تحظى القضية الفلسطينية -منذ نشأتها- باهتمامم بالغ لدى جموع الشعوب العربية والإسلامية، بل وتنعكس أثارها لتلقى رواجًا حتى بين الشعوب الأجنبية، وذلك بسبب الأهمية البالغة لهذه القضية وتأثيرها المباشر على الأمن والسلم في المنطقة والعالم، وتشابك المصالح حولها وتكتل التحالفات، ومن ثم فدائمًا ما نجد أنفسنا أمام محطات تاريخية هامة ومحورية في هذا الصراع، ولعل ما يحدث حاليًا واحدة من أهم تلك المحطات، حيث تُعتبر الأحداث الأخيرة والمتلاحقة في فلسطين بين فصائل المقاومة الفلسطينية - بقيادة حركة حماس - من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، نقطة تحول محورية في القضية الفلسطينية، وذلك لما شهدته تلك الأحداث من مفاجآت وما ستشهده من تبعات، وهو ما سيتم التطرق إليه من خلال طرح ما جرى من أحداث، وعرض المواقف الدولية، وذلك لمحاولة الوصول إلى أبرز الاتجاهات المتاحة لمستقبل هذه الأحداث.

أحداث وتطورات

      كانت البداية هذه المرة - على عكس المألوف - بقيام حركة حماس بإطلاق عملية "طوفان الأقصى" حيث باغتت إسرائيل في يوم السابع من أكتوبر الجاري بهجوم غير مسبوق على مستوطنات إسرائيلية بمنطقة غلاف غزة؛ حيث كان الهجوم الحمساوي برًا وبحرًا وجوًا، مستخدمين فيه أساليب مبتكرة غير مسبوقة كالطائرات الشراعية في الإنزال الجوي، وما سبقه من تشويش على أجهزة الاستشعار الإسرائيلية الموجودة بالسياج العازل بين المستوطنات الإسرائيلية بتلك المنطقة وقطاع غزة، والمصحوب باجتياح بري تحت وابل من رشقات صواريخ حماس، وما تبع ذلك من معارك قُتِلَ فيها مئات الإسرائيليين، وأُسِرَ العشرات، وجُرِحَ الآلاف، والأعداد في تزايد مستمر، الأمر الذي كشف الستار عن غفلة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية وعدم جاهزيتها، ووضع المواطن الإسرائيلي في حالة خوف وقلق وتشكك في حكومته وقوة جيشه واستخباراته.

      ومن جانبه قد صرح (إسماعيل هنية) رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أن هذه العملية جاءت ردًا على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة بحق الأراضي المقدسة والشعب الفلسطيني، وسياسات حكومة (نتنياهو) المتطرفة، وأن الهدف هو تحرير الأراضي الفلسطينية والمسجد الأقصى، إلى جانب ذلك ربما توجد دوافع أخرى غير معلنة لحماس تتمثل في:

١. السعي لكسر الطوق السياسي والاقتصاد الذي يضيق شيئًا فشيئًا على الحركة خصوصًا بعد موجات التطبيع العربي الإسرائيلي، وما ترتب عليها من أن حماس لم تعد تمثل ورقة ضغط على إسرائيل يجب على العرب تدعيمها.

٢. إعادة تسليط الأضواء على الحركة وإكسابها مزيد من الشعبية داخليًا وخارجيًا في العالمين العربي والإسلامي.

٣. الهروب من الأزمة الاقتصادية الداخلية في القطاع من خلال صرف النظر عنها إلى حرب مع إسرائيل تصبح الشغل الشاغل لسكان القطاع، وتوحد صفوفهم خلف حركة حماس.

      وعلى الجانب الآخر اطلقت إسرائيل عملية مضادة أسمتها "السيوف الحديدية" ساعيةً لاستيعاب الصدمة، واستجماع قوتها، واسترداد هيبتها، وذلك ما يتضح في إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) حالة الحرب واستدعاء جزءًا من قوات الاحتياط، والتي لم تعلنها إسرائيل منذ حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، وذلك يشير لوضع جميع المؤسسات الإسرائيلية تحت إمرة الجيش لتحقيق أهدافه، كما تعني عدم محدودية العمليات، واحتمالية الاجتياح البري، أو حتى ما يعرف عسكريًا بالأرض المحروقة، وقد أسرعت إسرائيل في طلب المساعدة الأمريكية، وحشد التأييد الدولي، والتهديد والوعيد لحركات المقاومة الفلسطينية وكل من شارك في تلك العمليات.

