بريتوريا تُقاضي تل أبيب: هل تسطر جنوب إفريقيا نجاح جديد في محاربة الأبارتهايد الإسرائيلي؟
أصدرت
محكمة العدل الدولية حكمها الإجرائي بعد النظر في الدعوى المقدمة من دولة جنوب
إفريقيا ضد إسرائيل على إثر عملياتها العسكرية في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، تتهمها
فيها بارتكاب جريمة "الإبادة الجماعية" في قطاع غزة، وطالبت خلال الدعوى
بالوقف الفوري للعمليات العسكرية في غزة، وذلك باعتبار أن جنوب إفريقيا وإسرائيل
طرفان في معاهدة "منع الإبادة الجماعية"، والتي تهدف إلى الوقاية من
الإبادة الجماعية ومراقبة مرتكبي هذه الجريمة، وعقدت محكمة العدل الدولية جلستين يومي
11 و12 يناير للنظر في الطلب المقدم من جنوب إفريقيا، ومن جهتها اعتبرت إسرائيل أن
طلب جنوب أفريقيا ليس له أي أساس قانوني، واتهمتها بالتعاون مع حركة حماس، بل ودفعت في 12 يناير بعدم
الاختصاص المحكمة في نظر الدعوى، إلا أنها وافقت في النهاية على المثول أمام
المحكمة لدحض ما وجه إليها من اتهامات بالإبادة الجماعية وفشلها في اتخاذ التدابير
الواجبة لتجنب وقوع هذه الجريمة، ووصفت هذه الاتهامات بأنها "اتهامات سخيفة وتشهير
عبثي"(1)، وفي يوم 26 يناير، أصدرت محكمة العدل الدولية برئاسة القاضية
الأمريكية، جوان دونوغو، حكم إجرائي "ابتدائي" طالبت خلاله إسرائيل
باتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف الإبادة الجماعية أو التحريض عليها مثل تصريحات المسؤولين
في الجيش الإسرائيلي، وأنه على إسرائيل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين الوضع
الإنساني في قطاع غزة، والسماح بإنفاذ المساعدات للقطاع، وكذلك قضت المحكمة بعدم
تخلص إسرائيل من أي أدلة على ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، فضلاً عن تقديم إسرائيل
تقرير للمحكمة خلال شهر عن مدى تنفيذها هذه التدابير، ولكنها وعلى الرغم من هذه
القرارات لم تطلب من إسرائيل صراحةً، اتخاذ إجراءات تفرض عليها عمليًا وقف الهجوم.(2)
تثير تلك
الاتهامات الموجهة لإسرئيل تساؤلات حول مدى استجابة إسرائيل لقرارات محكمة العدل
الدولية، ومدى تغير موقف الولايات المتحدة تجاهه، ولكن هل ستستجيب إسرائيل نفسها للقرارات
الصادرة عن محكمة العدل الدولية؟ وما دوافع جنوب إفريقيا لهذا التحرك؟ وهل سيؤثر
ذلك على علاقتها بإسرائيل؟ هذا ما سيتم تناوله خلال هذا التقرير.
