منذ
الثورة الإسلامية في 1979، لم يشهد النظام الإيراني جملة من التحديات والتحولات
مثل التي يواجهها في تلك الفترة التاريخية وشديدة الحساسية في مستقبل الجمهورية
الإيرانية؛ حيث أنها تختلف كلياً في طبيعتها وسياقها المحلي، الاقليمي، والدولي، وفي
جملة التحديات التي يواجهها النظام الإيراني بشكل عير مسبوق. حقبة ممتدة من
الموجات الاحتجاجية بدأت منذ 2017، تخفت وتصعد وفقاً لجملة من المحفزات الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية والأسباب المختلفة؛ غير أنها لا تنطفأ، بل على العكس، تزداد
حدتها وتكون كل موجة جديدة أشد ضغطاً وأكثر خطراً على النظام من سابقتها، خاصة في
ظل سلوك النظام العنيف في مواجهتها واتباع أقسى سياسات القتل والقمع الممنهج.
أسباب أعمق .. مهسا أميني أم
الحجاب؟
تلك
الموجة الاحتجاجية الأخيرة التي بدأت منذ شهور ولم تخمد حتى اللحظة، بدأت مع مقتل
مهسا أميني، والتي تعتبر أيقونة ورمزية لتلك الاحتجاجات، وبسبب مسألة الحجاب وقضية
قمع المرأة، في ظل تدهور أحوال وحقوق المرأة المستمرة في المجتمع الإيراني وتزايد
ممارسات النظام القاسية تجاهها. غير أن تلك الأسباب المباشرة تعد المحفزات
الظاهرة، لكن هناك دائماً جذور وأسباب للثورة والاحتجاج ضد النظام بتوافر كافة
المحددات الخاصة بالثورة. حيث كانت احتجاجات سابقة بسبب رفع الدعم، واحتجاجات أخرى
لظروف اقتصادية معيشية، وهذه المرة بسبب الحجاب ومقتل مهسا أميني، لكن لا تعدو تلك
المسببات إلا أن تكون مجرد عوامل ظاهرة لكنها تقف على فوهة بركان من الأسباب وجذور
رئيسية للثورة والتمرد.
وتعد
العوامل الاقتصادية الحادة
أبرز تلك الأسباب مع وصول معدلات التضخم لمستويات تاريخية حوالي 46.3%، وتراجع
العملة الإيرانية لمستويات غير مسبوقة منذ عقود، وتزايد معدلات البطالة لحوالي 9%،
حيث تتصدَّر إيران دول العالم من حيث بطالة الشباب؛ خاصة مع الانحدار الكبير بوجود
2 مليون عاطل خلال 90 يوماً فقط في نهاية عام في 2020، وانضمام مليون عاطل إضافي عن العمل في 2021.
فهناك أعداد كبيرة ممن فقدوا وظائفهم، منهم 25% كانوا يعملون في الزراعة، وحوالي
75 % في الخدمات العامة. كما بلغ مؤشر الفقر في إيران 49.6٪ في نهاية 2021، وحوالي 46% نهاية 2022. ليس ذلك فقط، وإنما زادت معاناة
المواطن الإيراني برفع الدعم عن 30 مليون إيراني فيما يخص بعض المنتجات مثل
البنزين سابقاً، وعن السلع الأساسية الحيوية وارتفاع أسعارها، وكل ذلك يحدث في ظل
هيمنة الحرس الثوري وامبراطوريته الاقتصادية خاتم الأنبياء وملحقاتها على الاقتصاد
الإيراني بالاشتراك مع شبكة الشركات الخاصة بالمرشد؛ وذلك ربما يفسر احتلال إيران
صدارة تقارير مؤشرات الفساد في العالم، وفي ظل إصرار النظام على تفضيل الخارج على
الداخل من خلال زيادة ميزانية الحرس الثوري ودعم مشروع دعم الميليشات وتصدير
الثورة، رغم تلك الأجواء الصعبة، وهو ما جعل الاحتجاجات السابقة تركز على شعارات
لا لسوريا ولا لبنان، فقط إيران. فإصرار النظام على سمو الاعتبارات الأيديولوجية
والأمنية على الأولويات وطنية يسهم في قتل الشعب؛ حيث زادت مخصصات الحرس من 4
مليارات دور في 2018 إلى 7.6 مليار دولار في 2019، وتواصلت الزيادات في الميزانية؛
حيث رفعت من ميزانية الحرس الثوري في 2022 بنسبة 28%، ويُقدِّر بعض التقارير أنَّ
الدخل الفعلي لميليشيا الحرس الثوري قد يصل إلى 17 مليار دولار بفارق كبير جداً عن
الأرقام المعلنة. أيضاً ارتفعت
ميزانية الشرطة بنسبة 44% لتصل إلى 1.55 مليار دولار. وحصلت وزارة الاستخبارات على
دعم بنسبة 52%، أي ما يعادل حوالي 500 مليون دولار، وزاد تمويل السجون بنسبة 55%،
أو 230 مليون دولار.
