اتجاهات النفوذ: تحركات فاجنر ومسارات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا
بينما يواصل الجيش الروسي صد الهجوم
الأوكراني المضاد على جبهات القتال، بلغ الصراع بين مجموعة فاغنر والقيادات
العسكرية أشده، بعدما اتهم قائدها يفجيني بريجوجين وزارة الدفاع الروسية، بقصف
قواته، داعيًا إلى التمرد عليها، وهو ما نفته موسكو رسميًا، معلنة فتح تحقيق ضده
بتهمة الدعوة إلى تمرّد مسلّح، وقد شهدت
روسيا في يوم 24 يونيو 2023، إعلان زعيم مجموعة فاجنر يفجيني بريجوجين رفضه التوجهات
والسياسات العسكرية التي تقودها موسكو حاليًا في أوكرانيا، في تطور أخرج للعلن حجم
التوترات العميقة في صفوف قوات الكرملين؛ حيث اتهم قائد مجموعة فاجنر يفجيني بريجوجين
الجيش الروسي بقصف معسكرات لقواته في أوكرانيا، وهو ما أسفر عن مقتل عناصر من
مجموعته شبه العسكرية الروسية، متوعدًا بالانتقام. من جهته نفى الجيش الروسي في
بيان الاتهامات وأعلنت موسكو فتح تحقيق بحق بريجوجين بتهمة الدعوة إلى تمرد مسلح.
وعلى الرغم من الاتهامات المتبادلة بين
الجانبين إلا إن رئيس مجموعة فاجنر الروسية العسكرية الخاصة المتمرد أعلن إنه أمر
مقاتليه، الذين كانوا يتقدمون صوب موسكو، بالعودة إلى قواعدهم لتجنب إراقة الدماء
وذلك بعدما تدخل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو وإعلان قائد قوات فاجنر بأن إن
هدف مسيرة قواته نحو موسكو كان لمنع تدمير الشركة العسكرية الخاصة، وليس قلب نظام
الحكم في روسيا.
وتضمنت بنود الاتفاق بين الكرملين
ومؤسس مجموعة فاجنر المسلحة بوساطة بيلاروسية مغادرة يفجيني بريجوجين روسيا إلى
بيلاروسيا مقابل أن تسقط موسكو التهم الجنائية ضده، بالإضافة إلى عودة قوات فاجنر
إلى معسكراتها وقواعدها، بجانب إمكانية الانضمام للجيش الروسي بالتعاقد مع وزارة
الدفاع فيما يتعلق بعناصر فاجنر الذين لم يتورطوا ورفضوا الانضمام إلى بريجوجين في
تمرده، كما لن تتم ملاحقة عناصر فاجنر قانوننًا من الذين رفضوا الانضمام لحملة بريجوجين
وتعاقدوا مع وزارة الدفاع.
اتجاهات التصعيد
لم تكن الخلافات بين الجيش الروسي
وقوات فاجنر وليدة اللحظة ولكنها امتداد لسلسلة من الاختلافات بينهما حول مساحة
الدور والحركة للقوات شبه الرسمية في مجريات الحرب الأوكرانية فتارة تنصاع لأوامر
الجيش الروسي وتارة أخرى تتخذ إجراءات بمفردها بما يضغط على الجيش الروسي وقدرته
على حسم المعركة العسكرية في أوكرانيا.
وقد أحدثت مجموعة من الأحداث تأثيرات
فيما يتعلق بوصول الأمور إلى هذا المستوى من التعقيد من أهمها قيام وزارة الدفاع
بمنع توريد الأسلحة إلى المجموعة بالإضافة إلى منع وصول المتطوعين للانضمام إلى
صفوفها وتفخيخ المواقع المحيطة بمناطق انتشار وتمركز قواتها، وهو ما ساهم في رفض
فاجنر التعاون مع المؤسسات العسكرية الرسمية الروسية واتخاذها قرارات منفردة ضدها.