ما اختصاصات ومهام محكمة
العدل الدولية؟
تأسست
محكمة العدل الدولية كجهاز قضائي رئيسي تابع للأمم المتحدة، وتقع مقرها في لاهاي
بولاية هولندا، حيث بدأت عملها في عام 1946، تتخصص المحكمة في حل النزاعات
القانونية التي يحيلها إليها الدول وفقًا للقانون الدولي، وتقديم فتاوى حول
المسائل القانونية المحالة إليها من قبل أجهزة الأمم المتحدة والوكالات الدولية،
وتتخذ المحكمة قراراتها استنادًا إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بالإضافة إلى
العرف الدولي والمبادئ العامة للقانون والأحكام القضائية والمذاهب القانونية
السائدة في القانون الدولي، وفي حالات الشك حول اختصاص المحكمة في التدخل في قضية
معينة، تقرر المحكمة نفسها ما إذا كانت لها اختصاصًا أم لا، وتنص المادة 94 من
ميثاق الأمم المتحدة على أن الدول الأعضاء ملزمة بالامتثال لقرارات المحكمة
الدولية، وإذا لم تلتزم دولة ما بتنفيذ حكم المحكمة، يحق للطرف الآخر اللجوء إلى مجلس
الأمن الذي يمكنه تقديم توصيات أو اتخاذ تدابير لتنفيذ الحكم.(3)
واستنادًا
لهذه الاختصاصات الواسعة تقدمت دولة جنوب إفريقيا في 29 ديسمبر 2023 بدعوى قضائية
مفصلة مكونة من 84 صفحة أمام المحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، اتهمت فيها
الأخيرة بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وجاءت الخطوة
القانونية على خلفية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في أكتوبر 2023، من
قتل عشرات الآلاف وتهجير أغلب سكان القطاع من الشمال إلى الجنوب، فضلاً عن تدمير
البنية التحتية للقطاع، بالإضافة إلى منع وصول المساعدات إلى أهل غزة بهدف التجويع
والحرمان من الغذاء والماء والرعاية الطبية، واستندت الدعوى إلى المادة التاسعة من
"منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" عام 1948، والتي انضمت
إليها إسرائيل عام 1951، بينما انضمت جنوب إفريقيا عام 1998، وتنص المادة على أنه
"تُعرض على محكمة العدل الدولية بناءً على طلب أي من الأطراف المتنازعة،
النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه
الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن
الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة"،(4) وبناءً على ما
سبق، طالبت دولة جنوب إفريقيا المحكمة باتخاذ التدابير المؤقتة لحماية الفلسطينيين
في غزة من تعرضهم لمزيد من الضرر، ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب
اتفاقية منع الإبادة الجماعية ومنعها من استكمال هذه الممارسات، والمعاقبة عليها.
وطالبت
جنوب أفريقيا محكمة العدل الدولية باتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير المؤقتة
لحين صدور الحكم الموضوعي النهائي، والذي قد يستغرق سنوات، من أهمها:
1-
اتخاذ
تدابير مؤقتة لحماية الفلسطينيين في غزة وضمان امتثال إسرائيل لاتفاقية منع
الإبادة الجماعية.
2-
اتخاذ
التدابير المطلوبة تشمل تعليق العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة فورًا، ومنع
تدمير الأدلة المتعلقة بالقضية، والسماح بوصول بعثات تقصي الحقائق إلى غزة.
3-
وأن تقدم
إسرائيل تقارير دورية للمحكمة حول الخطوات المتخذة لتنفيذ أمر التدابير المؤقتة.(5)
جنوب إفريقيا تستدعي
تجربتها المريرة لمحاربة أبارتهايد إسرائيل في غزة:
يبدو أن
جنوب أفريقيا تسعى لاتخاذ إجراءات قانونية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية
مدفوعة بعدد من الأسباب والدوافع الرئيسية: الأول: دوافع داخلية حيث يواجه حزب
المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم داخل جنوب إفريقيا عدد من التحديات في ظل
الاستحقاق الانتخابي المقبل والمقرر إجراؤه في شهر مايو المقبل، من أهمها: تراجع
الاهتمام بالآليات الديمقراطية في المجتمع الجنوب أفريقي، وضعف قدرة النظام
السياسي المتوقعة في تحسين مستوى معيشة المواطنين، وفي التعامل مع التحديات
الاقتصادية والاجتماعية الحرجة، وذلك وفقًا لعدد من استطلاعات الرأي الحديثة، ومن
ثم قد يلجأ الحزب الحاكم إلى تبني سياسات ومواقف خارجية تجاه قضايا كبرى ذات
شعبية، بهدف كسب دعم الرأي العام المحلي، ولو بشكل مؤقت، وذلك من خلال استغلال
قضايا إقليمية ودولية بارزة، لتخفيف التركيز على التحديات المحلية،(6) والثاني:
تسعى جنوب إفريقيا إلى وقف الحرب الدامية في قطاع غزة، والتي أسفرت عن سقوط الآلاف
من الضحايا من المدنيين الفلسطينيين وذلك من منظور حقوقي إنساني عبر الضغط
القانوني الدولي من منطلق تحقيق العدالة، والثالث: محاربة نظام الفصل
العنصري (الأبارتهايد) الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، والذي تعرّضت له
جنوب أفريقيا سابقًا
وإن كان هناك اختلاف شكلي بين النموذجين إلا أن المضمون واحد وهو ممارسة إسرائيل
سياسات الفصل العنصري (الأبارتهايد) بحق الشعب الفلسطيني، وخاصة في الضفة الغربية
وقطاع غزة.