وعلى المستوى السياسي؛ هناك حالة انفصال كامل بين النظام وبين الفرد والمجتمع، وزادت أزمة الثقة وسادت حالة من الإحباط السياسي في ظل غلق المجال العام وممارسة أدوات القطع بين المواطن الإيراني والعالم، وفي ظل ممارسات عنيفة وقمعية وعلو الاعتبارات الأمنية على أية اعتبارات إنسانية وحقوقية. وعلى مستوى العملية السياسية كان هناك هيمنة من جانب الأصوليين والتيار المحافظ على المشهد العام من خلال قوانين تمييزية وإقصائية للتيار الإصلاحي والسيطرة على السلطات المختلفة بوصول إبراهيم رئيسي لرئاسة الجمهورية، والهيمنة الكاملة على مجلس الشورى، والسلطة القضائية، وبالطبع إحكام المرشد والحرس الثوري على المشهد العام، وانعدام أية بصيص أمل للإصلاح والتوازن. وهو ما جعل هناك أصوات تخرج رافضة لذلك الوضع الصعب من داخل النظام وبيت المرشد؛ مع عدم تقديم أسرة الخميني الدعم المتوقع لخامنئي والصمت إزاء الممارسات، والأصوات المحذرة والرافضة للوضع مثل مير حسين موسوي الذي يقيع تحت الإقامة الجبرية بعد احتجاجات 2009، وأيضاً تحذيرات الرئيس خاتمي، واعتقال فائزة رفسنجاني، والفيديو والتصريحات التي قامت بها فريدة مرادخاني ابنة أخت المرشد علي خامنئي.
وعلى المستوى الإجتماعي؛ نحن بصدد مرحلة تحول كبير داخل المجتمع الإيراني؛ فهناك
تشوه كبير حدث في المجتمع نتاج سياسات النظام المستمرة منذ عقود، والتي طالت كافة
طبقات المجتمع وساهمت في اتساع الطبقة الفقيرة والوسطى، أيضاً تحول المجتمع لفئات
متفوقة اجتماعياً من عناصر الحرس الثوري والباسيج وكبار قيادات النظام والذين
هيمنوا على كل شىء، وبالتالي توجد هوة كبيرة في الثروة والسلطة، مع تهميش متعمد
للقوميات غير الفارسية وخاصة الأهواز والأكراد والتركمان، وعدم تمثيلهم في السلطة
ولا حتى المستويات الدنيا، وحرمانهم من الخدمات وتدهور نوعية الحياة؛ حيث الأهواز
مثلاً بها حوالي 60% من ثروات الدولة من اليورانيوم والمعادن والنفط والمياه، ورغم
ذلك هي أسوأ المناطق في مستوى المعيشة والحياة علاوة على منع اللغة العربية،
وممارسات القمع. فقد شهد عام 2022 حوالي 18 ألف حكم قضائي معظمها من نصيب الأقليات
والسنة.
مأزق تاريخي .. سقوط
الأدبيات الكلاسيكية للثورة
شهدت
إيران العديد من الاحتجاجات؛ مثل احتجاجات 1989، واحتجاجات 1999، احتجاجات 2005
الطلابية، واحتجاجات 2009 لأسباب سياسية خاصة بالانتخابات الرئاسية. وكل تلك
الاحتجاجات كانت إما سياسية أو اقتصادية أو معيشية؛ أيضاً كانت مطالبها تتعلق
بحقوق الإنسان أو المواطنة؛ علاوة على أن تلك الاحتجاجات كانت مركزية حول العاصمة
طهران وجوارها المباشر، وشعاراتها كانت محددة بمطالب معينة، وهي لم تستمر طويلاً،
وحجم المشاركة بها كان ضيق وسريع التراجع، وأخيراً فهي كانت مقتصرة على الداخل
الإيراني ولم تشهد تفاعل من الخارج.
