"الدعم الصيني لروسيا في حرب أوكرانيا .. حروباً بالوكالة أم سلعتين في السياسة الخارجية
عرضت الصين مبادرة وخطة مُقترحة
لتسوية النزاع الروسي الأوكراني حسبما أعلنته تصريحات رسمية لوزير الخارجية الصيني
"وانغ يى"، حيث أعلن الأربعاء الموافق 22 فبراير 2023 عن اعتزام بكين
لعب دور بناء في تسوية الصراع الروسي الأوكراني، مُصرحاً بأن: "الصين تلتزم
بحزم، كما كان من قبل، بموقف موضوعي وحيادي وستلعب دوراً بناءً في التسوية
السياسية للأزمة الأوكرانية"، وهو الأمر الذي قُوبل بترحيب رسمي من وزارة
الخارجية الروسية دون الإعلان عن خطة واضحة للتسوية السياسية للصراع.
جاء ذلك تزامناً مع مرور عام
كامل علي بدء الحرب الروسية على أوكرانيا أو ما يطلق عليه البعض "العمليات
العسكرية الروسية في أوكرانيا". وكان رد الفعل الرسمي الروسي محفوفاً بالغموض
والتهديد في آن واحد؛ حيث صرح وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" عقب
اجتماعه مع رئيس لجنة الشئون الخارجية باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني
"وانغ يى" أن: "نظام كييف ليس مستعداً لاتخاذ إجراءات بشكل مستقل،
ولا يمكنه تحمل أعبائه وليس لاعباً مستقلاً في الساحة الدولية".
دلالات استراتيجية
ويشير تصريح لافروف هنا إلى
دلالات استراتيجية لا تُبشر بأية تسوية سياسية محتملة للصراع؛ حيث تتضح الدلالة
الاستراتيجية الأولي في أن إشارة التصريح الروسي بشكل واضح إلى عدم قدرة نظام
كييف على اتخاذ إجراءات مستقلة تدلل على أن الصراع في أوكرانيا منذ بدايته عام
2014 بالضم الروسية لشبه جزيرة القرم هو صراع روسي غربي بالأساس، وأن روسيا- بوتن
غير مستعدة لأية تسوية للصراع يكون للغرب دور مؤثر فيها. أما الدلالة
الاستراتيجية الثانية فتتمثل في التلويح بعدم شرعية أوكرانيا كفاعل دولي يتمتع
بالسيادة الوطنية والاعتراف الدولي، وعدم اعتراف روسيا بأوكرانيا كدولة جار قادرة
على خوض عملية تسوية سياسية، وهو ما يكشف أهداف سياسة بوتن الجيوبوليتيكية للتمدد
والتوسع في دول الجوار السوفيتي السابق، في إطار استراتيجية بوتن الأمنية لوقف
التوسع الشرقي لحلف شمال الأطلنطي. وهو ما يثبته ويؤكده تصريح الرئيس الروسي
"فلاديمير بوتن" يوم الأربعاء الموافق 22 فبراير 2023 في خطابه خلال
مهرجان وطني كبير بموسكو بأن: "بلاده مستمرة في حربها حالياً في أوكرانيا
لأجل مستقبل روسيا".
أما الدلالة الاستراتيجية الثالثة
فتطرحها ردود الفعل الغربية على الموقف الصيني من الصراع الروسي الأوكراني والذي
لم يتعدى مستوي اتهام الصين بدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا والتحذير من تقديم
مزيد من الدعم. في نفس الوقت الذي تقدم فيه الولايات المتحدة الأمريكية ودول
الاتحاد الأوروبي دعماً عسكرياً ولوجستياً معلناً وصريحاً لكييف في الحرب بهدف إلى
إنهاك روسيا اقتصادياً وعسكرياً، والحيلولة دون انتهاء الأزمة بالطريقة التي تؤدي
إلى انتصار موسكو لحساب مزيد من التراجع في الهيمنة الغربية على النظام الدولي،
وبهوت وهشاشة الإدارة الأمريكية للسياسة الدولية.
