نموذج ملهم....كيف يمكن أن تدفع الصين التنمية الاقتصادية في الخليج؟
يسلط
الاتفاق الذي توسطت فيه الصين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية
السعودية وإيران الضوء على دفع الخليج للإصلاح الاقتصادي والتنويع وكذلك التأثير
المتزايد للصين في المنطقة. وفي هذا السياق، يمكن القول أن قصة النجاح
الاقتصادي الصيني مصدر إلهام للحكومات في الخليج. وعلى الرغم من اختلاف المسارات
التاريخية لكل من الصين ودول الخليج، إلا أن نماذج التنمية الخاصة بكل منهما
مدفوعة جزئياً بالآثار الاجتماعية والاقتصادية التحويلية للاحتجاجات واسعة النطاق:
احتجاجات ميدان تيانانمين عام 1989 في الصين واحتجاجات الربيع العربي عام 2011 في
جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وهنا،
كشفت بعض التقديرات عن أنه في حين أن أنماط التنمية الإقليمية في الخليج فريدة من نوعها
بالنسبة لسياقها المحلي وتطلعاتها الوطنية، إلا أنها تشترك في العديد من الميزات
مع ما يسمى "النموذج الصيني".
أولاً- أبرز خصائص النموذج
الصيني
قامت الصين بعد احتجاجات عام 1989
بصياغة نموذج لضمان الاستقرار السياسي يتضمن أربعة نقاط رئيسية، تتضح في:
أولاً: إضفاء مزيد من مركزية السلطة في يد الدولة الحزبية،
وقلة التسامح مع المعارضة، وتحدي الضغوط السياسية الخارجية.
ثانياً: اتباع نهج تنموي من أعلى
إلى أسفل للسلام والاستقرار يركز على الحقوق الجماعية وأمن المجتمع ككل.
ثالثاً: تحقيق المزيد
من الازدهار الاقتصادي، والمزيد من الوظائف، وتحسين مستويات المعيشة لاجتثاث السخط
العام.
رابعاً: التحرك من خلال إيديولوجية قومية سيطرت على الخطاب
السياسي المحلي في عهد شي جين بينغ.
واعتمدت سياسة
بكين على النمو الاقتصادي باعتباره مقدمة للاستقرار الاجتماعي والحفاظ على الوضع
الراهن، بهدف درء المخاطر طويلة الأجل من الاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري.
وبالفعل شرعت دول الخليج في تبنى التنويع الاقتصادي القائم على المبادئ الاجتماعية والسياسية للنموذج الصيني،
مثل السلام من خلال التنمية، واتخاذ قرارات أكثر مركزية، والمزيد من المرونة في
مواجهة ضغوط السياسة الخارجية، بغرض الحد من التداعيات السلبية المرتبطة بالنظام
الريعي الحالي المعتمد على عائدات النفط والغاز.
ثانياً- الإصلاحات
الاقتصادية في الخليج
يمكن
النظر إلى الإصلاحات الاقتصادية في منطقة الخليج العربي على أنها حركة معاكسة للتفكك الاقتصادي
والاجتماعي الإقليمي السائد لدى بعض الدول العربية الأخرى منذ أحداث الربيع العربي لعام 2011، فعندما أدركت دول الخليج أن
التدهور الاجتماعي وانعدام الأمل والمشاركة الاقتصادية بين الشباب يمكن أن يؤججا
عدم الاستقرار السياسي، شرعت في حملة من الإصلاحات الاقتصادية والمجتمعية تعادل ما
يمكن أن نطلق عليه "ربيع الخليج".
بينما لم
تنجح دفعة ما بعد الربيع العربي للإصلاح الاقتصادي في بعض البلدان التي شهدت تغيراً
سياسياً إلى حد كبير بسبب عدم الاستقرار السياسي، والتفكك الاجتماعي والاقتصادي
الناجم عن الصراعات الداخلية، ولكن على النقيض من ذلك، بدأت دول الخليج في القيام
بمجموعة من الإجراءات التى تهدف إلى تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية اتضحت في إيلاء
المزيد من الاهتمام لشركات القطاع الخاص، والاندماج الأعمق في النظام الاقتصادي
العالمي، والابتكار التكنولوجي. وتتوافق هذه التدابير بشكل أساسي مع القيم الغربية
للتنمية الاقتصادية باعتبارها ركائز نظام دولي قائم على القواعد الليبرالية، وهو
أمر مهم بشكل خاص في سياق المنافسة العالمية المتزايدة مع الصين.
وتعكس
خطط الإصلاح الاقتصادي في منطقة الخليج، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030،
ورؤية أبوظبي الاقتصادية 2023، ورؤية قطر الوطنية 2030، المخاوف المشتركة بشأن
الاعتماد المفرط على عائدات النفط والغاز كمحركات نمو أساسية وركيزة لسلطة الدولة.