لكن
موجات الاحتجاج التي بدأت منذ 2017 تختلف كلياً من حيث عدة عوامل؛ أولاً من حيث
حجم الاحتجاجات واتساعها فقد طالت كل المحافظات الإيرانية والمحافظات، حتى تلك
التي تعد معاقل النظام مثل أصفهان وشيراز، أو حتى مدن دينية مثل مشهد وقم. ومن حيث
الشعارات فهي لم تقتصر على مطالب فئوية أو خاصة وإنما تعلقت بالقضاء على النظام
وإسقاطه ورفض أدبيات الثورة الإيرانية نفسها، ورفض سطوة رجال الدين والحوزة
الدينية والدعوة لإسقاط العمائم، والهجوم على المرشد نفسه، في مشهد سقطت معه
الخطوط الحمراء التي لطالما اعتمد عليها النظام في بقاؤه. ومن حيث حجم المشاركة
الواسعة؛ حيث شهدت الاحتجاجات كثافة للطلاب والعمال وأيضاً مشاركة عريضة من المرأة
والأطفال والشيوخ، والأهم أن الاحتجاجات غلب عليها البعد الوطني وليس القومي؛ حيث
بات كل الشعب الإيراني في مربع واحد يعاني من ممارسات النظام، وبالتالي مشاركة
الفرس جاءت قبل مشاركة القوميات الأخرى، وهو الأمر الذي جعل النظام غير قادر على
تقديم التبربرات التقليدية بوصفها ذات بعد قومي.
الأهم في
ذلك هو حالة التشابك بين الخارج والداخل، خاصة الاحتجاجات الحالية التي لاقت صدى
وتفاعل واسع ومظاهرات متضامنة في أكثر من 150 مدينة حوال العالم من جاليات إيرانية
أو حتى من مواطني تلك الدول للضغط على حكوماتها، وهو ما دعا دول مثل كندا وهولندا
والسويد توقع عقوبات على إيران بالإضافة للولايات المتحدة والدول الأوروبية.
إن حالة
الاستمرارية في الاحتجاجات تشكل مسألة نوعية رغم كل الانتهاكات التي يتبعها
النظام، زاد الزخم والمشاركة في الاحتجاجات رغم القتل الممنهج والتعذيب وأحكام
الإعدامات بدون محاكمات والتي زادت في 2022 بنسبة 80% عن عام 2021، ولم تفلح
سياسات الإرهاب والاعتقال والتهديد في إقصاء الإيرانيين عن هدفهم، بل واجهوا العنف
بعنف مضاد ومزيد من الجرأة.
فالنظام
الإيراني بهذه الحيثية يواجه أزمة جيلية كبيرة؛ سواء فيما يتعلق بأفراده
وقياداته التاريخية منذ الثورة الإيرانية؛ التي بدأت تتلاشي مع أفول الأجيال
الأولى التي اتسمت بعلو الحماسة الثورية والتطوع على اعتبارات التجنيد والانتفاع؛
فهناك جيل جديد من الضباط آخذ في الترقي داخل أروقة الحرس
والباسيج؛ جيل لم يكن نشطًا في ثورة 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية ولم يخض حرب
العراق التي دامت 8 سنوات منذ 1980؛ فقد شكلت تلك التجارب النظرة الأيديولوجية
للقيادة السابقة والحالية ولكن الجيل الجديد يبدو أكثر تكنوقراطية منهم، وذلك يشكل
تحدي كبير في الإيمان بالفكرة ويتعارض مع الأسس الأيديولوجية للدولة الثورية، وهو
ما قد يخلق توترات كبيرة داخل النظام ومع المكونات المؤسسية الأخرى.
كما أن التحدي الجيلي يتمثل أيضاً
في المكون المجتمعي الذي يشكل جيل جديد من المواطنين والشباب الذين لم يروا الثورة
الإيرانية ولم يعيشوا أجواءها ولا يتبنوا شعاراتها؛ فضلاً عن أن هذا الجيل يتسم
بوجود حالة مقارنة دائمة وانفتاح على الثقافات والتجارب والسياقات الدولية
الثقافية المختلفة، كما أنه أكثر تحرراً ومن الصعب إبقاؤه في قوالب جامدة سواء دينية
أو سياسية، فضلاً عن ذلك فإن هذا الجيل أكثر قدرة على التعامل مع التكنولوجيا
ووسائل التواصل والتعبير عن ذاته؛ وتشكل كل تلك المؤشرات تهديد كبير للنظام في ظل
تراجع أدوات التأثير والسيطرة التقليدية خاصة الأمنية منها، ولم يعد للخطاب الديني
ومقاربات التقديس الجاهزة قادرة على إخضاعه، ولا التبريرات التقليدية مكان في
إقناعه.
