آثارت موجات الهجرة الواسعة من إقليم ناغورني كاراباخ والتي حدثت عقب الهجمات العسكرية التي شنتها أذربيجان على الإقليم في 19 سبتمبر الفائت بدعوى مكافحة الإرهاب بعد مقتل عدد من جنودها هناك الكثير من التساؤلات حول تداعيات ذلك سواء على باكو أو بريفيان أو فيما يتعلق بالتوازنات السياسية في منطقة القوقاز بشكل عام.

وفي هذا السياق، وافق الأرمن في كاراباخ بعد ثلاثة عقود من النضال على نزع أسلحتهم وحل حكومتهم وإعادة الاندماج مع أذربيجان، بعدما استعادت باكو السيطرة على الإقليم أواخر سبتمبر 2023؛ حيث وقع رئيس هذا الإقليم الانفصالي سامفيل شهرمانيان مرسوماً أعلن فيه عن تفكيك حكومته، واستشهد المرسوم باتفاق وقف إطلاق النار والذي سمحت بموجبه أذربيجان بـ"حركة حرة وطوعية ودون عوائق" لسكان ناغورني كاراباخ، ونزع سلاح القوات الأرمينية في المقابل.

أولاً- التداعيات بالنسبة لأرمينيا

من المتوقع أن تشهد أرمينيا حالة من عدم الاستقرار خلال الفترة القليلة القادمة على كافة الأصعدة؛ فعلى الجانب السياسي أسفر نزوح أرمن كاراباخ إلى أرمينيا عن احتجاجات كبيرة في شوارع بريفيان ومطالبة حكومة رئيس الوزراء نيكول باشنيان بالاستقالة، احتجاجاً على فشله في حل أزمة الإقليم ونجاح أذربيجان في فرض سيطرتها عليه.

وفي المقابل، ذكرت صحيفة "هراباراك" الأرمينية نقلاً عن مساعدي باشنيان عن إنه لا ينوى الاستقالة من منصبه تحت أي ظروف وسيحتفظ بها بأي ثمن؛ حيث حاول المتظاهرون اقتحام مقر الحكومة واختراق الطوق الأمني ​​الذي فرضته الشرطة، وفي المقابل استخدمت قوات الأمن القنابل الصوتية في التصدي للمحتجين، الأمر الذي ينذر بتصاعد أزمة سياسية أمنية غير مسبوقة لدى يريفيان خلال الفترة القليلة القادمة.

أما على الصعيد الاقتصادي من المتوقع أن تؤثر موجات الهجرة الكبيرة من أرمينيا على الاقتصاد في بريفيان، من خلال ضغط المهاجرين على المرافق والبنية التحتية والموارد المحدودة بالفعل في أرمينيا، وخاصة في ظل الأعداد الكبيرة من المهاجرين الأرمن التي وصلت إلى يريفيان خلال الأيام القليلة الماضية؛ حيث أعلنت المتحدثة باسم رئيس حكومة نيكول باشينيان نظلي باغداساريان إن أكثر من 100 ألف شخص غادروا إقليم ناغورني قره باغ، علما بأن عدد السكان الأرمن في المنطقة كان يقدر بنحو 120 ألفاً.

ورغم الانتقادات التي وجهها المحتجون في يريفان لدور روسيا التي لم تلقى بالاً للدعوات الأرمينية المطالبة بتدخل قوات حفظ السلام الروسية لمنع الهجوم الأذربيجاني على إقليم ناغورني كاراباخ، إلا أن ثمة تقارير غربية كشفت عن وجود تحركات راهنة من قبل القوى السياسية المؤيدة لروسيا في أرمينيا لدفع البلاد بعيداً عن الغرب، حيث طالبت هذه الأحزاب بضرورة تشكيل حكومة جديدة في البلاد لإدارة الأزمة الراهنة مع أذربيجان، وهو ما يزيد من الضغوط على الحكومة الأرمينية الحالية.

ثانياً- نتائج هجرة الأرمن بالنسبة لأذربيجان

من المؤكد أن أذربيجان ستسعى إلى توظيف هذه التحولات لإحكام سيطرتها على كامل إقليم ناغورني كاراباخ، بالتوازي مع السعي لإقامة اتصال جغرافي مباشر إلى تركيا عبر منطقة ناختشيفان التي تتمتع بالحكم الذاتي وتقع جغرافياً في أرمينيا وتأسيس ممر زانجيزور، وذلك في ظل عدم اقتناعها بالمكتسبات التي حققتها في حرب 2020، حيث ترى باكو أنها تستحق السيطرة الكاملة على ناغورني كاراباخ.

وفي هذا السياق، كشفت بعض التقديرات عن أن باكو استغلت الانشغال الروسي في أوكرانيا، فضلاً عن توتر العلاقات بين موسكو ويريفان، وعمدت إلى التصعيد لاستعادة كامل السيطرة على الإقليم، ويبدو أن ثمة قبولاً ضمنياً من قبل الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية عن هذه التحركات الأذربيجانية لضم إقليم ناغورنو كاراباخ بشكل كامل، وهو ما ينعكس في موقف القوى الغربية إزاء تحركات باكو الأخيرة، حيث اكتفت هذه القوى بالإدانات الروتينية فقط.

