يعكس الموقف الروسي من الحرب بين
إسرائيل وحركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة نوع من أنواع التوازن الدقيق والمحسوب
ضمن استراتيجياتها للحفاظ على مصالحها مع الطرفين، وهو ما يدفع إلى الوقوف عند
منطلقات الموقف الروسي حيال الحرب الجارية، وأسباب تبني موسكو لهذه المواقف. خاصة
أنه تم النظر إلى استقبال موسكو لوفد حركة حماس باعتباره تعبيرًا عن قدرة موسكو على لعب دور
مستقبلي للوساطة في الصراع بين تل أبيب والحركة.
كما طرحت الزيارة مجموعة من التساؤلات حول احتمالات تطور الموقف
الروسي تجاه الصراع الجاري في المنطقة خاصة أن هناك محددات جديدة في طور التشكل تجاه
التعامل الروسي مع تطورات الأزمة التي اندلعت منذ السابع من أكتوبر والمستمرة حتى
الآن والتي كان أبرز مؤثراته طريقة ونمط معالجة الغرب للحدث وتطوراته؛ حيث رأت
موسكو أن ما يحدث في غزة يعبر عن مدى فشل سياسات الولايات المتحدة والغرب في الشرق
الأوسط بعدما سيطروا على عملية صنع القرار بشأن التسوية المستقبلية للصراع، كما أبعدت
الأطراف الأخرى عن هذا الملف. بل أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذهب إلى أبعد من
ذلك عندما أعلن إن جوهر المشكلة الحالية يتمثل في عدم السماح للشعب الفلسطيني
بإقامة دولته.
ويمكن هنا الإشارة إلى إن أحد ركائز نهج موسكو تجاه التعامل مع
الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتمثل هو الحفاظ على التوازن والعلاقات
الإيجابية مع جميع الأطراف المعنية. وحتى الآن ظلت روسيا تدين أعمال العنف التي
ترتكبها كل من حماس وإسرائيل، في حين لم يكن من المستغرب أن تلقي القدر الأعظم من
المسئولية في إراقة الدماء على الولايات المتحدة الأمريكية.
أولًا: محددات الموقف الروسي تجاه الحرب في غزة
1. انتقاد المعالجة الغربية لأسباب الأزمة وتداعياتها: استند
الدور الروسي في التعبير عن ملامحه من خلال إظهار التمايز والاختلاف بينه وبين الموقف
الغربي خاصة فيما يتعلق
بتحديد أنماط العلاقة مع اللاعبين في هذه الملفات داخليًا
وخارجيًا، وأن موسكو قد تقدم نفسها كبديل واقعي قادر على تحديد واستيعاب مختلف الأطراف
حول الأزمة. ويمكن الإشارة هنا إلى أن روسيا ركزت في هذه الاستراتيجية على رفض
النهج الأمريكي والغربي بصورة عامة بسبب احتكاره لملف إدارة الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي باعتبارهم
لم يتخذوا سياسات أو إجراءات عملية من شأنها العمل على تسوية الصراع بحل الدولتين.
2. إحراج المنظومة الغربية عالميًا: حاولت روسيا إظهار ازدواجية
المعايير التي تنتهجها الولايات المتحدة والمنظومة الغربية داخل المنظمات الدولية
مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن وخاصة فيما يتعلق بقضايا دول الجنوب
العالمي ومقارنة ذلك برد فعلها تجاه الحرب في أوكرانيا، ومن ثم، تعمل روسيا وفق
هذا السياق على كسب مزيد من الشعبية والنفوذ في العالمين العربي والإسلامي، بما
يعزز توجهاتها الخاصة بضرورة بناء نظام عالمي جديد كبديل للنظام الحالي المهيمن
عليه غربيًّا بقيادة أمريكية. بجانب ذلك، ترى روسيا في الحرب الجارية في غزة مؤشرًا
على اتساع المأزق الغربي في التعامل مع الأزمات الإقليمية، وفرصة لتجديد حضورها
المؤثر في هذه الأزمات.
وضمن هذا السياق، تسعى روسيا إلى تقديم نفسها باعتبارها مناهضة
لسياسة الولايات المتحدة، من خلال تأطير الأزمة بين إسرائيل وغزة باعتبارها حربًا
بالوكالة مع الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا تهدف التقارير التي تتحدث عن
قيام روسيا بإعادة ترتيب النظام العالمي الدولي من خلال وساطتها الدبلوماسية
للصراع، مثل الاجتماع بوفد حماس، واستعراض نفوذها الدبلوماسي في الغرب فحسب، بل
وأيضًا للرأي العام الداخلي.