هل يسقط النظام؟ ومتى؟
رغم كل
تلك التطورات والأحداث التي تشكل ضغوطاً غير طبيعية على النظام، يبقى التساؤل
الرئيسي لماذا لم يسقط النظام الإيراني حتى هذه اللحظة؟!!.
أولاً،
النظام الإيراني مختلف من حيث تكوينه ومؤسساته عن أية دولة أخرى؛ فنجد أن هناك
مؤسسات موازية غير تقليدية داخله؛ فهناك الحرس الثوري، وقوات الباسيج، وقوات
مكافحة الشغب وشرطة الأخلاق، علاوة على الجيش النظامي التقليدي والشرطة العادية؛
وبهذا التكوين فإن النظام يحتفظ لنفسه بأفضلية أمنية مكثفة جعلته يتحمل حتى الآن -ولو
مؤقتاً- ويستطيع إطالة الأمد في الصمود، على الرغم من التسريبات التي جاءت على
لسان المرشد الذي يتوقع استمرار الاحتجاجات، وعلى الرغم أيضاً من تسريبات قاسم
قريشي نائب رئيس قوات الباسيج في لقاؤه مع قوات الأمن التي أعلنت إرهاقها الشديد
من مواجهة المحتجين ومطالباتها بدعم وأدوات جديدة، فضلاً عن زيادة في المرتبات، وأيضاً
في ظل طلب إيران دعم استشاري والاستعانة بالخبرات الروسية في مواجهة المحتجين في
اللقاء الذي جمع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني مع سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف. خاصة مع وجود تقارير تتحدث عن طلب
النظام الاستعانة بقيادات وعناصر من الحرس الثوري المتقاعدين، ولم يستجب منهم سوى
300 فقط.
ثانياً،
عدم تبلور رؤية خارجية غربية حتى هذه اللحظة في إسقاط النظام؛ فما زالت الولايات
المتحدة الأمريكية تتبع أسلوب العقوبات والضغط على النظام من أجل تحقيق نجاحات
ومكاسب في ملفات أخرى مثل الاتفاق النووي، لكن هي ما زالت حريصة على استخدام إيران
كأحد أهم أدوات توازن القوى في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج؛ كما أنها توظف الأبعاد
الطائفية والمذهبية لخدمة مصالحها، وإيران تعد أداة مناسبة جداً في هذا الأمر
طالما تستطيع واشنطن إبقاءها في هذا المربع رغم الخلافات الموجودة، لكنها تحت
السيطرة. كما أن الدول الأوروبية لديها مصالح اقتصادية، ولديها بعض الاعتبارات
التي تخشى منها من ردة فعل إيران وميليشياتها وأدواتها في الإضرار المباشر
بالمصالح الأوروبية، علاوة على وجود أولويات أكثر إلحاحاً مثل الحرب الروسية
الأوكرانية. وبذلك هي تتغافل عن جملة الممارسات الإيرانية وتحاول التعامل معها في
ضوء الحدود المتاحة، وهذا يفسر عدم تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، أو التعامل
مع قيادات النظام وفق جرائم الجنائية الدولية. على الرغم من تهديد إيران للمصالح
الغربية واستهداف ناقلات النفط، وبرامج تطوير الصواريخ البالستية، والخروج السريع
من إجراءات الاتفاق النووي سواء من حيث كمية أو نسبة التخصيب أو أجهزة الطرد
المركزي المتقدمة أو الأنشطة الانشطارية في مواقع غير معلنة. فضلاً عن تاريخ
الاغتيالات والتهديد للمعارضة في العواصم الأوروبية والتجسس في النمسا وبلجيكا
وفرنسا، وغيرها.
