تكتسب السودان بموقعه الجغرافي السياسي (الجيوبوليتيكي) وضعاً
مميزاً وفريداً إقليمياً ودولياً؛ كونه امتداداً لمنطقة القرن الإفريقي، التي
تعتبر بكل المقاييس من مناطق العالم ذات الأهمية الاستراتيجية التي تتبارى الدول
الكبرى في الحصول على المزايا والمنافع المختلفة لها. تتميز هذه المنطقة بأهمية خاصة بالنسبة للقارة الإفريقية، لأنها تمثل
نقطة ارتكاز ومدخلاً للقارة الإفريقية، ومجاورة السودان للدول النفطية في الشرق
الأوسط والخليج العربي، كما يوجد في السودان الكثير من الموارد الكامنة، من أهمها
المساحات الشاسعة القابلة للزراعة، مع توافر مصادر المياه والمعادن.
اتفاق جديد للبناء
تم التوقيع على الاتفاق السياسي الإطاري
في 5 ديسمبر 2022، في خطوة ستؤدي إلى تأسيس سلطة مدنية انتقالية تعمل على إنهاء
أزمة البلاد، وضم الاتفاق القوى الموقعة على الإعلان السياسي، وقائد الجيش عبد
الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، وبحضور دولي. والقوى الموقعة على الإعلان السياسي هي: قوى الحرية والتغيير والجبهة
الثورية السودانية والحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل والمؤتمر الشعبي، والعمل على جاهزية
الأطراف السودانية للشروع في توقيع الاتفاق السياسي الإطاري الذي يؤسس لتأسيس سلطة
مدنية انتقالية تتولى أعباء تنفيذ مهام ثورة ديسمبر واستكمال الطريق نحو بلوغ
غاياته. وجاء الاجتماع بحضور ممثلين لـ«الآلية الثلاثية» الدولية وسفراء كل من
المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة ودولة الإمارات وبريطانيا، بالإضافة
إلى سفراء من دول الاتحاد الأوروبي.
ومن ناحية أخرى، يتابع السودانيون بترقب بالغ ما ستفضي إليه آليات
تنفيذ هذا الاتفاق بين الأطراف السودانية أصحاب المصلحة الذي تقوده الآلية
الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة دول
"إيقاد"، من أجل التوصل إلى توافق يؤدي إلى إنهاء الأزمة السياسية التي
تفجرت بعد سيطرة قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في الـ 25 من أكتوبر 2021،
وعطل بموجبه شراكة الحكم مع الجانب المدني.
ويأتي هذا الاتفاق تمهيدًا لتشكيل سلطة
مدنية تقود المرحلة الانتقالية، وصولُا لانتخابات حرة ونزيهة، بعد أن أعلن رئيس
مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021 عن إجراءات
استثنائية، حل بموجبها مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وجرى خلالها إعلان
حالة الطوارئ واعتقال مسؤولين وسياسيين وإقالة ولاة (محافظين). ومنذ ذلك اليوم، يشهد السودان احتجاجات شعبية تطالب بعودة الحكم
المدني، وترفض الإجراءات الاستثنائية.
وقبل إجراءات البرهان، كان السودان
يعيش -منذ 11 أغسطس 2019- مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، يتقاسم
خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقّعت مع الحكومة اتفاق سلام
في 2020. وفي 16 نوفمبر 2022، أعلنت قوى إعلان الحرية
والتغيير في السودان، أنها أجازت تصورًا لاتفاق إطاري مع المكون العسكري لإدارة
المرحلة الانتقالية.
وعلى الرغم من ذلك هناك حالة من الخلاف
الداخلي حول بنود ومخرجات الاتفاق؛ حيث وقع على الاتفاق عدد من الحركات المسلحة
الموقعة على اتفاق سلام مع الحكومة، وأبرزها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة
عضو مجلس السيادة مالك عقار، وحركة تحرير السودان المجلس الانتقالي بقيادة عضو
مجلس السيادة الهادي إدريس، وتجمع قوى التحرير برئاسة الطاهر حجر، وهو أيضاً عضو
بمجلس السيادة.
الموقف العربي
وعلى المستوى العربي، هناك توجه واسع لدعم السودان ومساندته في
هذه المرحلة، وخاصة أن التحول الجديد في الحكومة المركزية بالخرطوم بحاجة إلى
الدعم لتوفير موارد تكفل للعهد الجديد الوفاء بالتزاماته. فيما يتعين على النخبة
السودانية أن تضع الماضي بكل عثراته في مساحة لا تعيق العمل من أجل الغد، بقدر ما
توفر حصانة تضمن عدم العودة إلى ما يشبه الوضع السابق، الذي ظل يستهلك الشعارات
غير المجدية، بينما كان جهد القائمين عليه يتركز على تمكين طرف أيديولوجي معزول،
لا يعبّر عن السودان باتساعه والجغرافي الثقافي، ولا يجيد توظيف تنوعه الغني
بالموارد التي لم يتم استثمارها بالشكل المناسب، وكانت تلك الموارد وما تزال قابلة
لتوفير دخل يعود بالنفع على ميزانية الحكومة المركزية وأقاليم السودان ذات المساحة
الكبيرة.
