مع استكمال عملية ضم إقليم ناغورني
كاراباخ إلى جمهورية أذربيجان والتغيرات الجيوسياسية الجديدة، يتبادر تثار بعض
الأسئلة حول ماذا نمط سلوك إيران؟ وماذا يجب على إيران أن تفعل ردا على هذه التغييرات
الجديدة؟. ففي الوقت الذى تتميز فيه البيئة الإقليمية لإيران بخصائص جغرافية فريدة،
فإن التغيرات الجيوسياسية والأزمات والحروب المزمنة والنزاعات على الهوية
والتغيرات الحدودية الإقليمية تعد من بين هذه المكونات الدائمة في البيئة الأمنية
الإيرانية، وفي هذا السياق، تعد آسيا الوسطى والقوقاز من بين هذه المناطق الاستراتيجية
بجوار إيران التي شهدت تغيرات جيوسياسية.
فمع نهاية الحرب الباردة وانهيار
الاتحاد السوفييتي، تم تقسيم الاتحاد السوفييتي إلى 15 دولة مختلفة في مناطق
جغرافية مختلفة، واتبعت كل دولة من هذه البلدان نمطاً مختلفاً من السلوك والمصالح الوطنية
المستقلة. توعد منطقة جنوب القوقاز إحدى المناطق الاستراتيجية المنفصلة عن الاتحاد
السوفييتي، والتي شهدت أزمات وتغيرات جيوسياسية منذ بداية انهيار الاتحاد
السوفيتي، بسبب اختلاط العرقيات والهوية.
أولاً: تفاقم الصراع على
إقليم ناغورني كاراباخ
مع بداية حرب ناجورني كاراباخ الأولى
عام 1989 بين السكان الأرمن والأذريين في هذه المنطقة، دخلت كل من أرمينيا
وأذربيجان المستقلتين حديثاً في حرب شاملة، والتي نتجت عن ارتباك في الهوية
العرقية، وتدخل قوى من خارج المنطقة، واحتكاك مصالح الجهات الفاعلة الإقليمية،
والبنية الداخلية غير المستقرة لكلا البلدين، وخاصة جمهورية أذربيجان. ورغم وقف
إطلاق النار عام 1994، لكن فقدت أذربيجان 20% من أراضيها، وهو ما زاد من احتمالية
حدوث أزمة في هذه المنطقة تحت الرماد.
وفي حرب قره باغ الثانية التي اندلعت
في 2020 التي استمرت 44 يوماً، ومع التغييرات الجديدة في البلدين، تمكنت جمهورية
أذربيجان من إعادة أكثر من 20% من أراضيها، بما في ذلك مناطق قره باغ. وعلى عكس
الوضع في أرمينيا، تمتعت جمهورية أذربيجان بالتماسك الداخلي مع هيكل حكم موحد،
وقوة عسكرية، ودعم إقليمي خارجي.
ومع التوقيع على اتفاق النقاط التسع في
9 نوفمبر 2020، تم التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار بين الجانبين، ولكن بعد أشهر
من المفاوضات، ظهرت الخلافات مرة أخرى على ممريين رئيسين وهما ممر لاتشين (الذي
يربط ناغورني كاراباخ بالأراضي الرئيسية لأرمينيا) وممر زانغزور (الذي يربط أراضي
جمهورية أذربيجان بنخجوان)، ووصل الأمر إلى صراع عسكري محدود انتهى بانتصار جمهورية أذربيجان على قوات إقليم ناجورني كاراباخ والتي تعرف
قديماً بـ (آرتساخ)، بل واستطاعت ضم هذه المنطقة المتنازع عليها إليها.
وهنا أوضحت بعض التقديرات إنه مع
اكتمال عملية ضم إقليم ناجورنو كاراباخ إلى جمهورية أذربيجان والتغيرات
الجيوسياسية الجديدة، يتبادر إلى الأذهان هذا أسئلة محورية، تتضح في ماذا سيكون
النمط السلوكي لجمهورية إيران الإسلامية وماذا يجب على إيران أن تفعل حيال هذه
التغيرات الجديدة؟
ثانياً: إحياء التوترات
حاولت إيران منذ البداية الأولى لأزمة
ناجورنو كاراباخ، النظر إليها باعتبارها قضية إقليمية تتجاوز تصرفات القوى من خارج
المنطقة، وشددت على النهج الذي يقضي بضرورة حل هذه الأزمة بحضور الجهات الإقليمية الفاعلة.
ولكن مع تدخل جهات فاعلة أخرى وبروز ممر زنغزور واحتمال حدوث تغييرات جيوسياسية في
الحدود الشمالية لإيران، زادت الخلافات والتحديات السياسية والاستراتيجية بين باكو
وطهران.
