يُعد 15 أغسطس 2021 يوماً من الأيام السوداء في تاريخ أفغانستان
المعاصِر، وذلك لأنَّ طالبان وصلتْ آنذاك مرةً ثانيةً إلى الحُكم وسيطرتْ على البلاد
بعد تقريبًا 17 سنةً من الحرب والدمار والتفجير وقتل
المواطنين الأبرياء. إن وصول طالبان إلى الحُكم لم يكن أمرًا غير متوقَّع عند
كثيرٍ من المتابعين لمفاوضات السلام بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، لكن
سُرعَةَ الوصول كانت أمرًا غير متوقَّع، لأنَّ المجتمعَ الدولي وعلى رأسه الولايات
المتحدة الأمريكية استثمرت كثيرًا في القواتِ العسكرية والأمنية والمدنية في
أفغانستان، على الرغم من الفسادِ الموجودِ عند الأمريكان والأفغان وعدم التنسيق
بين أنشطة القوات المختلفة وعدم ملاءمة الظروف المجتمعية والثقافية الأفغانية
لبعضٍ من هذه البرامج والأنشطة.
وهنا لا نُريدُ أن نتحدَّث عن أسبابِ وكيفيةِ وصول
طالبان إلى الحُكم لأنَّه ما زالَت هناك أسباب وعوامل غير واضحة، وبالأخصّ حول اتفاق
طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، لكن نُريدُ أن نتحدَّثَ عما فعلت طالبان في
فترة حكمها للبلد، لأنَّ كثيرًا من المواطنين في العالمِ العربي كانوا متفائلين
بوصول طالبان إلى الحُكم وكانوا يتحدَّثون عن توفيقات ربَّانية عند سيطرة طالبان على أفغانستان.
رأس السلطة: طالبان، منذ نشأتها كجماعة حركية في تسعينيات القرن
الماضي، كانت حركة غامضة. معظم مسؤوليهم لم يكونوا من الناس ذوي القدرات خارقة أو
تخصصات العلمية أو حتى العسكرية. اجتماعيًا، لم تمثل قيادات طالبان مجتمع
أفغانستان متعدد القوميات، بل كان معظمهم من عرقية واحدة وهي البشتونية التي تنحدر
من جنوب أفغانستان. لقد تم اختيار معظم قادة طالبان بناءً على صلة قرابة عرقية أو التعليم
الديني التقليدي والراديكالي. وعلى هذا الأساس، تم اختيار الملا عمر كزعيم سابق
للحركة، وعلى الرغم من أنه يبدو ظاهرياً أنه تم اختياره في اجتماع لمجموعة من
العلماء، لكن يُقال إن العلماء ذاتهم تم اختيارهم آنذاك من قبل مخابرات طالبان.
لقد انعزل الملا عمر بعد انهيار حكومة
طالبان الأولى في عام 2001، ولكن عوامل عدة أدت إلى تدخله مرة أخرى في
الشؤون السياسية. وتوفي الملا عمر في عام 2013 ولكن لم
يُعلَن عن وفاته من قبل طالبان حتى عام 2015. ولاحقا تم
تعيين الملا اختر محمد منصور، أحد تجار المخدرات، زعيمًا للحركة، لكن بعد مقتله في
عام 2016، عند عودته من إيران حاملًا جواز سفر
باكستاني، جاء الملا هبت الله زعيماً للحركة. ولكن لا يعرف أحد كيف جاء ومن أتى به
إلا قليل من زعماء الحركة ومكتب المخابرات الباكستانية. ومع ذلك لم ير الشعب الأفغاني
زعيم طالبان أو "أمير المؤمنين" منذ سيطرة طالبان على الحكم، ولم يظهر
في أي قناة تلفزيونية بعد. ويقال إن التحديات الأمنية قد جعلت الملا هبت الله لا
يظهر علنًا لاحقاً.
الشعب:
قبل وصول طالبان إلى الحكم، كان معظم زعماء الحركة في كثير من المناسبات يؤكدون أن
لدى طالبان شعبية واسعة داخل أفغانستان وأن الشعب هو بالأساس وسيلة لعودة طالبان
بعد دخول القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن بعد عودة طالبان،
زادت نسبة الهجرة من البلد واللجوء إلى باكستان وإيران ودول أخرى. ووفقًا
لإحصائيات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، غادر أكثر
من مليون شخص من مواطني أفغانستان البلاد، ومازال العديد من الأفغان يحاولون
مغادرة البلد.