وتتمثل الدلالة
الاستراتيجية الرابعة والأخيرة فيما يطرحه السلوك الخارجي الصيني تجاه الصراع الروسي
الأوكراني من بداية عهد جديد للسياسة الخارجية الصينية. فلم تعد بكين تلتزم منهج
الحياد الموضوعي والحذر حيال الأزمات الدولية كما تدعي في تصريحات مسئوليها
الرسمية، وعلي وجه التحديد حيال أزمة الصراع الروسي الأوكراني الذي يُعد صراعاً
استراتيجياً حول طبيعة هيكل النظام الدولي، وصراعاً حول الهيمنة والنفوذ الدولي.
ثانياً- الحرب الروسية على أوكرانيا وملامح دور دولي جديد للصين
تقوم عقيدة الرئيس الصيني
"شي جين بينغ" في السياسة الخارجية على هدف التحول من الإقليمية إلى
العالمية، ومحور هذه الاستراتيجية هو "أنه مع اكتساب الصين مقومات القوة
العظمي وصعود معايير القوة الشاملة ستكون قادرة على ممارسة المزيد من التأثير على
المؤسسات الدولية" بالإضافة إلى تأسيس عهد جديد من العلاقات الدولية قائم على
مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مع موقف فعال وإيجابي للصين في الحكومة
العالمية ورفض الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي. وبمعني أخر تنظر استراتيجية
"شي جين بينغ" للهيمنة الأمريكية على العالم على أنها مصدر عدم
الاستقرار، لذا تسعي الصين نحو تكثف سلوكها الخارجي في اتجاه تعزيز التعددية
القطبية في العالم وإقامة نمط جديد من العلاقات الدولية قائم على الشراكة وتطوير
قواعد عادلة للأمن العالمي.
وفي إطار سعيها
لتحقيق عقيدة سياستها الخارجية الجديدة، تحرص الصين على التمسك بالشراكة
و"العلاقات القوية" مع روسيا في المجالات الاقتصادية والسياسية
والعسكرية والتقنية؛
ففي سلوك سياسي خارجي يتسم بالاستقلالية والقوة ترد بكين على اتهامات واشنطن لها
وتعلن عدم قبولها الضغط الأمريكي بشأن العلاقات الثنائية مع روسيا، بل وتطالب
واشنطن بالعمل على حل الأزمة بدلاً من تأجيجها لأغراض الهيمنة وخنق روسيا وتطويقها
عبر حدودها في منطقة المجال الحيوي لموسكو. وهو ما يعكسه الموقف الصيني من الحرب
الروسية على أوكرانيا التي بدأت منذ فبراير 2022. فعلي خلفية الموقف الصيني من
الصراع الروسي الأوكراني أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تدهور حقيقي في العلاقات
الصينية الأمريكية والتي أصبحت تمر بمرحلة تنافر شديد غير مسبوق. وبالتالي أصبحت
احتمالات إرسال الصين لأسلحة ومعدات حرب مُدمرة إلى روسيا لدعمها في حرب أوكرانيا
ليس أمراً مستبعداً، وتُثيره وسائل الإعلام الغربي وتصريحات وزير الخارجية
الأمريكي "أنتوني بلينكن" الرسمية بما يفيد بوصول معلومات استخبارية
مؤكدة تشير بأن "الصين تفكر في تقديم أسلحة إلى روسيا"، في حين تنفي
بيانات بكين الرسمية أية صحة لتلك الاتهامات بتزويدها أسلحة لروسيا، وتصفها على
لسان وزير خارجيتها "وانغ يي" بأنها: "ليست إلا افتراءات وتكهنات
أمريكية هدفها تشويه سمعة الصين".
إن الغرب يعوٍل بشكل كبير على
تصريحات الرئيس الصيني الرسمية قبيل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا والتي وصفت
العلاقات الروسية الصينية على أنها "شراكة بلا حدود". وانطلاقاً من مخاوف غربية لمزيد من الصعود الروسي المُحفز
بشراكة مع الصين تدرس الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها الأوروبيون في إطار
مجموعة G7 سُبل وقف نقل التكنولوجيا والصناعات التقنية إلى روسيا
مع شن حزمة من التكاليف والعقوبات الباهظة على الدول التي تعتزم دعم روسيا في
حربها ضد أوكرانيا.
