محفزات عديدة....لماذا ترغب إيران في العودة إلى "مبدأ التوازن" في السياسة الخارجية؟
آثارت التصريحات الروسية الصينية
الأخيرة بشأن الجزر الإماراتية الثلاث (أبوموسى، طنب الكبرى والصغرى)، والتي طالبت
إيران بالتوصل إلى حل سلمي مع أبوظبي بما يتضمن إمكانية اللجوء إلى التحكيم الدولي
ردود فعل هجومية كبيرة داخل إيران ولاسيما أن هذه الأخيرة تعتبر أن هذه الجزر
ملكية إيرانية خالصة ولا يجوز الحديث عن ملكيتهم تحت أي ظرف. وبالتالي، أدي ذلك في
مجمله إلى مطالبة التيارات السياسية في إيران للحكومة بإعادة النظر في العلاقة مع موسكو
وبكين، ولاسيما أن بعد وجهت حكومة إبراهيم رئيسي كافة جهودها نحو تطوير العلاقات
مع دول الشرق اعتماداً على مبدأ "التوجه شرقاً".
ومن هنا، طالبت التيارات السياسية في
إيران الإصلاحية والمتشددة بضرورة العودة إلى مبدأ "التوازن" في السياسة
الخارجية وكذلك العمل بمبدأ "لا شرقية ولا غربية"، إنطلاقاً من الصفعات
التي تلقتها إيران من قبل روسيا والصين ليس فقط في قضية الجزر، وكذلك سبق وأن وقفت
روسيا كحجر عثرة أمام عودة إيران مع القوى الغربية إلى خطة العمل الشاملة المشتركة
قبيل بدء عمليتها العسكرية الشاملة بأوكرانيا في فبراير لعام 2022، عندما أصرت على
ضرورة إعفاء شركاتها العاملة في إيران من العقوبات حال العودة إلى الاتفاق النووي
مرة أخرى.
وفي هذا السياق، تحظى عودة إيران إلى
مبدأ التوازن في السياسة الخارجية بوجاهة، تتمثل في محددات عدة، يمكن إيضاحها على
النحو التالي:
أولاً: توطيد التفاعل: كشفت بعض التقديرات عن إنه حتى لو أصبحت إيران قوية مثل
الصين يجب عليها تعزيز تفاعلاتها السياسية الخارجية مع أكبر عدد ممكن من دول
العالم؛ حيث يعد هذا العامل من أهم المتغيرات الرئيسية في نجاح الصين على المستوى
الدولي إلى أن أصبحت المنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك، يمكن أن
يأتي ذلك في سياق رغبة طهران تجنب الصفعات مثل تلك التي تلقتها من قبل روسيا والصين
بشأن الجزر الإماراتية الثلاث التي تدعى ملكيتها، وأيضاً وضع حدود لما يطلق عليه
داخل "التحالف" أو "الشراكة الاستراتيجية" مع قوة كبرى
بعينها مثل روسيا، وبالتالي، تجنب الضغوط التي يمكن أن تفرضها مثل هذه المسميات.
وفي هذا السياق، تشدد بعض وجهات النظر
الإيرانية على أن الانخراط في علاقات مع دول العالم أو القوى الكبرى بالتحديد لا
يعني الاستسلام أو التخلي عن القيم الوطنية والدينية، بل يجب أن تقوم هذه العلاقات
على مبدأ التوازن في إطار سياق من عدم الثقة أو بالأحرى "الفوضى" كما
يطلق عليها أنصار الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية. وتذهب بعض التيارات الإيرانية الأخرى إلى أبعد
من ذلك للقول بإنه ينبغي على إيران ليس فقط تعزيز العلاقات مع الدول ولكن أيضاً
الفاعلين من غير الدول مثل طالبان، وتقر بأن الشاهد على ذلك هو إنه ربما كانت ترفض الصين وصول حركة طالبان
الأفغانية إلى سدة الحكم في أفغانستان ولكن عندما وصلت اضطرت بكين إلى التفاعل
وتطوير العلاقات معها.