بالإضافة إلى ذلك، روجت روسيا إلى فكرة مفادها أن الغرب قد تخلى
عن تحالفه مع أوكرانيا، الذي أصبح يركز جهوده على الأزمة بين إسرائيل وغزة، ووفق
هذا التصور، تهدف روسيا من تقديم هذه الفكرة التوضيح للشعب الأوكراني أن الغرب
لابد أن يختار بين دعم إسرائيل أو أوكرانيا ــ وأن أوكرانيا يمكن أن تكون في وضع
أفضل من خلال الانحياز إلى روسيا وقبولها باعتبارها الحليف الوحيد لها. علاوة على
ذلك، أظهر الواقع العملي أن أوكرانيا تفتقر إلى القدرات المالية اللازمة لمواصلة
الحرب دون تمويل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهو ما أكده تصريح الرئيس
الروسي السابق دميتري ميدفيديف أن أوكرانيا تشعر بخيبة أمل من تراجع الدعم لها،
والدعم الذي أظهرته الولايات المتحدة لإسرائيل. وهذا السرد يعتبر كل من إسرائيل
وأوكرانيا منافسين للحصول على الدعم من الغرب.
3. تخفيف الضغوط الغربية على روسيا: تستفيد روسيا من الحرب الإسرائيلية على غزة والدعم
الأمريكي والغربي الكبير المقدم لإسرائيل في خفض حدة الضغوط عليها من ناحية الجبهة
الأوكرانية، وذلك من خلال استغلال العجز الغربي وعدم قدرته على الاستمرار في تقديم
المساعدات على أكثر من جبهة، وهو الأمر الذي يأتي بالتزامن من تصاعد وتيرة الغضب
من جانب المجتمعات الغربية حول جدوى الاستمرار في دعم أوكرانيا دونما الوصول إلى
تسوية حاسمة لهذا الملف.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن العلاقات بين روسيا وحماس مفيدة
للطرفين؛ حيث يضفي كل منهما الشرعية على الأهداف السياسية للآخر ويصطفان للوقوف ضد
الولايات المتحدة التي تقف وراء كل من إسرائيل وأوكرانيا. فبينما تستفيد حماس من
الدعم السياسي من روسيا باعتبارها عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة،
تستفيد روسيا أيضًا من تزايد حضورها ونفوذها في دول الجنوب العالمي من خلال
العلاقات الدبلوماسية مع حماس.
وبالنسبة للأزمة بين روسيا وأوكرانيا، فإن إطالة أمد الحرب سيصب
في اتجاه المصالح الروسية خاصة مع استمرار الكونجرس الأمريكي في إظهار القلق بشأن
المزيد من التمويل لأوكرانيا، وحاجة الولايات المتحدة إلى دعم إسرائيل في الشرق
الأوسط، وهذه العوامل ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد الكيفية التي سينتهي بها الصراع
الأوكراني.
بالنسبة لحماس، تعتبر العلاقات مع روسيا مهمة أيضًا، لأنها تقدم
الحركة على أنها موضع ترحيب في واحدة من أهم العواصم في العالم. ومن حيث المبدأ،
فقد تشبثت موسكو بموقفها الذي يعتبر حماس منظمة سياسية مشروعة، في حين تصنفها
الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي كمنظمة
إرهابية.
4. تعزيز ميادين
الدبلوماسية الروسية: على العكس من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي،
لم تدرج روسيا حركة حماس على لائحة الإرهاب، بل إنها حافظت
على قنوات اتصال ثابتة معها في كل مراحل الأزمة الحالية، وخلال المواجهات السابقة
التي وقعت بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وإسرائيل. وقد أتاح ذلك هامش كبير
وأوسع لموسكو لتعزيز
دبلوماسيتها والانفتاح على الأطراف الدولية ومنظمات المجتمع الدولي، وهو ما يعني
تقويض محاولات عزلها، وظهر هذا في النشاط المتزايد لموسكو في مجلس الأمن الدولي،
وفي الاتصالات مع الأطراف المختلفة ذات الصلة بالأزمة لاحتواء التصعيد وعدم
انتقاله إلى مناطق جغرافية أوسع.