فمع توقع انخفاض استهلاك الوقود الأحفوري على المدى الطويل، بات من الضروري إدراج
التنويع الاقتصادي في استراتيجيات التنمية. وبالفعل تركز هذه الخطط الخليجية على
إنشاء اقتصاد سوق قائم على المعرفة، وتنويع محركات النمو الاقتصادي بعيداً عن
النفط والغاز، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI)، وتشجيع
ريادة الأعمال ومشاركة القطاع الخاص، وخلق وظائف عالية القيمة لتشجيع التكامل
الاقتصادي لمواطنيها.
ثالثاً- إصلاحات صينية
موازية
تأسيساً
على ما سبق، تمر الصين نفسها بمزيج من إعادة الهيكلة الاقتصادية والإصلاح
الاجتماعي؛ فمنذ عام 2012، ركزت رؤية الرئيس الصيني شي جي بينغ الاقتصادية على
إحياء السلطة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في صنع القرار الاقتصادي، وإعادة
تشكيل نمو الصين من النمو السريع إلى النمو عالي الجودة من خلال التأكيد على دور
الدولة في تلبية الاستهلاك المحلي، ووقف تراكم الديون المتسارع، وإعادة توزيع
الثروة لمعالجة عدم المساواة الاقتصادية واستخدام قطاع التكنولوجيا كمحرك نمو طويل
الأجل.
ويمكن
القول أن الصين تتفق في هذا النموذج الاقتصادي مع دول الخليج من حيث أن الهدف من كلا
النموذجين يتضح في إيجاد ظروف اقتصادية مواتية لنموذج نمو أكثر استدامة على المدى
الطويل. لكن يؤخذ على النموذج الصيني سيطرة القيادة السياسية
على القطاعات الأساسية الدافعة للنمو، ونهجها الاقتصادي القائم على احتكار الدولة للقطاعات
المرتبطة بالأمن القومي والاقتصادي، الأمر الذى من شأنه أن يفسد نموذج
"اقتصاد السوق ". وكذلك، يجب على دول الخليج أيضاً فك ارتباط إصلاحاتها
في جانب العرض والاستهلاك المحلي من الاعتماد المفرط على عائدات النفط والغاز.
وبالتالي، فإن الإصلاحات في الصين
والخليج مترابطة لأن النفط سيستمر في تشغيل المحركات الدافعة للنمو الاقتصادي وسيكون
حاسماً أيضاً لأمن الطاقة في الصين على المديين المتوسط والطويل.
رابعاً- زيادة النفوذ الصيني
في الخليج
من
الملاحظ أن النفوذ الصيني بدء في التصاعد خلال السنوات القليلة الماضية في دول
الخليج العربي نفوذ الصين؛ حيث تدعو مبادرة التنمية العالمية الصينية (GDI) ومبادرة الأمن العالمي الصينية (GSI) إلى نظام أمن جماعي شامل لمنطقة الخليج، مدعوم بالحلول
الصينية؛ حيث تشجع بكين عدم التدخل والسيادة والتعددية وخفض التصعيد والتكامل
الاقتصادي كأعمدة للسلام في المنطقة.
وكانت الوساطة
الصينية للتقارب السعودي الإيراني منعطف هام ويبرز عمق العلاقات الصينية الخليجية؛
حيث إن الضغط من أجل خفض التصعيد والسلام الذي يسود المنطقة حالياً، إلى جانب التحوط
وزيادة التركيز على التعددية، دليل على أوجه التشابه العميقة مع المبادئ الصينية. وتسير هذه
التطورات بالتوازي مع اتفاقيات لربط مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) بخطط التنويع لدول الخليج وموائمة استراتيجياتها
الاقتصادية وقيمها التنموية.
فهذا
التقارب المتزايد مهم لأنه يخلق علاقة تكافلية، وليس قائمة على الزبائنية، بين
نموذج الصيني وأنماط التنمية الجديدة في الخليج. ورغم أن خطط
الإصلاح الخليجية تتماشى إلى حد كبير مع المبادئ الغربية للعولمة والانفتاح
والترابط، فمن المرجح أن يشكل نفوذ الصين المتزايد نتائجها النهائية، الأمر الذى
من شأنه أن يقوض النفوذ الغربي تدريجياً في المنطقة. وبمرور الوقت، يمكن أن يعمل
هذا على إيجاد ظروفاً أقل ملائمة للمصالح الغربية حيث يترسخ النموذج الصيني ويقدم
بديلاً بلا قيود للزبائنية التي شكلت منذ فترة طويلة التفاعلات الغربية في الخليج.
وفي التقدير: يمكن
القول إنه إذا لم تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وحلفاؤهما
خطوات عاجلة لمراجعة نهجهم تجاه الخليج فقد يفقدون فرصة التأثير في هذه المنطقة
على المدى الطويل ونتائج الإصلاحات الخليجية ويمكن أن يساعدوا عن غير قصد في خلق
مساحة لتوسيع نفوذ الصين.