كما أن
النظام الإيراني يمارس أقصى درجات القمع من خلال إعدامات بالجملة بدون محاكمات،
وتهديد للرعايا الأجانب ومزدوجي الجنسية واعتقالهم، وقتل واحتجاز للصحفيين؛ مثل
عاطفة نعامي والبلجيكي أوليفييه، والرعايا الفرنسيين، وإعدام علي رضا أكبري نائب
وزير الدفاع الأسبق ذو الجنسية البريطانية. نتحدث أيضاً عن 1500 قتيل في 2019 وفي
الاحتجاجات الحالية مقتل أكثر من 550، ربعهم من الأطفال والنساء، وخلال عام 2022
تم اعتقال 322 امرأة بسبب نشاطهن في مجال حقوق المرأة، ووجود 565 حالة إعدام في
2022 ضمنهم 11 امرأة و5 أطفال. 204 حالة حبس انفرادي للسجناء، 102 حالة إضراب عن
الطعام، 166 حالة نفي للسجناء، 5000 حالة ضغط وتهديد، و7652 حالة تعذيب جسدي
ونفسي. وارتفعت الأحكام الصادرة بنسبة 37% عن 2021. كل تلك الأرقام وغيرها تعكس
ازدواجية في التعامل مع إيران وتؤكد أن الإجراءات الأوروبية والغربية لا تتماشى مع
جملة الجرائم الإيرانية.
ثالثاً، تحول المعارضة من النمط العشوائي العفوي إلى الشكل التنظيمي ووجود هيكل مؤسسي للاحتجاجات؛ بما يتضمنه ذلك من وجود قيادات قادرة على رسم تصور للمستقبل ووضع أهداف ولديها قدرة على الضغط والتفاوض والتشبيك ما بين الداخل والخارج، ووجود تلك المعارضة مهم لتشجيع القوى الدولية لاتخاذ مواقف إيجابية والتأكد من مستقبل الدولة والبدائل المتاحة. فوجود احتجاجات عشوائية بلا قائد تشكل تشتيت وإرباك للنظام وعدم قدرته على اعتقال والسيطرة على أطرافها، لكن في نفس الوقت الثورة تحتاج قيادة ورؤية وبديل مطروح لمغازلة الخارج، وتوجيه الداخل.
رابعاً، مدى
صمود المحتجين واستمرارية الاحتجاجات؛ وهذا العامل لم يكن موجود في السابق، لأن
التظاهرات كانت قصيرة الأمد ويتم إخمادها بسرعة أو تنتهي بذاتها في وقت بسيط؛ لكنه
أصبح متاح وبقوة في الفترة الحالية مع استمرار الاحتجاجات لشهور، علاوة على
الموجات الاحتجاجية المتتابعة؛ وذلك بسبب أن محفزات وجذور الثورة أصبحت دائماً
متاحة مع كل حدث أو تطور.
نظل الآن
في مربع اللاحسم؛ فلا النظام قادر على السيطرة باستخدام أدواته المختلفة التي نجحت
في السابق، والتي لم تعد قادرة على تحقيق نفس النتائج، ولا المحتجين قادرين على
إحداث الأثر الحاسم بتغيير قواعد المواجهة وتحقيق الحسم لصالحهم في ظل الاحتياج إلى
بعض العوامل الخارجية، والمتطلبات التنظيمية.
يبقى أن نقول أن مسألة سقوط النظام أصبحت قريبة، وهي تحققت نظرياً، وبات تحولها على أرض الواقع رهينة تلك الأسباب ومشروطاً ببعض التحولات التي بدأت تكتمل، والتي تؤكد أن استمرارية هذا النظام أصبحت صعبة إن لم تكن مستحيلة. وعلى الدول الكبرى التعامل مع المسألة الإيرانية كحزمة واحدة بعيداً عن المقاربة الأحادية الخاصة بالاتفاق النووي. لأن هذا النظام يشكل خطراً على استقرار المنطقة برمتها في ظل مسؤوليته المباشرة عن أزمات عديدة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، فضلاً عن أن جملة استراتيجيات واشنكن الضعيفة في التعامل مع إيران، والمواقف الغربية من طهران، كلها جعلت هناك تمادي من إيران في سياساتها والمضي نحو التصعيد والتهديد بشكل نال من هيبة تلك الدول، وهو ما ظهر في مزيد من التنسيق والتعاون الإيراني الروسي ومد موسكو بالمسيرات التي استطاعت عمل فارق نوعي في فاعلية الضربات والعمليات الروسية واستهداف البنية التحتية الأساسية في أوكرانيا من المياه والكهرباء. خلاصة القول أن مزيد من المرونة مع إيران سيؤدي لمزيد من التعقيد ومن التمادي الإيراني. وما يحدث في الداخل الإيراني مرتبط بشكل كبير بالخارج. ما يحدث حالياً اختبار تاريخي للنظام الإيراني والثورة الإسلامية، وأعتقد أنه لن تنجح فيه هذه المرة.