بينما يمثل
الاختلاف بين الأبارتهايد الإسرائيلي والأبارتهايد الممارَس ضد جنوب إفريقيا
اختلافًا شكليًا في أن نموذج احتلال إسرائيل
للأراضي الفلسطينية المحتلة تمثل حالة استثنائية لعدم امتلاكها "موطنًا
أم" يمكنها اللجوء إليه في حال تصاعد الخسائر المترتبة على احتلالها، وبناءً
عليه، لا يمكن اعتبارها كيانًا استعماريًا تقليديًا، كالتي شهدها العالم في القرنين
التاسع عشر والعشرين، ففي تلك الحقبة، كانت الدول الأوروبية تقيم مستعمرات خارج
حدودها بهدف استغلال موارد الدول المحتلة الطبيعية والبشرية، على أن تنسحب منها
وتعود إلى موطنها الأصلي عند تزايد التكاليف الاقتصادية للاستعمار أو تزايد
الخسائر، وهو ما حدث مع دولة جنوب إفريقيا، على يد هولندا وبريطانيا حيث كان
الاحتلال مدفوعًا بالمنافع الجيوستراتيجية المرتبطة بالتجارة البحرية العالمية، إذ
شكلت جنوب أفريقيا نقطة عبور حيوية على طريق الملاحة إلى المستعمرات الآسيوية إلا
أن افتتاح قناة السويس أدى إلى تراجع الأهمية الجيواقتصادية للمنطقة بالنسبة
للأوروبيين، مما جعل قرار الانسحاب من جنوب أفريقيا خيارًا منطقيًا في ظل الظروف
الدولية الملائمة، كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتغير موازين القوى
العالمية، ولكن هذا القرار لا يمكن أن تتخذه إسرائيل لعدم وجود وطن أم لها، مما
يزيد من وطأة الاستعمار، وعلى الرغم من الاختلاف بين النموذجين في شكل الاحتلال
إلا أن هناك تشابه كبير في السياسات والممارسات القائمة، واتضحت تلك الممارسات من خلال عدة
طرق، منها:
1-
سن قوانين
تمييزية ضد الفلسطينيين مثل "قانون الطوارئ" الذي يتيح اعتقال ومعاقبة
الفلسطينيين بشكل تعسفي.
2-
فرض قيود
مشددة على حرية تنقل الفلسطينيين وتقسيم الأراضي جغرافيًا بين الفلسطينيين
والإسرائيليين.
3-
التمييز في
المعاملة بين المستوطنين الإسرائيليين غير الشرعيين والسكان الفلسطينيين الأصليين.
4-
القتل
والتدمير والإبادة الجماعية.(7)
ومن هذا
المنطلق تسعى جنوب أفريقيا لإدانة هذه السياسات العنصرية من الناحية القانونية، في
محاولة منها لاستخدام القانون الدولي كأداة لوضع حد للعنف ضد الفلسطينيين ومحاربة
سياسات التمييز العنصري الإسرائيلية، وذلك انطلاقًا من تجربتها المريرة مع نظام
الأبارتهايد.