وكذلك، من المتوقع أن تسعى باكو بالتعاون مع حليفتها تركيا نحو توطيد نفوذها في منطقة القوقاز عبر تعزيز استراتيجية "أمة واحدة ودولتين" التي تحكم علاقتها مع أنقرة، حيث ترتبط الدولتان بعلاقات وثيقة، ثقافياً وتاريخياً ولغوياً. ففي الوقت الذي تحصل فيه تركيا على الغاز الطبيعي والنفط الخام من باكو، تقدم أنقرة الدعم العسكري والدبلوماسي لأذربيجان في صراعها ضد أرمينيا، وقد أثبت هذا الدعم فاعليته في حرب 2020 بين باكو وبريفيان.

ثالثاً- ترتيبات جديدة في منطقة القوقاز

من المؤكد أن عودة ناغورنو كاراباخ إلى السيادة الأذربيجانية ستؤدى إلى لإعادة هيكلة التوازن الجيوسياسي وتغيير الديناميكيات السياسية بمنطقة جنوب القوقاز، التي تشكل مفترق الطرق للمصالح الجيوسياسية لكثير من القوى الإقليمية والدولية، إذ يمكن أن تؤدي التطورات الأخيرة في ناغورنو كاراباخ إلى مزيد من التراجع للنفوذ الروسي في القوقاز، خاصةً في ظل تشتت هذا الدور في الوقت الراهن.

وبالتوازي مع ذلك من المتوقع أن تؤدى هذه التغيرات الجيوسياسية إلى تنامي الحضور الأمريكي في منطقة القوقاز؛ حيث كشف تقرير صادر عن مجلة فورين بوليسي الأمريكية، إلى أن واشنطن تعمل حالياً على توسيع انخراطها في هذه المنطقة من خلال توظيف الخلافات المتنامية بين أرمينيا وروسيا، واستقطاب بريفان بعيداً عن موسكو. ويتسق ذلك مع التقرير الصادر عن نيويورك تايمز، والذي أكد وجود مساعٍ أمريكية مُكثّفة لاستغلال التراجع الملحوظ للنفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز، لمحاولة التمدد في هذه المنطقة الجيوستراتيجية.

ورغم وجود فرصة كبيرة لدور أوروبي موسع في هذه المنطقة في ضوء هذه التطورات؛ إلا إنه آثارت بعض التقارير الغربية تساؤلات تتعلق بمدى قدرة أوروبا على ملء أي فراغ مُحتمل في جنوب القوقاز في ظل تراجع الدور الروسي هناك، ولاسيما وأن موسكو لديها نحو 10 آلاف جندي يتمركزون في أرمينيا، بالإضافة إلى 2000 آخرين عند ممر "لاتشين". وتُشير هذه التقارير إلى أنه رغم إرسال الاتحاد الأوروبي لبعثة مراقبين مدنيين إلى أرمينيا بداية العام الجاري، إلا أن هناك شكوكاً لا تزال قائمة فيما يتعلق بقدرة بروكسل على ملء الفراغ المُحتمل في هذه المنطقة، خاصةً في ظل التصدعات الراهنة داخل الكتلة الأوروبية، وتقليص الدور الأوروبي الموحد إزاء الملفات الحيوية، وهو ما انعكس في غياب دور أوروبي حقيقي فيما يتعلق بالتوترات بين أذربيجان وأرمينيا.

وفي المقابل، وعلى الرغم من أن موسكو من غير المتوقع أن تقدم على سحب قواتها من جنوب القوقاز، بل ستعمل على إبقاء قواتها لتجنب تداعيات أي انكماش مفاجئ لحضورها العسكري في المنطقة، فإن هناك عدة تقارير غربية ألمحت إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل خلال الفترة المقبلة على توسيع دورها في منطقة القوقاز بشكل مكثف.

وختاماً؛ يمكن القول إن خريطة التوازنات الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز تبدو في مرحلة انتقالية، وستتأثر بالتغيرات الحادثة في النسق الدولي، ولاسيما فيما يتعلق بتوارى دور القوى الكبرى لصالح بروز القوى الإقليمية والوسيطة ورغم أن سيطرة أذربيجان ربما تشكل نهاية للصراع التقليدي في منطقة ناغورنو كاراباخ، فإن إرث الحروب الماضية قد يكون من الصعب تجاوزه، ما يعني عدم استبعاد اندلاع اشتباكات جديدة بين باكو ويريفان في هذه المنطقة، كما يُتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تنامياً ملحوظاً في وتيرة الانخراط الدولي والإقليمي في منطقة جنوب القوقاز، وتصاعد حدة التنافس بين القوى الرئيسة الفاعلة هناك، وهو ما سيكون له تداعيات مباشرة على السياقات الأمنية والسياسية والاقتصادية للنطاق الإقليمي الأوسع الذي يضم آسيا الوسطى.