مواقف دولية واقليمية

      أما عن المواقف الدولية والإقليمية فقد تباينت وفقاً لتباين المصالح والتحالفات؛ فقد جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي (جو بايدن) لتؤكد ما هو راسخ وهو دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل غير المحدود، بل صحب ذلك تحريك فوري لقطع من البحرية الأمريكية على رأسها حاملة طائرات إلى منطقة شرق المتوسط لمساندة إسرائيل، وتدور في هذا الفلك الأمريكي جل مواقف القوى الغربية والأوروبية التي نددت بما أسمته إعتداءًا على إسرائيل، وعلى صعيد آخر جاءت تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية (ماريا زاخاروفا) لتعبر عن قلق روسيا من التصعيد، وعدم إمكانية حل النزاع باستخدام القوة بل بالوسائل السياسية والدبلوماسية على الأسس القانونية التي تنص على إقامة دولة فلسطين على حدود ١٩٦٧، وهو ما أكده الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في لقاءاته التلفزيونية، وما توافق مع موقف الصين، والتي دعت أيضًا جميع الأطراف لضبط النفس ووقف إطلاق النار.

      وعلى نفس النسق تباينت مواقف المنظمات الدولية؛ فعلى سبيل المثال: انحاز الإتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى الجانب الإسرائيلي، بينما دعمت كل من الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي الموقف الفلسطيني.

      أما مواقف الدول العربية فيمكن إجمالها - رغم تفاوت حدتها - في أنها أكدت على دعمها للقضية الفلسطينية، وأن ما حدث هو نتيجة لاحتقان الوضع، وعدم وجود حلول عادلة وتسوية سياسية بحل الدولتين، كما دعت للتهدئة وعدم التصعيد، وتجدر الإشارة هنا إلى صعوبة مواقف الدول التي طبَّعت علاقاتها مع إسرائيل مؤخرًا لاسيما في اتفاقية (أبراهام)، لأن ذلك التطبيع لم يؤتي ثماره في حل القضية الفلسطينية كما كان يذاع وقتها، بل على العكس لقد وضعهم في موقف حرج إبان العمليات الجارية.

      وعلى صعيد الشرق الأوسط؛ فقد جاء الموقف التركي داعيًا جميع الأطراف لضبط النفس وعدم التصعيد، وقد أكدت إيران على وقوفها إلى جانب المقاومة الفلسطينية ودعمها لعملية طوفان الأقصى، وذلك في ظل وجود اتهامات تشير إلى أن إيران ساهمت في دعم حماس والتخطيط والتدريب لهذه العملية، وادعاء إسرائيل بأنها تعرضت لهجوم سيبراني من إيران أثناء المعارك مع فصائل المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى ذلك نشوب اشتباكات متقطعة ومحدودة - حتى الآن - في جنوب لبنان بين القوات الإسرائيلية وحزب الله المصنف على أنه أحد أذرع إيران بالمنطقة.

تداعيات محتملة

      يمكن التأكيد على أن الأحداث الجارية تحمل في طياتها الكثير من النتائج، لعل أول ما يتضح منها هو ضعف موقف حكومة (نتنياهو) التي قد لا تستمر طويلًا بعد انقضاء هذه الأحداث.

      ومن المعلوم أنه مهما طال أمد الحروب - في العصر الحالي - فلا بد أن تنتهي على طاولات المفاوضات، ومن هنا يمكن القول أن مستقبل هذه الأزمة يمكن حصره في أربع اتجاهات رئيسية:

1-أن تنجح حركات المقاومة الفلسطينية في فرض موازين قوى جديدة، تحقق من خلالها مكاسب سياسية ومادية على الأرض بجانب المكاسب المعنوية، ولعل أبرز ما يعرقل هذا الاتجاه هو الدعم الأمريكي والغربي اللامتناهي لإسرائيل.

2-أن تنجح جهود الوساطة العربية والدولية في الوصول لوقف اطلاق نار، يُفتَح بعده المجال لعميلات التفاوض وتبادل الأسرى، وهنا تجدر الإشارة إلى ما قد نتج عن العمليات العسكرية من احراج لإسرائيل وكسر لهيبتها، ما جعل الحكومة الإسرائيلية تتطلع للانتقام، وتكبيد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أكبر قدر من الخسائر الممكنة سواء في الأرواح أو البنية التحتية، بل وتفعيل آلية الاغتيالات لقادة حماس والجهاد وفصائل المقاومة، كما سيظل خيار الاجتياح البري لقطاع غزة مطروحًا - في ظل تعاطف العديد من قوى المجتمع الدولي مع إسرائيل الذي وصل إلي ما يمكن اعتباره مباركة ضمنية لأي تصرف إسرائيلي تجاه غزة - لكن ذلك مرتبطًا بعدد الرهائن لدى حماس، والمفاضلة بين المخاطرة بأرواح هؤلاء الرهائن والتورط في مستنقع حرب شوارع من جهة، وبين استرداد الكبرياء الإسرائيلي وتحسين صورة الحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى، وبناءً عليه يمكن القول بأن إسرائيل لن تركن لطاولة التفاوض قبل أن تحقق انتصار معنوي ومادي يعيد هيبتها ويضمن لها موقفاً قوياً في عملية التفاوض.