وبعد التحول الذي حدث مؤخراً في السودان، بتدشين مرحلة جديدة
ذات توجه يركز على الاستقرار السياسي والسلم والتنمية، بدأت التحركات الجادة
لإنهاء أسباب النزاعات المسلحة والحروب التي أعاقت الاستقرار في الماضي. وبناءً
على المؤشرات الإيجابية التي ظهرت حتى الآن، يمكن القول إن المجتمع السوداني مقبل
على مستقبل يبشر بالازدهار. ويكاد المتابع العربي يلمس الأصداء الإيجابية في
الشارع السوداني.
تعثر الاقتصاد
مع استمرار “المساجلات السياسية” في السودان بشأن الفترة
الانتقالية فإن الاقتصاد قد يكون على أعتاب “وضع حرج” في العام 2023 إذا لم يتمكن
المدنيون والعسكريون في غضون شهر واحد من التوصل إلى اتفاق يتيح تشكيل حكومة جديدة
لإعادة الوضع المعيشي من "تدهور جديد".
وحتى يتمكن السودان من إنعاش الأسواق فهو بحاجة إلى “خطط فعالة”
بدءًا من ضخ مليارات الدولارات في البنك المركزي لتغطية نفقات الاستيراد وكبح سعر
الصرف حتى لا يتطاول إذا زاد الطلب على الدولار الأمريكي. إلى جانب ذلك فإن معدلات
البطالة مقارنةً مع مستوى دخل العمال تعد “مشكلة ضئيلة".
كما أن الموازنة الجديدة لم تظهر مؤشراتها حتى الآن، وهناك
مخاوف كبيرة من لجوء الحكومة إلى تبني حزم جديدة من الضرائب توضع على كاهل المواطن،
بالإضافة إلى ذلك، فإنه في حال عدم تشكيل هياكل السلطة الانتقالية لا يمكن للمجتمع
الدولي أن يعيد ضخ مساعداته الاقتصادية لدعم السودان للخروج من أزماته.
السيناريوهات المستقبلية
حصل السودان على فرصة جديدة للتنمية والنهوض، في ظل قيادة نخبة
متجانسة، لديها مصداقية واضحة في إنهاء النزاعات وعوائق التطور الاقتصادي، وتحظى
بدعم وتأييد واسعين من المجتمع السوداني، ومباركة إقليمية ودولية غير مسبوقة. وهو
أمر مطلوب، بعد أن أمضى النظام السابق ثلاثة عقود في إدارة حروب داخلية متفرقة
وصناعة أزمات بعضها مقصود، كما دخل في صدام مع التوجه الدولي لمحاربة الإرهاب، مما
وضع اسم السودان على لائحة العقوبات والقائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب. وكان
الهدف الوحيد للنظام السوداني السابق من وراء تحركاته ومواقفه، التمكين لتوجه
أيديولوجي إخواني، ثبت عدم صلاحيته السياسية وفشله في خدمة الشعوب، وهو توجه معزول
عن واقع واحتياجات مجتمع السودان، وبعيد عن تطلعات شبابه نحو مستقبل مشرق وآمن،
تتوفر فيه فرص العمل والعدالة والسلم الأهلي.
وعند الحديث عن المستقبل السياسي فإن هناك ثلاثة خيارات، الأول
أن تتم الشراكة بين المكونين العسكري والمدني مثلما كان قائماً قبل إجراءات قائد
الجيش عبدالفتاح البرهان، واعتبرها المجتمع الدولي والشارع السوداني وقواه
السياسية انقلاباً عسكرياً، مع إجراء تعديلات في ما يعرف بمسألة تغيير القيادة لدى
الجانبين والتي كانت محل الخلاف بينهما، وذلك بأن يكون مجلس السيادة مشتركاً من
المكونين وأن يتم تشكيل حكومة من وزراء تكنوقراط بواسطة رئيس وزراء متفق عليه من
الأطراف كافة إلى جانب مجلس تشريعي، على أن تستمر هذه المسيرة إلى نهاية الفترة
الانتقالية".
الخيار الثاني أن يكون هناك مجلس سيادة مدني، على أن يتم
استيعاب المكون العسكري وحركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في
الثالث من أكتوبر 2020 في مجلس الدفاع والأمن، شرط منحه صلاحيات الأمن القومي
السوداني وبعض الصلاحيات الخاصة بالسياسة الخارجية، فضلاً عن أن تكون هناك حكومة
مدنية من التكنوقراط ومجلس تشريعي.
ويتمثل الخيار الثالث في أن تصر المجموعات الاحتجاجية على
الخروج الآني للمكون العسكري من المشهد السياسي وأن يتم تشكيل حكومة تكنوقراط
تتوافق عليها القوى المدنية بكاملها، إضافة إلى مجلس سيادي مدني ومجلس تشريعي".
وبالنظر إلى هذه الخيارات المطروحة نجد أن الخيار الأول الذي
يقوم على الشراكة المدنية العسكرية هو الأكثر حظاً بنسبة تفوق 80 في المئة، ويأتي
بعده الخيار الثاني بنسبة 60 في المئة، بينما يستبعد حدوث الخيار الثالث.
في الختام: يمثل الاتفاق مرحلة جديدة للتوافق الداخلي وإن كان
هناك بعض الأصوات الرافضة له، إلا أن العمل على تعزيز مخرجاته ضمن إطار عملية
التحول الديموقراطي يمكن أن تساهم في خروج السودان من أزمته الحالية خاصة وأن هناك
اهتمام إقليمي ودولي لرعاية تنفيذ هذا الاتفاق وهو ما يؤشر على إمكانية إدارة
المرحلة الانتقالية بصورة أكثر التزامًا لتسليم السلطة إلى المدنيين.