ورغم أن طهران وباكو لديهما قواسم استراتيجية
مشتركة واقتصادية واسعة في التعاون والشراكة مع بعضهما البعض، إلا أن ما يسمى بممر
زانغزور ببنيته خارج الإقليمية يمكن أن يؤثر على المصالح الجيوسياسية لإيران، بما
يؤدى لفرض المزيد من القيود اقتصادها واستراتيجيتها، مما يضطر إيران إلى قبول قيود
جيوسياسية جديدة للعبور من الشمال إلى الجنوب والعكس.
وفي مثل هذا الوضع وعلى الرغم من
التوترات والتحديات، تغلبت إيران وجمهورية أذربيجان على هذه التوترات، ولكن قد
تؤدى سيطرة أذربيجان الكاملة على إقليم ناغورني كاراباخ إلى حدوث بعض التغيرات
الجيوسياسية الجديدة، بالإضافة إلى إحياء التوترات بين باكو وطهران، ولاسيما في ظل
الرفض الإيراني لإنشاء ممر رانغور الذى يربط جمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم
الذاتي والتابعة لأذربيجان بتركيا
متجاوزاً إيران.
ثالثاً: الموقف الإيراني
تجاه التغيرات الجديدة
مع سيادة نوع من الاستقرار النسبي في
منطقة جنوب القوقاز، تتحرك المنطقة الآن نحو المزيد من الإزدها الاقتصادي وخاصة
فيما يتعلق بالسعي لإنشاء بنية تحتية اقتصادية ناشئة أو إحياء البنية التحتية
القديمة، وخاصة في مجالات النقل والطاقة. وبهذا الشكل، تحاول جمهورية أذربيجان
وأرمينيا تحقيق مصالحهما الاقتصادية من خلال المبادرات الإقليمية البينية ووفقاً
لوضعهما الجغرافي والاقتصادي.
وفي هذا السياق، تحاول كل من أذربيجان
وأرمينيا التغلب على التحديات السابقة وإقامة علاقات اقتصادية ثنائية؛ وفي تصريحه
الأخير، تحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، أثناء ترحيبه بخطط العبور، عن
استعداد يريفان للتعاون في استعادة طرق النقل والسكك الحديدية، ويعد خط السكك
الحديدية القديم للاتحاد السوفييتي، والذي يبدأ من جمهورية ناختشيفان وبعد عبور
الحدود الإقليمية لأرمينيا، يعبر ضفاف نهر آراس ويصل إلى باكو، أحد طرق العبور
القديمة هذه التي تحاول جمهورية أذربيجان استعادتها من خلال إحيائها مرة أخرى.
والخط الأول في هذا الإطار هو طريق
بري، سيصل إلى ناختشيفان بالمرور عبر إيران، وفي المستقبل سيكون قادراً على
الاتصال بأوروبا عبر تركيا، والطريق الثاني سيمر عبر نفس خط السكك الحديدية القديم
لأرمينيا. ومع انخفاض التوترات وتوصل باكو ويريفان إلى خطة سلام شاملة ودائمة،
بدأت مبادرات مثل مسارات السكك الحديدية بين الشمال والجنوب
(إيران-أذربيجان-روسيا) وطريق العبور البري (إيران-أرمينيا-جورجيا-روسيا) تتطور بسرعة
أكبر.
وفي هذا الإطار، تواجه الجمهورية
الإسلامية الإيرانية ظروفاً جديدة تتطلب منها التكيف مع الواقع الإقليمي الجديد والسعي
إلى تحقيق مصالحها الوطنية (الاقتصادية والاستراتيجية)؛ فالتكيف هو أحد مناهج
السياسة الخارجية التي يمكن أن نطلق عليها "الإقليمية التقليدية". وفي
هذا النهج القائم على الحقائق الجديدة، ستتبع إيران نموذج سلوكي عملي (براغماتي
يعتمد على نهج تقدير التكلفة والعائد.
ويكتسب ذلك وجاهة كبيرة في ظل تراجع
أرمينيا عن موقفها السابق بشأن إقليم ناغورني كاراباخ وقبولها بالأوضاع الجديدة
القائمة على اعتراف سيادة أذربيجان عليه، وهو ما يرتب أوضاع جديدة بالنسبة لموقف
إيران تتمثل في تخليها عن الانحياز إلى جانب أرمينيا في مواجهة أذربيجان، والتكيف
مع هذه الأوضاع الجديدة، بل والسعي لتحقيق مصالحها في ظلها.