ثانياً: مأزق عدم الثقة: تقر
بعض التقديرات بإنه إنطلاقاً من مبدأ "عدم الثقة" الذى يحكم التفاعلات
بين الدول، فإن ذلك يفرض على إيران عدم الثقة حتى في أقرب جيرانها، وتستشهد على
ذلك بمهاجمة العراق لإيران واندلاع حرب بينهما لمدة 8 سنوات، والتي تطلق عليها
إيران "الحرب المفروضة". وبناءاً على هذا التحليل فلا يمكن لإيران أن
تبتعد عن علاقتها الاستراتيجية بكل من روسيا والصين على خلفية قضية الجزر
الإماراتية الثلاث أو أي قضية أخرى، كما أن إيران ستضرر من توتر علاقتها مع روسيا
كما هو الحال في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتعزز وجهة النظر هذه رؤيتها من خلال نموذج فيتنام؛ حيث تشير إلى إنه
رغم الحرب الطويلة التي استمرت لعقود بين بين فيتنام والولايات المتحدة الأمريكية،
إلا أنهم استطاعوا التوصل إلى اتفاقات مؤخراً وتطوير العلاقات فيما بينهما. وكذلك، تكشف وجهة
النظر الإيرانية عن إن السبل الدبلوماسية تطورت إلى الدرجة التي يمكن من خلالها شن
الحروب ولكن بطرق أخرى وبتكلفة أقل. وعليه، تؤكد هذه الرؤية على أن القوى الكبرى
ستحترم علاقتها مع إيران عندما تعلم أنها
ليست الشريك الاستراتيجي الوحيد لإيران.
كما أكدت وجهة النظر هذه على إنه إذا
أرادت إيران العمل مع الروس يجب عليها أن تفرض خطوطها الحمراء وأن تفعل ذلك بطريقة
واضحة وجادة ومع السلطات الروسية العليا. ويجب أن يتم ذلك أيضاً في الاجتماعات
التي تجري خلف الكواليس، لأن الروس في الأساس غير مهتمين ولا يؤمنون بما يحدث أمام
الكاميرات. في الواقع، أمام الكاميرا، لا يمكنك التعبير عن نفسك بوضوح ودون أي
عوائق، وهذا ما يزعج الروس. لكن خلف الستار، يمكنك ويجب عليك التحدث معهم بوضوح
وتحديد الخطوط الحمراء. ولا داعي حتى للتهديد، وإذا وصلت هذه الرسالة بوضوح،
فسيدرك الروس أنه لا ينبغي لهم تجاوز الخطوط الحمراء لدى إيران.
ثالثاً- تعزيز الضغوط: ترى إيران إنه بغض النظر عن حاجة بعض القوى الكبرى
الشرقية مثل روسيا والصين إلى التعاون وتطوير العلاقات مع دول الخليج العربي، إلا
أن إيران يمكن أن تستغل نقطة الضعف الموجودة لدى روسيا على سبيل المثال بسبب
العقوبات الغربية المفروضة عليها. وبعيداً عن تصدير الأسلحة الإيرانية والتعاون
الاستشاري فيما يتعلق بالعقوبات، يمكن القول إنه بعد بدء الحرب في أوكرانيا، لم
يعد أمام روسيا سوى ثلاثة مخارج للعالم الخارجي: تركيا وإيران والصين، وهو وضع
يصعب على روسيا التعامل معه بالنسبة لبلد كان ذات يوم أحد القطبين العالميين.
ومع ذلك تعد الموازنة في العلاقة بين
دول الخليج وإيران أمراً أكثر صعوبة بالنسبة لروسيا؛ حيث سعى الروس لعقود طويلة
للوصول إلى المياه الدافئة، وسواء اعتمدوا على القوة أو على اتفاقياتهم مع إنجلترا
ودول أخرى، فقد فشلوا دائماً في الوصول إلى الخليج العربي، أما الآن فقد أصبح
الوضع أكثر سهولة من ذي قبل بحيث يمكن
لروسيا أن تصل إلى هذا البحر بالاستثمار في علاقتها مع إيران ودول الخليج على حد
سواء، وهذا أمر صعب أيضاً على روسيا.
أن روسيا، مثلها مثل أي دولة قوية أخرى، تسعى
إلى خلق التوتر في الخليج العربي من أجل تقديم نفسها باعتبارها جهة فاعلة فعالة في
حل النزاعات؛ حيث تمكنت الصين من التوسط بين إيران والمملكة العربية السعودية
وبالتالي لعب دور في منطقة غرب آسيا. ولكن ماذا عن روسيا؟، وبالتالي، يمكن لإيران
أن تستغل نقطة الضعف هذه لديها لإجبارها على الالتزام بخطوطها الحمراء.