وضمن هذا الإطار، عززت روسيا من نشاطها الدبلوماسي
في مجلس الأمن، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة لتشكيل كتلة تصويتية كبيرة
معارضة للحرب والتي سيؤدي إيقافها من دون تحقيق هدف تغيير الخرائط في المنطقة، إلى
إضعاف نفوذ وتأثير واشنطن الإقليمي من وجهة النظر الروسية. بالإضافة إلى ذلك أعلنت روسيا عن دعمها عقد مؤتمر دولي للسلام، أو
طرح مبادرات من شأنها تسوية الأزمة باعتبارها لن تكون وسيطًا مقبولًا من جانب
الغرب، إلا أنها ستكون قادرة على دعم المبادرات التي قد تصدر من جهات مختلفة، مثل
الدعوة الصينية لعقد مؤتمر للسلام أو دعم مخرجات المبادرة العربية الإسلامية.
وبالتالي، تسمح الحرب بين إسرائيل وغزة لروسيا بإعادة تأكيد
نفسها كقوة دبلوماسية في المنطقة. وقد أدى الدور الرئيسي الذي لعبته روسيا في
هندسة عودة سوريا إلى الجامعة العربية واستضافتها للمحادثات الأمنية السعودية - الإيرانية
في مؤتمر موسكو الأمني في
أغسطس 2023 إلى تخفيف هذه المخاوف، ومن ثم تمثل حرب غزة فرصة دبلوماسية كبيرة لروسيا
لتعزيز نفوذها الدبلوماسي.
5. التمسك بحل الدولتين: دافعت روسيا عن قرارها المتعلق باستضافة
أعضاء من حماس في موسكو، قائلة إنه من المهم الحفاظ على العلاقات مع الجانبين في
إسرائيل وحماس صراع. وقالت وزارة الخارجية الروسية إن الاجتماعات كانت جزءًا من
جهود روسيا لتأمين إطلاق سراح الرهائن من غزة. ويأتي هذا الإعلان تأكيدًا على تمسكها
بضرورة حل الدولتين؛ حيث دعمت الدول والمؤسسات والمبادرات التي تتمسك بهذا الطرح
في مواجهة الولايات المتحدة التي لم تنجح على مدار 75 عامًا من إنتاج حل عادل
للأزمة، وفي سبيل تحقيق ذلك استخدمت روسيا حق النقض "الفيتو" في جلسات
مجلس الأمن بدافع تعطيل مشاريع القرارات التي تمنح إسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها،
وإنكار حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، ناهيك عن رفض القرارات التي تصنف
حركة المقاومة حماس كمنظمة إرهابية، أو اتهامها باستهداف المدنيين، أو تلك التي
تدعو إلى استمرار الحرب وترفض وقف إطلاق النار.
6. مواجهة عزلة روسيا الخارجية: سيؤدي استمرار الوضع الحالي في
حرب إسرائيل على غزة إلى تفاقم الغضب في العالمين العربي والإسلامي. ومع تنامي
المشاعر المعادية لأميركا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ستستفيد روسيا من
الفرص المتاحة للاستفادة من عزلة واشنطن على الساحة الدولية عندما يتعلق الأمر
بهذه القضية. وفي الوقت نفسه، فإن رسالة
موسكو بأن حل الدولتين ضروري لحل الأزمة في إسرائيل وفلسطين تتناسب مع الإجماع
العربي والدولي. ووفق هذا التصور، تريد روسيا أن تظهر أنها
ليست معزولة عالميًا، وأنها تحتفظ بقدر كبير من النفوذ والنفوذ الدبلوماسي في
الشرق الأوسط. كما تحاول روسيا استمالة الجنوب العالمي من خلال تقديم نفسها على
أنها نقيض للولايات المتحدة وتحاول تعزيز قوتها الناعمة في الشرق الأوسط والجنوب
العالمي من خلال تقديم نفسها على أنها مناصرة للقضية الفلسطينية.