مع مرور عام كامل علي الحرب الروسية الأوكرانية نظرية الحرب بالوكالة
أم السلعتين؟
تقوم "نظرية السلعتين"
في تحليل السياسة الخارجية على افتراض رئيسي مقتضاه: "أن السياسة الخارجية
للدول تحركها مجموعة من القضايا، والتي قد تختلف مصالح وأهداف الفواعل بصددها،
ويكون هذا التباين في المصالح بشأن التعامل مع القضايا هو المصدر الرئيسي
للصراع الدولي". وبناءً على افتراض النظرية فإن الدول في إطار سلوكها
الخارجي تتعامل مع قضية ما بسلوك معين وتتعامل مع قضية أخري بسلوك أخر وفقاً
لسلعتين أو هدفين وهما (التغيير، الحفاظ على الوضع القائم)؛ فالدولة تسعي للحفاظ على
الوضع الراهن للحصول على مصالحها، وفي نفس الوقت تسعي لتغيير الوضع القائم في قضية
أخري بما يحقق مصالحها أيضاً. وبناءً عليه يكون الفاعل الدولي راضياً عن الوضع
القائم في بعض القضايا، وغير راضياً عنه في قضايا أخري، ولذا تكون جهود السياسة
الخارجية لأي فاعل دولي موجهة نحو تغيير الأوضاع التي لا تحقق مصالحه والعمل على
الحفاظ على الأوضاع التي لا تتناسب مع تفضيلاته.
وقد بدأ الدور الصيني في
الحرب الروسية الأوكرانية دوراً حيادي لكنه كان حياداً خادعاً وغير حقيقي؛ لأن
بداية الحرب تزامنت مع إطلاق عهد جديد للشراكة الروسية الصينية والعلاقات
"بلا حدود" في إطار الدعم الدبلوماسي -غير الصريح- من بكين لموسكو فيما
يخص حرب أوكرانيا مع استمرار توطيد العلاقات الاقتصادية بما يجعل روسيا قادرة على
مواجهة تداعيات العقوبات الغربية وبما يحول دون الإضرار بالمصالح الاقتصادية لبكين
والتي تتشاركها مع روسيا. ويمكن تفسير الدور الصيني خلال العام الأول من الحرب
الروسية على أوكرانيا في إطار نظرية السلعتين وسعي بكين وبحذر عدم تخطي الخط الأحمر
وهو المصلحة الاقتصادية والاعتماد المتبادل الذي يجمعها مع كل من روسيا والغرب
(سلعة الحفاظ على الوضع القائم)، وفي نفس الوقت بدء عهد جديد من السياسة الخارجية
الصينية في مواجهة الغرب (سلعة التغيير).
ومع بداية العام الثاني من
الحرب وتصاعد التوتر في العلاقات الصينية الأمريكية وتصريحات أمريكية بوجود
معلومات استخباراتية تؤكد دعم الصين لروسيا عسكرياً في الحرب يُمكن تفسير الصراع
في إطار نظرية الحرب بالوكالة بين كل من بكين وواشنطن.
إن
الصين وإن كانت تحرص على عدم لعب دور مشابه للدور الأمريكي في حرب أوكرانيا، إلا
أنها أصبحت أمام خيارات محدودة تفرض عليها بشكل كبير دعم روسيا عسكرياً في الحرب
إذا ما أدت تطورات الصراع إلى العودة لنقطة الصفر وهي "التوسيع الغربي شرقاً
حول حدود روسيا من خلال حلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي". وهو ما يطرح علي المحلل السياسي إمكانية تحليل رؤية
الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا انطلاقاً من "نظرية الحرب بالوكالة". وتشير نظرية الحرب بالوكالة إلى وجود (راعي) قد يكون
دولة أو منظمة دولية يستعين بـــ (وكيل) الذي قد يكون دول أخري أو منظمة دولية من
أجل تحقيق أهداف ومكاسب معينة لصالح الراعي ضد دولة أخري، دون أن يتدخل الراعي
بشكل مباشر في الحرب، ويتم الاتفاق بين الراعي والوكيل إما لمصالح معينة تجمع
الراعي والوكيل أو لروابط أيديولوجية وسياسية وإقليمية وانتماءات معينة مشتركة. وتكون
الأهداف التي يسعي الراعي إلي تحقيقها غير مشروعة، لذا يلجأ إلى الوصول إليها
بطريقة غير مباشرة من خلال وكلاء. وتلجأ الدول إلى مثل هذا النوع من الحروب
لفعاليته من حيث انخفاض التكلفة مقارنة بالحروب والصراعات المسلحة المباشرة، وعدم
وجود قيود أخلاقية وصعوبة إثبات التورط في حروب بالوكالة لضرب مصالح اقتصادية أو
أمنية لدولة أخري أو لأغراض زعزعة الاستقرار ونشر الصراعات الاقليمية والحروب الأهلية.