ليس التحرك الأول من جنوب إفريقيا
ولكن، لم
تكن هذه الدعوى هي التحرك الوحيد لدولة جنوب إفريقيا اعتراضًا على ما يتعرض له
سكان قطاع غزة من تجويع وتخويف وقتل ودمار وحصار، ففي نوفمبر الماضي 2023، قدمت
دولة جنوب إفريقيا طلبًا رسميًا إلى مكتب المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية،
كريم خان، بمشاركة كل من بنجلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، للشروع العاجل في
تحقيقات واسعة النطاق حول مزاعم ارتكاب جرائم دولية بحق الشعب الفلسطيني، تصل إلى
الإبادة الجماعية، وذلك باعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية محكمة مستقلة لا تتبع
الأمم المتحدة تأسست عام 2002؛ تختص بمحاكمة الأفراد في أخطر الجرائم منها جرائم
الحرب، والإبادة الجماعية، وقد قام المدعي العام بزيارة أراضي النزاع في محاولة
لجمع الأدلة والتحقق من صحتها قبل توجيه اتهامات رسمية، وأعلن المدعي العام
بالمحكمة الجنائية الدولية إجراء تحقيق نشط في الوضع الراهن في قطاع غزة، وأن
فريقه يعمل على جمع الأدلة والشهادات ذات الصلة بارتكاب جرائم حرب ولكن المحكمة لم
تصدر أي قرار حتى الآن.(8)
ردود الفعل الدولية تجاه حكم
المحكمة
أثار قرار
جنوب إفريقيا بالتحرك أمام محكمة العدل الدولية لوقف الحرب الوحشية في قطاع غزة
موجة من ردود الفعل المتنوعة على الساحة الدولية، نستعرضها كما يلي:
مندوبة جنوب إفريقيا:
فمن
جانبها، اعتبرت مندوبة جنوب إفريقيا في الأمم المتحدة، قرار محكمة العدل الدولية بخصوص
الوضع في قطاع غزة انتصارًا هامًا لمبدأ سيادة القانون الدولي وتطبيقه بشكل عادل
ومحايد، واعتبرت كذلك القرار تأكيد على ضرورة احترام القوانين والمواثيق الدولية
الخاصة بحماية المدنيين في أوقات النزاعات والحروب، كما يمثل خطوة أساسية نحو
تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الذي طالما عانى من الحصار والعدوان على مدار سنوات
طويلة، معربة عن أملها في أن يسهم القرار في دفع عجلة التوصل إلى حل سلمي دائم
ينهي معاناة الفلسطينيين ويحقق الاستقرار في المنطقة.(9)
الدول العربية:
وعلى
الجانب الآخر، أعربت كل من السعودية ومصر والأردن وقطر والإمارات عن ترحيبها
بالقرار الابتدائي الصادر عن محكمة العدل الدولية المتعلق بوقف أي ممارسات أو
تصريحات تستهدف القيام بأعمال إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مؤكدين
دعمهم الكامل لمضمون القرار، ومعربين عن رفضهم القاطع للممارسات الإسرائيلية غير
القانونية التي تنتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.(10)
الاتحاد الأوروبي
بينما
عبر الاتحاد الأوروبي في بيانه المشترك الصادر عن مفوضية السياسة الخارجية ومفوضية
الشؤون الأوروبية، عن توقعه بأن تلتزم إسرائيل بتنفيذ قرار محكمة العدل الدولية
بشكل كامل وفوري، والذي يُلزم الأطراف المعنية باتخاذ كافة التدابير الضرورية لمنع
وقوع جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.(11)
موقف عدد من الدول الأطراف في
اتفاقية الإبادة الجماعية:
ورحبت
كذلك عدد من الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية بالطلب الذي قدمته جنوب
أفريقيا، منها: تركيا، فنزوريلا، بنجلاديش، باكستان، ماليزيا، ناميبيا، جزر
المالديف، وبوليفيا، ونيكاراغوا، وكذلك أعرب كل من سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة
في نيويورك، ومنظمة التعاون الإسلامي تأييدهم ودعمهم لقرارات محكمة العدل الدولية.