ثانيًا: معوقات الدور الروسي في غزة
تستهدف روسيا من وراء انتهاج السياسات السابقة تعزيز دورها
وتفاعلاتها حول الأزمة الجارية في غزة بين حركات المقاومة وإسرائيل، إلا أن هناك
مجموعة من الصعوبات المحيطة بتنفيذ هذه الأدوات أو على أقل تقدير إمكانية تنفيذها وفق
الرؤية الروسية، وفيما يلي أبرز هذه المعوقات:
1. أدوار وساطة محدودة: على الرغم من قدرة روسيا على تحفيز الاتجاهات الداعمة
لوقف الحرب من جانب القوى الإقليمية والدولية وطرح آليات ومخرجات جديدة من الجمعية
العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن إلا أن هناك صعوبات كبيرة تحيط بمدى قبول الوساطة
الروسية في هذه الأزمة خاصة فيما يتعلق بقبول إسرائيل بالدور الروسي في الحرب
الجارية بعيدًا عن الولايات المتحدة إلا أن هذا لا يمنع موسكو من مراكمة كثير من
المميزات في مواجهة الولايات المتحدة والمنظومة الغربية بصورة عامة.
2. شبكة التحالفات الإقليمية الروسية: لا تعكس الأزمة الجارية
في غزة ثوابت ومنطلقات الدور الروسي خاصة وأن هناك مستويات مختلفة من التوافق
والخلاف بين روسيا وكثير من هذه الدول كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل وإيران؛ حيث
تصاعدت مجموعة من الاتجاهات حول علاقات روسيا بكليهما فالعلاقات الإسرائيلية
الإيرانية تتميز بالتوتر والخلافات المتصاعدة. وضمن هذا السياق، برز عاملان
رئيسيان فيما يتعلق بالعلاقات الروسية مع إيران وإسرائيل، فالعلاقات الروسية
الإيرانية تعززت ووصلت إلى مستويات متقدمة من التنسيق والتحالف وهو ما تعارضه
إسرائيل، على الجانب الآخر، تعززت العلاقات الروسية الإسرائيلية بعد التدخل الروسي
في الأزمة السورية عام 2015؛ حيث
رسخت روسيا وجودها العسكري على البحر الأبيض المتوسط، ونشرت
قواعدها العسكرية داخل الأراضي السورية بجوار الحدود مع إسرائيل، كما شرعت روسيا
من وراء ذلك إلى تحقيق التقارب مع إسرائيل والرهان عليها للعب دور مهم في تخفيف
الضغوط الغربية وتقليص العقوبات عليها؛ حيث لم ترفض إسرائيل تحركات موسكو في
المنطقة في مقابل السماح لإسرائيل بالحفاظ على مصالحها الأمنية في سوريا وخاصة
فيما يتعلق بمواجهة إيران.
إلا أن شبكة التحالفات الإقليمية لروسيا تتميز بالتناقض وتواجه
كثير من التحديات في ظل تباين الرؤى الروسية والإسرائيلية والإيرانية بشأن الحدود
الفاصلة بين سياسات كل طرف، ولعل التوازن الدقيق الذي أقامته موسكو لسنوات في
العلاقات بين تل أبيب من طرف وطهران من طرف آخر، تعرض لكثير من الاختلال بسبب
الأزمتين الأوكرانية والسورية ومؤخرًا الأزمة الجارية في قطاع غزة. ومن
ثم، فمن الأرجح أن الحرب بين حماس وإسرائيل يمكن أن تمثل نهاية لسياسة
روسيا المستمرة منذ عقود في تحقيق التوازن بين مختلف اللاعبين في الشرق الأوسط.
3. احتمالية تغير التوجهات الغربية: دعمت واشنطن الحملة
الإسرائيلية على غزة ورفضت الموافقة على وقف إطلاق النار في ظل تزايد الخسائر
البشرية الفلسطينيين، وخير مثال على ذلك هو محاولات اتخاذ إجراء في مجلس الأمن
التابع للأمم المتحدة، والتي أحبطتها واشنطن أو خففتها بشكل متكرر؛ حيث اعترضت
الولايات المتحدة على العديد من مشاريع قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وصوتت
ضد قرار روسي في المجلس يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية دون إدانة حماس. كما
امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على قرار يدعو إلى وقف القتال لأسباب إنسانية
في نوفمبر، بالإضافة إلى اعتراضها مرة أخرى في 8 ديسمبر على قرار لمجلس الأمن يدعو
إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، مدعيًا أن فرض وقف إطلاق النار قبل أن تحقق
إسرائيل هدفها المتمثل في تدمير حماس وإزاحتها من السلطة لن يؤدي إلا إلى ضمان
وقوع هجمات مستقبلية مثل تلك التي وقعت على 7 أكتوبر. ولعل هذا التوجه سيعمل على
إبقاء روسيا ذات صلة بالعملية الدبلوماسية المتمثلة في الضغط على الولايات
المتحدة. إلا أنه في حال تغيير الولايات المتحدة لطريقة تعاملها مع الأزمة الحالية
ومراعاة الانتقادات التي تواجهها بسبب طريقة إدارتها للأزمة، فإن ذلك سيزيد من القدرة
الأمريكية على استعادة دورها في هذا الملف الذي يحظى بالرعاية الأمريكية منذ
الماضي.