وتستخدم الدول سياسات مختلفة اقتصادية وإعلامية وسياسية في الحروب بالوكالة.
وبتطبيق النظرية على الحرب الروسية
على أوكرانيا يمكن القول إنه ومع انقضاء عام كامل علي الحرب وما خلفه هذا العام من
تدهور ملحوظ في العلاقات الروسية الغربية وفي العلاقات الصينية الغربية، تكشف
التطورات عن حالة حرب بالوكالة تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية ضد كل من روسيا
والصين في إطار الصراع الاستراتيجي حول المكانة والنفوذ الدوليين. فمع الفشل الأمريكي في إدارة الأزمة الأوكرانية منذ
بدايتها منتصف عام ٢٠١٣ وعدم فعالية العقوبات الأمريكية الأوروبية ضد روسيا في ردع
سياساتها التوسعية وتقويض قوتها الصاعدة، ومع فشل الولايات المتحدة الأمريكية في
إدارة أزمات عديدة في منطقة الشرق الأوسط لعل أبرزها فشلها في العراق واليمن وليبيا،
إلي جانب فشلها في أفغانستان، تلعب واشنطن دوراً دولياً في أوكرانيا تحاول من
خلاله وقف حالة بهوت وتراجع القيادة الأمريكية للنظام الدولي من خلال الحيلولة دون
صعود قوي المراجعة الدولية المعروف بعدم رضاءها عن هيكل النظام الدولي الأحادي
القطبية الذي خلفته أحداث انتهاء الحرب الباردة عام 1991. وعلى الجانب الأخر فإن بكين
كراعي تدعم روسيا في الحرب كوكيل ضد الغرب لإنهاء عهد الهيمنة الغربية على النظام
الدولي بقيادة أمريكية، والوصول إلي هدف الدور العالمي للصين في إطار نظام متعدد
الأقطاب تنتقل فيه السلطة والقيم من الغرب إلي الشرق.
ومما يعزز وجهة النظر هذه هو الأسباب الآتية:
1- إن الصين لم
تنتقد ولم تدين الحرب الروسية على أوكرانيا حتى الأن ولم تصفه بالغزو أو الحرب أو
الصراع وإنما تطلق عليه "العلميات العسكرية الروسية في أوكرانيا" و
"الأزمة الروسية الأوكرانية" ولهذه المسميات دلالات الاستراتيجية في وتأثيرات
على مسار العلاقات الصينية الأمريكية.
2- لا تُبالي الصين
بالاتهامات والتحذيرات والعقوبات الغربية جراء دعمها لروسيا واستمرارها في التأكيد
على الشراكة والعلاقات الوطيدة رغم الغضب الغربي حيال روسيا ورغم تنديد المجتمع
الدولي بالدور الروسي في أوكرانيا.
3- يكشف السلوك
التصويتي للصين في منظمة الأمم المتحدة كدولة عضو دائم في مجلس الأمن الدولي،
وكذلك سلوكها التصويتي في المنظمات والتجمعات الاقتصادية الدولية الكبرى منذ عام
2014 وحتى الأن عن دعم كامل وصريح للسياسة الروسية تجاه أوكرانيا.