وتؤشر حالة التمرد الداخلي التي تشهدها قوات فاجنر على فصل جديد من فصول الخلافات
حاليًا وإن كان من المرجح أن يتجدد هذا الخلاف بصور مختلفة مستقبلًا ما لم يتم
حسمه من جانب بوتين، في حين أعلن المتحدث باسم الرئاسة ديمتري بيسكوف، إنه من غير
الوارد أن يؤثر تمرد فاجنر الفاشل على الحملة الروسية ضد كييف، مضيفًا أن العملية
العسكرية الخاصة مستمرة في صد هجوم أوكرانيا المضاد.
الجدير بالذكر هنا أن محاولة التمرد
التي قامت بها فاجنر تمثل نقلة نوعية في مسار العلاقة بين شركات الأمن الخاصة
والحكومة الروسية باعتبار أن هذه الشركات بمثابة أداة مهمة تعتمد عليها روسيا
لتحقيق أهدافها المختلفة في عدد من قضايا السياسة الخارجية الروسية. وربما تفكر
موسكو في التخلي بصورة أو بأخرى عن هذه السياسة الأمنية الهجينة في سياساتها
وحروبها الخارجية، مع تهديد فاجنر للاستقرار العام في البلاد، وإضرارها بصورة
الاستقرار والتماسك الذي حرص النظام الروسي على تصديرها خارجيًا منذ بدء العملية
العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن ثم من المحتمل أن تتجه روسيا إلى البحث عن
بدائل لملء هذا الفراغ الذي ستتسبب فيه انسحاب قوات المجموعة.
وضمن سياق متصل، تمثل مجموعة فاجنر قوة
باعتبارها أحد أبرز أدوات السياسة الروسية في كثير من مناطق الصراعات والأزمات
التي تنخرط بها روسيا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما ساهم في اكتسابها أهمية كبيرة
في تعزيز النفوذ الروسي هناك من واقع أنها تمثل أداة جيوسياسية مهمة توظفها موسكو
لتنفيذ سياساتها وتحقيق مصالحها الحيوية في هذه المناطق، بجانب ذلك موازنة الأدوار
الدولية الفاعلة في عدد من المناطق الاستراتيجية هناك. وفي محاولة للهيمنة على عدد
من الملفات الاستراتيجية التي تستطيع بها مساومة ومقايضة الغرب والولايات المتحدة،
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يخرجا بتصريحات قوية حول
الأزمة، واكتفيا بالقول إنهما يقومان بالتنسيق عن كثب مع الحلفاء، إلا أنهما
يبحثان عن اتجاهات جديدة يمكن أن تقوض النفوذ الروسي في هذه المناطق وكيفية دعم
أوكرانيا في ظل هذه الأحداث والتطورات.
استجابة مختلفة
تدفقت ردود الفعل من الدول الغربية بعد
محاولة الانقلاب لشركة فاجنر العسكرية الخاصة في روسيا، فكتب رئيس المجلس الأوروبي
شارل ميشيل على تويتر اليوم السبت، أن الاتحاد الأوروبي "يراقب عن كثب الوضع
في روسيا أثناء تطوره، ولا يزال على اتصال مع القادة الأوروبيين وشركاء مجموعة
السبع"، ومضى المسؤول في وصف الأزمة الحالية بأنها "قضية روسية داخلية
بوضوح"، وتعهد بتقديم دعم "ثابت" لأوكرانيا.
كما غرد كبير الدبلوماسيين في الكتلة،
جوزيب بوريل، بأنه "أجرى مكالمة مع وزراء خارجية مجموعة السبع لتبادل وجهات
النظر حول الوضع في روسيا"، بالإضافة إلى ذلك، أنشأ الاتحاد الأوروبي
"مركز الاستجابة للأزمات". في غضون ذلك، قال المتحدث باسم مجلس الأمن
القومي الأمريكي، آدم هودج، إن الرئيس جو بايدن قد تم إطلاعه على آخر التطورات في
روسيا وسيتشاور مع الحلفاء والشركاء.