الولايات المتحدة:
فيما
أعربت الولايات المتحدة من خلال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، عن رأيها
بأن قرار محكمة العدل الدولية بشأن النزاع بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة
يتفق مع وجهة النظر الأمريكية من حيث إقراره بحق إسرائيل في اتخاذ إجراءات عسكرية
دفاعية وفقًا للقانون الدولي، بل واستغلت أمريكا عدم إصدار المحكمة قرار صريح بشأن
وقف إطلاق النار باعتبار ذلك دليل على عدم إدانة المحكمة لإسرائيل، ودعت المحكمة
للإفراج وبدون قيد أو شرط عن جميع الرهائن والأسرى لدى حركة حماس.(12)
وبحسب ما
طرحه الكاتب جون شفارتس، خلال مقاله بموقع إنترسبت الأمريكي، بـأن تكرار الولايات
المتحدة الأمريكية لسيناريو التعتيم والتغاضي لأي قرارات تحاول الحد من جرائمها أو
جرائم حليفتها إسرائيل هو التوجه الغالب، كما فعلت من قبل عندما حُكم عليها في
قضية نيكاراغوا؟ حين اعتبرت محكمة العدل الدولية أن الولايات المتحدة مسؤولة عن
تمويل وتسليح جماعات "الكونترا" التي ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق
الإنسان في نيكاراغوا، لكن الولايات المتحدة تجاهلت حكم المحكمة بمسؤوليتها عما
ارتكبته من انتهاكات في نيكاراغوا.(13)
قرار لاهاي يثير غضب إسرائيل:
على نفس
وتيرة الولايات المتحدة الأمريكية، في قضية "نيكاراغوا" رفضت الحكومة
الإسرائيلية بشدة التزاماتها تجاه القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية، والذي
يلزمها باتخاذ تدابير وقائية عاجلة لحماية المدنيين الفلسطينيين من خطر الإبادة
الجماعية في قطاع غزة، فقد صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن
بلاده ستواصل الدفاع عن نفسها ضد ما اصطلح على تسميته "الإرهاب"، في
إشارة لحركة حماس، كما هاجم وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قرار المحكمة
واتهمها بممارسة "معاداة السامية"، حيث رفضت إسرائيل منذ البداية اختصاص
المحكمة في النظر بهذه القضية، وكل ذلك يشير إلى استمرار الموقف الرافض من جانبها،
وذلك على الرغم من ترحيب المجتمع الدولي بالقرار باعتباره انتصارًا للقانون الدولي
الإنساني، فضلاً عن مهاجمتها للأمين العام للأمم المتحدة،(14) ولكن
موقف إسرائيل لم يكن مفاجئ فهذا ما اعتادت عليه في التعامل مع أي قرارات تتعارض مع
مصالحها الخاصة.