4- إن بكين وان كانت تنفي اتهامات واشنطن بإمداد روسيا بالأسلحة
ودعمها في الهجوم على أوكرانيا، إلا أن الشراكة الاقتصادية والتقنية بين بكين
وموسكو هي في حد ذاتها دعم للاقتصاد الروسي وللقوة الروسية وعاملاً رئيسياً من
عوامل استمرار روسيا في الحرب رغم ما تتعرض له من عقوبات وتكاليف باهظة للحرب.
5- إن الصين تعتبر
الولايات المتحدة الأمريكية هي المصدر الرئيسي للتسليح في ساحة المعركة بأوكرانيا،
حسب تصريحات وزارة الخارجية الصينية، وتتهم السياسات التوسعية للغرب بأنها هي
السبب الرئيسي في الصراع الروسي الأوكراني.
6- ما تحمله
احتمالات انتصار بوتن في حرب أوكرانيا من مخاطر على أمن دول حلف الناتو وعلى الأمن
الأوروبي بصفة خاصة، وهو ما يؤكده تصريح أمين عام الحلف "ينس ستولتنبيرح"
بأن: "الصراع الروسي الأوكراني تحول إلى معركة لوجيستية، لذلك يحتاج حلفاء أوكرانيا
إلي زيادة إنتاج الأسلحة والذخيرة" مضيفاً؛ "الناتو سيقف إلى جانب أوكرانيا
حيث لا يمكننا السماح للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بالانتصار في أوكرانيا".
7- توجه الولايات
المتحدة الأمريكية اتهامات لإيران بدعم روسيا عسكرياً في الحرب، حيث اتهمت وزارة
الخارجية الأمريكية روسيا باستخدام مسيرات إيران لضرب البنية التحتية للطاقة في
أوكرانيا، مؤكدهً في تصريحات بمناسبة مرور عام كامل علي حرب أوكرانيا أن: "
الأوكرانيون يموتون اليوم نتيجة لأفعال إيران". في إشارة إلى الطائرات
المسيرة الإيرانية التي يستخدمها العسكريون الروس في أوكرانيا. وهو ما تم على
خلفيته فرض عقوبات أوروبية علي٦ شركات إيرانية منتجة للطائرات المسيرة الإيرانية.
الخلاصــــة:
جاءت "الحرب
الروسية على أوكرانيا" ومنذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية عام 2014 كأزمة
صراع دولي يتحدى الوضع القائم للنظام الدولي، لتكشف عن القوة السياسية والعسكرية
الحقيقية لأقطاب هذا النظام خاصةً (الدول الراضية عن النظام)، ولتثبت أن المصلحة
القومية ومتطلبات الأمن القومي تعلو فوق أية أهداف أخرى للسياسة الخارجية. وقد
اتضح ذلك من خلال الدور الذي لعبته روسيا (كقوة مراجعة للنظام الدولي) في الصراع
مستخدمةً أسلوب التوسع في أراضي الدول الأخرى والتعدي على قواعد القانون الدولي
وتحدي المجتمع الدولي من خلال استخدام القوة العسكرية من أجل حماية أمنها القومي
لأن مصلحتها الوطنية وأمنها القومي مرتبطان بشكل مصيري بالسيطرة على أوكرانيا.
كذلك أثبتت الحرب
الروسية الأوكرانية تراجع وبهوت الهيمنة الأمريكية على السياسة الدولية، الذي
يتزامن مع التحول التدريجي في توجهات السياسة الخارجية للصين (كقوة مراجعة للنظام
الدولي) والتي بدت كسياسة غامضة تدعي الحياد ولكنه "حياد مُضلل" من خلال
تمسكها بدعم روسيا دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً ورفضها الموافقة علي فرض عقوبات
اقتصادية على موسكو بسبب الحرب. بل ويمكن التسليم أيضاً بأن المنطقة الرمادية التي
كانت تتسم بها سياسة بكين الخارجية لم تعد متواجدة على مستوي الممارسة السياسية
الفعلية وأنها توجهت نحو التركيز على أهداف "الاستراتيجية العالمية
الصينية" بغض النظر عن وسائل تحقيق ذلك.