وفي الوقت الحالي لا يستطيع أحد؛ حتى
علماء الدين، أن ينتقد حكومة طالبان في أفغانستان، ويكفي أن يقول شخصا علنًا عبارة
لا تروق لطالبان إذ أنه سيعرض نفسه للتعذيب والسجن. وعلى سبيل المثال فإن كثير من
الشعب يخشون إظهار الإعجاب ببعض المقالات أو المقولات المنشورة على صفحات المنصات
اجتماعية مثل فيسبوك وتويتر. وصحيح أننا ظاهريًا لا نرى ولا نسمع خبرًا عن تفجير
يومي في أفغانستان، وأن عدد القتلى والمصابون منذ أغسطس 2021 قد انخفض حتى الآن مقارنة بالسنوات الماضية، إلا أن الشعب لا يشعر
بأمان نفسي ولا يتمتع الشعب في أفغانستان بحياة خاصة، إذ تتدخل طالبان في جميع شؤون
حياة الشعب من حيث اللبس، والقراءة، والكتابة، والزيارة، والعبادة.
هذا الجو الأمني قد أدى إلى اكتئاب عام
داخل مجتمع الافغاني وبتنا نسمع كل يوم تقريبًا عن انتحار الشباب والشابات بسبب
أمراض نفسية أو مشاكل اقتصادية أو ضغوط اجتماعية. ويقول البعض إن أفغانستان تحولت
إلى سجن، وأن كل الشعب الأفغاني هم مسجونون، والسبب يكمن في أن الشعب لم يقم حتى
الآن بمواجهة طالبان ولم يحمل السلاح، لأن لديهم أملًا أن طالبان ستتعلم من ماضيها
وستغير أسلوب تعاملها مع الناس، وإن الحرب الطويلة في أفغانستان قد أدت أيضا إلى افتقاد
الشعب الثقة بالجميع، لأن كل من ادعى بأنه يخدم الشعب، اهتم بمصالحه الشخصية أو
العرقية.
المرأة:
تشكل المرأة حوالي 50% من المجتمع الأفغاني، وبعد عام 2001؛ وعند انهيار حكومة طالبان، عادت الفتيات إلى التعليم في المدارس
والجامعات، وحتى من درست خارج أفغانستان عادت إلى البلد وبدأت الانخراط بنشاط في
المجتمع والمجالات الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والعسكرية. إن الاهتمام
بالتعليم لم يكن محل تشجيع من مجتمع الدولي فقط، بل كانت هناك مدارس غير رسمية
وغير معلنة كما توجد حاليًا تحت حكم طالبان، لكن انهيار حكومة طالبان ساعد المرأة
على الخروج إلى المجتمع والإستفادة من قدراتها.
لقد زاد قلق السيدات الأفغانيات بشأن مستقبلهن،
مع بداية حوار طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لأن التعليم الحديث للمرأة
يكون أمرًا غير مقبول في مجتمع البدو الذي جاء منه معظم قادة طالبان. وللأسف، بعد عودة
طالبان إلى الحكم، تحول خوف السيدات إلى حقيقة.
إن طالبان منعت السيدات من الدراسة في المدارس
والجامعات، كما منعتهن أيضًا من العمل سواء في المجال الرسمي والحكومي أو التجاري.
إن الحياة التي خلقتها طالبان للمرأة في أفغانستان زادت من المشاكل المجتمعية والنفسية.
وزادت نسبة الانتحار بين السيدات الأفغانيات بنسبة 50% لأنه في كل يوم يُقيد دور المرأة
داخل المجتمع، والسيدات، خصوصًا الطالبات في الجامعات، فإنهن يشعرن بخيبة أمل وحياة
بلا مصير. وتُهدد طالبان كل من يعارض أوامرها، وتعذب كل من يُقبض عليه، وتُغتصب كل
من تسجن في سجون طالبان، وقد أدى كل هذا إلى أن تودع كثير من السيدات المسجونات
الحياة.
الاقتصاد:
إن أفغانستان هي بالأساس دولة زراعية ولها مصادر طبيعية ومعادن
كثيرة، لكن زيادة نسبة المواطنين وتكاليف المعيشة جعلت هناك حاجة إلى تغيير أسلوب
الزراعة واستخراج المعادن من قلب الجبال ومن تحت الأرض. ولكن نظرًا لوجود حروب
متتالية خلال الأربعين سنة الماضية، لم تستطع أفغانستان أن تصبح مستقلة اقتصاديًا،
لذلك كانت بحاجة إلى مساعدات دولية. ومنذ عام 2001 حتى 2021، كان
المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، يقدم المساعدات إلى أفغانستان
وسنويًا كان يدفع مليارات الدولارات لتمويل الحرب ومرتبات موظفي الدولة.