بدوره، قال مكتب الرئاسة الفرنسية
لوسائل الإعلام إن إيمانويل ماكرون يتابع الموقف عن كثب، كما تم إصدار رسائل
مماثلة من قبل الحكومات الألمانية والإيطالية والسويدية والنرويجية، بالإضافة إلى
ممثل الناتو. أما رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، فقد حث
"جميع الأطراف على تحمل المسؤولية وحماية المدنيين" في حديث له لبي بي
سي، كما أكد: "نحن على اتصال مع حلفائنا مع تطور الوضع. سأتحدث إلى بعضهم في
وقت لاحق اليوم والأهم من ذلك هو أن تتصرف جميع الأطراف بمسؤولية".
يذكر أن مسؤولو الدفاع في بريطانيا
وصفوا محاولة الانقلاب الحالية بأنها التحدي الأكبر للدولة الروسية في الآونة
الأخيرة، كما قاموا بتقييم أن قوات فاجنر "كانت تهدف بشكل شبه مؤكد للوصول
إلى موسكو"، حيث يبدو أن بعض القوات الحكومية غير مستعدة لمقاومة. كما نصحت
لندن مواطنيها بشدة بعدم السفر إلى روسيا، في حين أوصت وزارة الخارجية الألمانية
فقط بالابتعاد عن روستوف أون دون ووسط مدينة موسكو. ونشر وزير الخارجية التشيكي يان ليبافسكي رسالة على تويتر جاء فيها
"أرى أن إجازتي الصيفية في شبه جزيرة القرم تقترب. وفي إستونيا، أعلن رئيس
الوزراء كاجا كالاس، أنه تم تعزيز الأمن على طول حدود البلاد مع روسيا، واتخذت
لاتفيا المجاورة تدابير مماثلة. من جهة أخرى، قال الرئيس البولندي أندريه دودا
إنه أجرى مشاورات هذا الصباح مع رئيس الوزراء ووزارة الدفاع الوطني وكذلك مع
الحلفاء. وأضاف أن "مجريات الأحداث خارج حدودنا الشرقية تخضع للمراقبة بشكل
مستمر. علاوة على ذلك، اعتبر وزير الدفاع البلجيكي لوديفين ديدوندر الوضع في روسيا
بأنه خطير.
ويمكن القول بأن هذه التصريحات جاءت
بصورة متحفظة في مجملها في محاولة من جانبهم للنأي بنفسهم عن تورطهم في هذه
الأحداث؛ حيث اعتبر الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن تمرد مجموعة فاجنر العسكرية
الخاصة على الكرملين، جزء من الصراع داخل النظام الروسي، مؤكدًا عدم تورط الولايات
المتحدة أو الناتو فيه. وفي أول تعليق له على التمرد الذي أن الولايات المتحدة
وحلفاءها عملوا على عدم السماح لبوتين بتحميل الغرب المسؤولية.
كما يمكن الإشارة هنا إلى أن هناك غموض
حول مستقبل النظام الروسي وما يمكن أن تفرزه هذه التحديات من تفاقم ضغط الداخل
الروسي على النظام، وموقف قوى المعارضة الروسية، كما أنه يبدو أن حقيقة أن فاجنر
لم تحل على الفور بعد يوم غير مسبوق سار فيها مقاتلوها باتجاه موسكو، وأطلقوا
النار على مروحيات عسكرية روسية، تشير إلى أن الكرملين لم يتخذ قرارًا بعد بشأن
مستقبل المجموعة.
في الختام: من الصعب توقع المسارات
التي ستنتهي إليها الأزمة الحالية في روسيا، وإن كان من المؤكد أن محاولة التمرد
التي نفذتها قوات فاجنر أفرزت مجموعة من الضغوط على الرئيس الروسي بعدما ساهمت في التأثير
على صورته، وما يمكن أن تمتد في انعكاساتها على دخول روسيا في حالة من الفوضى غير
المعهودة، وهو ما قد يضطر بعض القوى الكبرى إلى التدخل في الصراع مباشرة والبعد عن
التحفظ في تعاملها مع هذه التطورات.