إن
الأمر الفاصل هنا ليس في الموقف الصيني من الحرب الروسية على أوكرانيا ودعمها
لروسيا ولكن الفيصل هنا هو في الهدف الاستراتيجي من ذلك الموقف؛ وهو تحقيق مزيد من
التشتيت الأمني والاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي، مع إنهاك
القدرات الروسية العسكرية والاقتصادية في الحرب على أوكرانيا، وما قد يحققه ذلك من
تغيير جوهري في ميزان القوة الدولي لصالح الصين على حساب كل من الولايات المتحدة
الأمريكية وروسيا.
فلم تعد الصين
تطمح لدور إقليمي موسع فقط؛ بل أصبحت الصين (كدولة قوية وغير راضية عن النظام
الدولي القائم) تعلن طموحاتها العالمية التي كانت تخفيها في السابق، وتتخذ خطوات
لتغيير توجهات سياستها الخارجية بما يحقق مصالحها الاقتصادية في المقام الأول،
وبما يساعدها على تحقيق تلك الطموحات الاستراتيجية. وهو ما يتضح في إعلان الرئيس
الصيني "شي جين بينغ Xi Jinping" عام
2017 بأن الصين دخلت حقبة جديدة ويجب أن تحتل مركز الصدارة بالعالم، كما أنه
استخدم فكرة "المسيرة الطويلة الجديدة" أو ما عُرف بمصطلح
"استراتيجية الصين العالمية نحو عالم متعدد الأقطاب" لوصف علاقة الصين
المتدهورة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتصبو تلك
الاستراتيجية الصينية ليس فقط إلي زيادة الدور والنفوذ الصيني في العالم، وإنما
تصبو أيضاً إلى تغيير النظام العالمي من خلال دور جديد تتحدي فيه الصين
الأيديولوجية الغربية والقيادة الغربية للنظام السياسي الدولي، ويحفزها في ذلك
التحدي ما تتمتع به من عناصر القوة الديموغرافية والاقتصادية والعسكرية
والتكنولوجية وما باتت تتمتع به من قوة سياسية من خلال دورها السياسي العالمي
الجديد الذي تتحدي من خلاله القوة الأمريكية وتصبو لأن تصبح القوة العظمي الأولي
في العالم.
لكن ما لا
يجب إغفاله هنا هو: أن الصين في طريق تحقيق استراتيجيتها لأن تصبح القوة
العالمية الأولي في العالم تحتاج إلي أن تُقرن تقدمها الاقتصادي الضخم والتطور
التكنولوجي الهائل بتحول ديموقراطي داخلي مصحوب بمؤشرات وسلوكيات متراكمة تعكس
قدرتها علي "المسئولية الدولية" وحماية دول العالم الثالث من خلال إدارة
حكيمة للأزمات الدولية تراعي استقلال وسيادة الدول وكرامة الشعوب بعيداً عن فكرة
دعم الحروب والصعود غير السلمي من خلال العمل مع الشركاء الدوليين إعمالاً للمبدأ
العام الذي يقوم عليه ميثاق الأمم المتحدة وهو "حفظ السلم والأمن
الدوليين".
وأخيراً؛ على الرغم من القدرات القومية الصينية الاقتصادية والعسكرية والديموغرافية
الهائلة التي نقلتها لمكانة القوة العظمي المنافسة، إلا أن هناك حدود وقيود على
هذا السلوك الصيني الغير تعاوني أو (العدائي) الذي تنتهجه حيال الولايات المتحدة
الأمريكية من خلال شركتها وتعاونها مع روسيا. هذه القيود تجعل احتمالات دخول الصين
سواء بمفردها أو من خلال تحالف عسكري مع روسيا في مواجهة مع الغرب ضعيفة جداً. لأن
حالة الاعتماد الاقتصادي المتبادل التي تربط الصين بجميع دول العالم والمنظمات
الاقتصادية الإقليمية والدولية، وكذلك طبيعة النظام السياسي الصيني، وقضية تايوان،
كلها قيود لا يجب إغفالها في إطار التحليل الموضوعي لاحتمالات تطور التناقض الصيني
والتحول في السياسة الخارجية الصينية إلى مرحلة الصراع أو الحرب المسلحة مع الولايات
المتحدة الأمريكية وحلفائها.