لكن بعد خروج الولايات المتحدة وتجميد أصول بنك أفغانستان المركزي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وخروج متخصصين أفغان من أفغانستان، تأثر اقتصاد أفغانستان كثيرًا. إن التأثير الاقتصادي على الشعب الأفغاني لم يظهر في الأرقام المنتشرة حول نسبة زيادة التضخم المالي في أفغانستان، وذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية تدفع أسبوعيًا 40 مليون دولار لطالبان رسميًا وتُرسل أموالًا كثيرة بشكل غير رسمي إلى أفغانستان وبالأخص إلى طالبان. ولكن التأثر الاقتصادي يظهر من خلال دراسة نسبة العمالة في أفغانستان، وقيمة الشراء عند المواطنين الأفغان، ونسبة انتحار المواطنين بسبب ظروف الاقتصاد السيئة. ويعاني 14 مليون شخص في أفغانستان من انعدام الأمن الغذائي وفقًا لتقرير برنامج الأغذية العالمي WFP، وهذا يعني أن واحدًا من كل ثلاثة أشخاص يواجهون بالفعل جوعًا شديدًا، والآن لا يستهلك 95% من الأسر ما يكفيها من الغذاء.
الفساد: إن أفغانستان كانت من أكثر الدول فسادًا قبل حكومة طالبان الثانية، لكن آخر الإحصائيات الرسمية تشير إلى إنخفاض نسبة الفساد في أفغانستان، وهناك بعض الأسباب لتراجع الفساد، منها تقليل نسبة المساعدات والتمويل الدولي إلى أفغانستان. ومع ذلك فإن الفساد اتخذ شكلًا آخر، وذلك لأنه لا يوجد قانون في البلد، وإن أكبر شكل لفساد هو منصب "أمير المؤمنين" الذي لايوجود قانون يحدد كيفية إختياره، ومسؤولياته وصلاحياته، وفي هذه الحالة، كيف يمكن له أو مساعديه أن يبتعدوا عن الفساد ولا ينفقوا الميزانية العامة على برامجهم الخاصة. ومثل اختيار أمير المؤمنين، فإن هناك فساد في اختيار مسؤولين آخرين كالوزراء من ناحية، وتعيين مسؤولين في مناصب أخرى من ناحية أخرى، وإن هذا التعيين لايجري على أساس التخصص، بل على أساس كمية قصف القنابل وتفجيرها في الحرب. ويقول بعض من الموظفين المدنيين الذين لاينتموان إلى طالبان ويعملون في الدولة، إنه لو لم تكن أوضاع الفساد في أفغانستان أسوأ مما كانت عليه قبل حكومة طالبان الثانية، فإنها لن تكون بأقل من ذلك.
المعارضة:
لقد منعت طالبان كل من يعارض سياساتها، ولكن عدم وجود معارضة مسالمة يزيد احتمال ارتفاع
وتيرة العنف، وبالفعل توجد حاليًا عدة جماعات مسلحة قليلة الفعالية داخل أفغانستان،
منها داعش خراسان وجبهات التحرير والتي تشكلت من جنود ينتمون لجيش المنحل. وتسمي طالبان
كل من يعارضها بإسم دواعش، سواء كانوا أفرادًا مفصولين من طالبان بسبب معارضة سياسات
النظام أو آخرين. ولا يوجد في سجون مخابرات طالبان قانون إسلامي أو إنساني، فمن يدخل
إلى سجن طالبان، لا يخرج منه إنسانًا سليمًا، لأنهم يعذبون السجين بطرق غير إنسانية
بشعة، وكثير مما خرجوا من السجون يشتكون من سوء الأوضاع هناك.
الخاتمة
لقد
كان عند البعض من الأفغان والمهتمين بشؤون أفغانستان، أملٌ في أن يقلل خروج القوات
الدولية والولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان من التحديات الأمنية ويسمح
للأفغان بأن يستفيدوا من تجارب البلد على مدار الأربعين سنة الماضية، ويبدأوا
بالحوار الأهلي ويحلوا المشاكل بالسياسة ويتخلوا عن السلاح والعنف. لكن ما تقوم به
حكومة طالبان منذ سيطرتها على أفغانستان تثبت أن هذه الجماعة لم تتعلم من ماضيها
بعد، وكل يوم يقيد دور الشعب في المجتمع وعلى العكس تزداد حالات الإرهاب وتنمو
أسباب انضمام الشباب إلى مجموعات مسلحة ذات توجهات سياسية ودينية مختلفة، وتدور
دائرة العنف.
إن
أكثر ما يحير العقول ولا نستطيع أن نجد له الإجابة هو منع البنات من التعليم في
المدارس والجامعات، ومنع السيدات من العمل الرسمي والتجاري، وتهديد الرجال بعدم
السماح للسيدات بالتجول وحدهن داخل البلاد، وكل هذه الموانع تجعلنا نسأل: ما هي
مشكلة طالبان مع أمهاتهم وأخواتهم البنات؟