3-اتساع المعارك وتدخل أطراف جديدة بشكل مباشر مثل (حزب الله) الذي هدد بفتح جبهة ضد إسرائيل من جهة الشمال في حالة اجتياح اسرائيل بريًا لقطاع غزة، وهذه بالتأكيد مقامرة ربما لا ترغب فيها إسرائيل حالياً في ظل اشتعال حربها ضد المقاومة الفلسطينية، ولا ترغب فيها إيران الداعم الرئيسي لحزب الله في ظل سعيها للتحرر من العقوبات الاقتصادية، وحماية برنامجها النووي لحين امتلاك القنبلة النووية، وقد لا ترغب فيها الولايات المتحدة حاليًا لانشغالها بمواجهة روسيا في أوكرانيا، وتتوجس روسيا من انعكاساتها على حربها ضد أوكرانيا، خاصةً وأن توسيع نطاق الصراع سيعني تورط حليف روسيا الإيراني، ما سيؤثر على تدفق الدعم الإيراني لروسيا، وسيعقد الوضع الدولي بأكمله، لذا يمكن تفسير التحركات العسكرية الأمريكية الكبيرة في البحر المتوسط على أنها تعبر عن رغبت الولايات المتحدة في استعراض قوتها ودعمها لإسرائيل، وذلك فقط لترهيب أي طرف يفكر في دعم المقاومة وفتح جبهة جديدة على إسرائيل، وليس رغبةً في توسيع نطاق المواجهات.

4-أما السيناريو الأخير فهو يتمحور حول استعادة إسرائيل توازنها، ومن ثم ستسعى لتوجيه ضربات عسكرية قوية على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية سواءً في الضفة أو قطاع غزة الذي ستتركز الغارات الجوية والقصف المدفعي على  سكانه بمن فيهم من مدينيين، والذين لن يجدوا إن اشتدت الضربات الإسرائيلية عليهم ملجأً سوى مصر التي ستكون في موقف صعب، ولن تستطيع غلق أبوابها في وجوههم بالرغم من التحديات التي تواجهها، بل وقد يتم الضغط اقتصاديًا على مصر لاستقبالهم، مع توفير الدعم الخليجي اللازم لتوطينهم، وهو ما يعود بنا إلى الفكرة التي طُرحت رسمياً من قبل الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) تحت مسمى "صفقة القرن".

أما تصريحات حكومة (نتنياهو) الحالية حول ضرورة القضاء نهائيًا على حماس وفصائل المقاومة، فما أراها إلا عبثية، لأنه وإن تمكنت إسرائيل - فرضًا - من القضاء على فصائل المقاومة، فماذا ستفعل بالشعب الفلسطيني الموجود على أرضه!، بالتأكيد ستخرج حركات مقاومة أخرى حتى لو كانت بمسميات مختلفة، ومن المعلوم أن حركات التحرر والمقاومة لا تنتهي، وأن زمن إبادة الشعوب من المستعمرين - كما حدث للهنود الحمر- لم يعد موجودًا.

وختامًا؛ يمكن القول أنه قد لا يجود القدر مرة أخرى بمثل ما يحدث في فلسطين حاليًا، فبالرغم من الثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون الآن كنتيجة لعملية "طوفان الأقصى"، إلا أنه يمكن الاستفادة من هذه العملية لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية كبيرة؛ ولعل أبرز ما يمكن تحقيقه سياسيًا هو تكوين حكومة وحدة وطنية فلسطينية يجتمع كل الفلسطينيون حولها، وهنا تجدر الإشارة إلى دفاع السلطة الفلسطينية بقيادة (محمود عباس أبو مازن) عن ما قامت به حماس، وهو أمرٌ نادرٌ يعكس قابلية توحيد المواقف الفلسطينية الداخلية، ليُشكل ذلك أولى خطوات حل الدولتين على الأسس القانونية والقرارات الدولية، وهو ما سيضيف إلى فلسطين قوة سياسية وعسكرية واقتصادية تمكنهم من الانطلاق في طريق الكفاح لاسترداد بقية الأراضي المحتلة شيئاً فشيئاً، أو على أقل تقدير الحفاظ على ما تبقى من دولتهم وعدم التهامها من قبل الاحتلال.