العميقة، بالإضافة إلى تصاعد قوته بعد انسحاب الصدريين من البرلمان
في يونيو 2022 وتعويضهم بنواب عززوا من الشرعية البرلمانية للإطار التنسيقي.
ومن ناحية أخرى، هناك تراجع في دور
الشباب على المسرح السياسي العراقي؛ حيث كشفت حالة الانسداد السياسي العراقي
وتفاقم الأوضاع الداخلية عن تراجع دور القوى الشبابية وتصاعد دور القوى السياسية
التقليدية في التأثير على مجريات الأوضاع الداخلية، وعلى الرغم من ذلك، فإن العودة
مجددًا إلى ما يعرف بشرعية الشارع يمكن أن يمنح زخمًا كبيرًا للتيار الصدري بعدما
انقطع التواصل بينه وبين شباب ثورة أكتوبر 2019، وذلك لحشد المواطنين والأصوات
الصامتة تجاه دعم هذه المطالب.
على المستوى الاقتصادي، ساهم الانسداد
السياسي الذي تشهده البلاد في تعطيل كثير من الإجراءات التي يحتاجها العراق
لمواجهة أزماته الداخلية؛ حيث لا توجد ميزانية لعام 2022، وهو ما قاد إلى تعليق
الإنفاق على مشاريع البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها وتنفيذ إصلاحات
اقتصادية. كما أن استمرار هذا الوضع يؤدي إلى تفاقم نقص الخدمات والوظائف حتى مع
حصول البلد الغني بالنفط على دخل نفطي قياسي بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام.
تشابك الأزمات
هناك تشابك وتعقيد فيما يتعلق بتفسير الأوضاع
السياسية العراقية على المستويين الداخلي والخارجي وفي مختلف المجالات، فعلى
المستوى السياسي العراق لا يزال غير مستقر وخاضع بشكل كبير الى التجاذبات الحزبية
والمصالح الفئوية، ومن الممكن القول انه تراجع تراجعا كبيرا عن المعايير السياسية
والأعراف التي تحتكم اليها العملية بصورة عامة.
وقد كان ذلك اشد وضوحا في السنوات
الأخيرة التي شهدت أكبر عملية التفاف على القوانين الداخلية وانزاع سلطتها، والعمل
خارج نطاقها، وبالنتيجة حدث ما أخر البلاد كثيرا، وجعلها تسير وفق مبدأ واقع
الحال، بلد ليس فيه موازنة عامة، وغير مهتم بأنشاء المشروعات ذات الجدوى
الاقتصادية النفعية.
أضف إلى كل ذلك تراجع العراق الكبير من
ناحية التأثير السياسي على محيطه الإقليمي، فلم يعد صاحب المبادرات الإيجابية التي
تجعل منه الراعي الرسمي والمفكك الأول للعديد من الإشكاليات المعقدة، ويعود ذلك
بالدرجة الأساسية الى انعزاله او بالمعنى الاصح عزله من قبل القوى الدولية
المتحكمة بمنطقة الخليج العربي.
وبسبب هذه الأزمات فإن ثمة احتمالات
حول اندلاع حرب أهلية، فعلى الرغم من أن العراق عرف منذ الاحتلال الأمريكي له في
عام 2003 كثير من الأزمات المتداخلة والمركبة داخليًا وخارجيًا، ولكن السمة
الرئيسية التي برزت على خلفية الأحداث الأخيرة تتمثل في احتمالية المواجهة
المباشرة بين القوى السياسية المختلفة، فالاحتجاجات والانقسامات سمة مميزة للشارع
العراقي بسبب الجمود والانسداد السياسي، ولكن قد يتطور الأمر إلى المواجهة
العسكرية المسلحة بين هذه القوى لنكون أمام صورة أخرى من إعادة إنتاج الأزمات
بصورة أكثر تعقيدًا ودموية.
وبرغم هذه التحديات هناك نظرة متفائلة
لمواجهة هذه التحديات والتي أعلنت عنها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة
في العراق جينين هينيس بلاسخارت، أن العراق لديه فرصة ممتازة للتقدم السريع نحو
التنمية. كما أكدت إن عام 2022 كان عاماً صعباً بالنسبة للعراق، ولكن مع اقتراب
العام من نهايته، تمكنت المؤسسات الحكومية من استئناف مهامها، لتتيح للعراق فرصة
كبيرة للشروع في طريق الاستقرار والتقدم"، داعية إلى العمل جميعا معا في عام
2023 وما بعده للتصدي للتحديات المتعددة التي يواجهها العراق، مع ضمان مساحة عامة
للحوار وحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وأضافت أن "العراق بتراثه الثقافي
والإثني والديني الغني، فضلاً عن جغرافيته وموارده غير المستغلة، يملك إمكانات
كبيرة ومدعوم باستقرار سياسي وعائدات ثابتة، وفي حال تم اغتنام الفرص بالفعل، فإن
لدى العراق فرصة ممتازة للتقدم السريع نحو التنمية المستدامة، وفي هذه الحالة فإن
مستقبلاً واعداً ينتظر الشعب العراقي الذي انتصر على الكثير من الشدائد".
وضمن السياق ذاته، برزت دعوات تؤكد على
الاهتمام الإقليمي والدولي بالعراق على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية
للتهدئة وحث الفرقاء السياسيين للجلوس على طاولة الحوار وتسوية الأزمة الراهنة،
والتركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال ضرورة توجيه الجهود الداخلية
والخارجية نحو إعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين العراقيين
مثل العـودة الفورية لجميع النازحين الذيـن هـجـروا ديارهـم ولـم يتمكنـوا مـن
العودة إليها، وتنظيـم العلاقـة بين الحكومة الاتحاديـة وحكومة إقليم كردستان
باتفـاق معلـن للشعب إلى حين إقرار قانون النفط والغاز.
في الختام: لا تريد القوى السياسية
الداخلية العراقية ولا الدول التي تتدخل في شئونه في أن يعود العراق الى سابق عهده
في زمن حكومات عقود الستينيات ومطلع السبعينيات، وبالفعل تمكنت من احداث الفارق
الكبير، وتجريده من نقاط قوته، وليس لهذه الأسباب المذكورة وحدها القدرة على حجبه
عن محيطه، فالتناحر السياسي كان العامل الأقوى في تحقيق هذه الخاصية، وبما ان
انتقال الحكم الى المكون الاغلب فان الدعم العربي والالتفاف عليه سيكون ضعيفا
نتيجة لطبيعية الاختلافات في جوانب متعددة.
ويبقى أن إشكالية مستقبل العراق
السياسي ستبقى في المدى المنظور من دون إجابة قطعية، إلا أنه في ظل التغييرات في
موازين القوى التي يشهدها طرفا النفوذ الخارجي في العراق من جهة، ومسلمة أن العراق
ليس عقيماً، فإنه عاجلاً أم آجلاً سوف ينجب قادة قادرين على انتشاله من مآزقه وحل
مشكلاته.