هل ستكرر إسرائيل سيناريو دعوى
إزالة الجدار العازل؟
يمكن
توقع رد الفعل الإسرائيلي قياسًا على حكم محكمة العدل الدولية في قضية إزالة
الجدار العازل، ففي ديسمبر 2003 تقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب إلى
محكمة العدل الدولية، وفقًا لمبادئ القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام
1949؛ للحصول على رأي استشاري حول العواقب القانونية لبناء الجدار العازل الذي
أقامته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي 9 يوليو 2004، أصدرت المحكمة
قرارًا بأن الجدار يتعارض مع القانون الدولي، وفرضت على إسرائيل إزالته من جميع
الأراضي الفلسطينية وتقديم تعويضات للمتضررين، ودعت الجمعية العامة ومجلس الأمن
إلى دراسة إجراءات إضافية لإنهاء الوضع غير القانوني للجدار، مشددة على عدم
الاعتراف بالحالة غير القانونية التي نتجت عن بناء الجدار، ولكن إسرائيل أعلنت
رفضها للقرار واعتبرته غير ملزم وغير قانوني، وأكدت أن بناء الجدار يعد تدبيرًا
ضروريًا لحماية الأمن القومي والحياة الإسرائيلية من هجمات الإرهاب،(15) وقياسًا على هذه القضية، وعلى الرغم من
اختلاف موقف إسرائيل عام 2004 الرافض للدعوى، وبين قبولها المثول أمام المحكمة في
الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا والذي قد يكون بهدف تغيير مسار القضية من التركيز
على الحقائق والأدلة إلى محاولة تحويل مسار القضية، إلا أن إسرائيل قد تتبع نهجًا
مشابهًا في تجاهل حكم محكمة العدل الدولية أو ربما في قلب الحقائق،(16)
والدليل على ذلك أن إسرائيل اتخذت مسارًا تصعيديًا في تعاملها مع الفلسطينيين بعد
صدور حكم محكمة العدل الدولية، مما يؤكد عدم التزامها بقرارات المحكمة ورفضها
الامتثال لأحكام القانون الدولي، منها اتهام إسرائيل لعدد من موظفي الأونروا
بالتعامل مع حماس، وبناءً عليه أصدرت "وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة
الخاصة بتقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية للاجئين الفلسطينيين" بيانًا في
26 يناير 2023 أفادت فيه بإنهاء عقود العمل الخاصة بعدد من موظفيها، تمهيدًا
لاتخاذ إجراءات تأديبية وفتح تحقيق استنادًا إلى الادعاءات الإسرائيلية(17)،
يليه تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 10 فبراير، بإعادة تعبئة
جنود الاحتياط استعدادًا للاجتياح العسكري البري في رفح، بالإضافة إلى تهجير سكان
غزة جنوبًا وتكدسهم جميعًا في شريط حدودي ضيق في حالة لا يرثى لها، بدون توفر طعام
أو ماء أو أدوية أو مأوى، مما أسفر عن وفاة أعداد كبيرة منهم.
تل أبيب تلوح بعصا التمرد:
خلال
مهلة محكمة العدل الدولية الممنوحة لإسرائيل ومدتها 30 يومًا؛ لتقديم تقارير دورية
إلى محكمة العدل الدولية حول الخطوات المتخذة لتنفيذ أمر التدابير المؤقتة، اتخذت
إسرائيل نهجًا متصاعدًا كرد على محكمة العدل الدولية، ويتجلى ذلك من خلال اتخاذها
مسارًا تصعيديًا في قطاع غزة والضفة الغربية عبر تزايد حدة عملياتها العسكرية،
فضلاً عن تصاعد حدة خطابها الإعلامي والسياسي، وإعلانها عن خطتها للاجتياح البري
لرفح.
وفي هذا
السياق، من المتوقع عدم تجاوب إسرائيل مع حكم المحكمة، وقد تبادر إلى شن حملة ضد
الأمين العام للأمم المتحدة بسبب موقفه الرافض لما يجري في غزة، وبالاستناد إلى
سجل إسرائيل التاريخي مع قرارات محكمة العدل الدولية، واستحضارًا لتنصلها من تنفيذ
حكم المحكمة في قضية الجدار العازل، فمن المرجح أن تستمر إسرائيل في خطتها تحت
شعار "حسم الصراع وليس إدارته" بدلاً من تنفيذ حكم المحكمة، ما لم يتم
التنسيق والتضافر بين الدول العربية، وتحريك دعاوى أخرى ضد إسرائيل.