4. اتساع رقعة الصراع ليشمل دولًا أخرى: في السياق الأوسع، هناك
سبب يزيد من مخاوف صناع السياسة الروس وكيف يمكن أن تؤثر الأزمة المستمرة في
إسرائيل وفلسطين، وأن عدم اتفاق الجانبين على تنفيذ وقف إطلاق النار في أي وقت
قريب من شأنه أن يثير تساؤلات حول مدى النفوذ الذي تتمتع به روسيا بالفعل في
المنطقة وقدرته على التأثير خاصة مع احتمال امتداد هذه الأزمة إلى بلدان أخرى في
الشرق الأوسط مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن.
ويقوم هذا التصور على اعتبار أنه في حال دخول حزب الله وإسرائيل
في حرب شاملة، ستتجه قوات حزب الله الموجودة في سوريا للعودة إلى لبنان. وفي ظل
هذه الظروف، فإن قبضة حكومة الأسد على السلطة يمكن أن تضعف نظرًا للمشاكل
الاقتصادية والاضطرابات التي تعاني منها. ويشير هذا إلى أن روسيا ستتحمل عبئًا
أكبر فيما يتعلق بدعم سوريا، كما أنه في سياق الحرب الأوكرانية، سيشكل ذلك عبئا
إضافيًا لا ترغب فيه موسكو.
من ناحية أخرى، لا تريد روسيا وضعًا يتعين عليها الاختيار بين
علاقاتها مع إسرائيل وإيران، بالإضافة إلى ذلك، قد يثير التورط الإيراني المباشر
في الصراع الدائر في غزة من مخاوف موسكو في حال ضعفت قدرة الجمهورية الإسلامية على
دعم المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا. وفي الوقت نفسه، سوف تحتاج موسكو إلى أن
تراقب أيضًا مدى تأثير هذا السيناريو على أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وخاصة
المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالنظر إلى مدى اعتماد
السياسات النفطية الروسية على الشراكة الخليجية للصمود في وجه الحرب الاقتصادية
التي يشنها الغرب عليها، ومن ثم لا يمكن لموسكو أن تتجاهل مثل هذه المخاطر.
5. الإقليمية في مواجهة العالمية: تسعى روسيا إلى الترويج لفكرة
الإقليمية، التي تتطلب إدارة التحديات في المنطقة من خلال الدول الإقليمية فقط دون
تدخل الدول الكبرى. وفي الواقع، كانت هناك موجة من النشاط الدبلوماسي الروسي مع
مصر وإيران وتركيا والإمارات والسعودية للإشارة إلى التضامن بشأن الدعوة لوقف
إطلاق النار في غزة. كما اقترح البعض تشكيل مسار مثل صيغة أستانا كما هو الحال
بالنسبة للأزمة في سوريا، ويشكل هذا المنظور اتجاهًا جديدًا يرتكز على منح الدول
الإقليمية هامشًا أكبر للحركة في التأثير على مجريات الأوضاع في الحرب على غزة
بعيدًا عن الدول الكبرى التي يمكن أن يؤدي تدخلها إلى تأجيج الأزمة.
في الختام: تعددت محددات روسيا التي اعتمدت عليها في تعاملها مع
الأزمة في غزة، إلا أن هناك العديد من الفرص والقيود التي حددت وستحدد المسار
الروسي الحالي واتجاهاته المستقبلية، وهو ما ستفرزه تطورات الحرب العسكرية
والسياسية، إلا أن هناك مجموعة من السمات العامة للموقف الروسي بعضها يتعلق
بمحددات الصراع ذاته والبعض الآخر يتعلق بعلاقات روسيا الخارجية مع المعسكر الغربي
وثالث يتعلق بمواقف الدول الإقليمية، ومن ثم يمكن إجمال هذه المحددات في مواجهة
المنظومة الغربية وانتقاد طريقة تعاملها مع الأزمة، مع العمل على تقديم بدائل لهذه
السياسات التي أفضت إلى تأجيج الصراع وإمكانية تطوره لأن يصبح صراعًا إقليميًا.