الخاتمة:
يمثل
قرار محكمة العدل الدولية بشأن الحرب على غزة نقطة تحول في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني،
فبعد عقود من الاحتلال والعنف المستمر، أصبح العالم شاهدًا على تبدل الأدوار بشكل
مثير للدهشة، فالدولة التي تأسست على رماد محرقة الهولوكوست، ها هي الآن، تُتهم
الآن بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، هذا التناقض الصارخ هو ما
يجعل قرار المحكمة يتخطى كونه مجرد حكم قضائي، ليصبح رمزًا للتحول الجذري في
الخطاب الأخلاقي والقانوني حول هذا الصراع العنيد، فبينما كانت إسرائيل تُصوَّر
لعقود كضحية للظلم التاريخي، ليلقي الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني تحت نير
الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، ولعل ما يزيد من أهمية هذا القرار هو حقيقة أنه جاء
من دولة مثل جنوب إفريقيا، التي عانت هي نفسها من ويلات نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"
في الماضي، وبرغم من أن قرار دولة جنوب إفريقيا برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام
محكمة العدل الدولية قد يؤثر سلبًا على شعبية الحكومة لدى الناخبين، وذلك في ظل
التأثير القوي للجالية اليهودية في جنوب أفريقيا وذات الصلات القوية بإسرائيل، وقد
تنظم حملات انتخابية ضد سياسات رامافوسا، رئيس جنوب إفريقيا، المؤيدة للقضية
الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى خسارة أصوات ناخبين مؤثرين، إلا أنه بدافع الشعور بمعاناة
الفلسطينيين وتذكر مرارة تجربتها الخاصة، أرادت جنوب إفريقيا أن تكون صوتًا
للعدالة والحرية في وجه الظلم والاضطهاد، وفي حين قد يبدو هذا القرار كخطوة رمزية
في الوقت الراهن، إلا أنه يمثل بداية لتحول جذري في الخطاب الدولي حول هذا الصراع
المعقد، وقد يكون هذا القرار هو البداية لتشكيل رأي عام عالمي جديد يدين بشكل لا
لبس فيه الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
ومن ثم،
فإن التأثير الفعلي لهذا الحكم القضائي سيعتمد إلى حد كبير على مدى استعداد
الإدارة الأمريكية لممارسة ضغوط دبلوماسية وعسكرية حقيقية على حليفتها
الإستراتيجية لدفعها نحو الامتثال للقانون الدولي، وفي حالة استمرار غياب هذه
الضغوط الأمريكية القوية، فمن المرجح أن يظل تأثير الحكم محدودًا، ولكن حتى ذلك
الحين، يظل هذا القرار شعلة أمل للعدالة، ورمزًا لصوت الضمير الإنساني الذي لا
يزال يصرخ في وجه الظلم والاضطهاد.
الهوامش
1) جنوب إفريقيا تتحرك ضد إسرائيل .. هذا هو
الموقف القانوني، 2 يناير 2024، الرابط:
2) ما أبرز الأحكام والقرارات التي اتخذتها محكمة
العدل الدولية على مدار تاريخها؟، 26 يناير 2024، الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/articles/c51vw31k4wdo
3)
محكمة العدل الدولية، الرابط:
https://www.icj-cij.org/sites/default/files/the-court-at-a-glance/the-court-at-a-glance-ar.pdf
4) يتعين على إسرائيل الامتثال لقرار محكمة العدل
الدولية الهام الذي يأمرها ببذل كل ما في وسعها لمنع الإبادة الجماعية ضد
الفلسطينيين في غزة، 26 يناير 2024، الرابط:
5) محكمة العدل الدولية تطالب إسرائيل بمنع ارتكاب
أعمال تتضمنها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، 26 يناير 2024، الرابط:
https://news.un.org/ar/story/2024/01/1128017
6) دكتور أماني الطويل، المسار الانتخابي الإفريقي بين ملامح التعثر وأفق
الاستقرار، 8 فبراير 2024، الرابط:
7)
ملاك عبد الله، إسرائيل الصهيونية ليست
الأبارتهايد الإفريقي!، 29 يناير 2024ـ الرابط:
8)
"المدعي
العام للجنائية الدولية يبدي قلقًا بالغًا إزاء الصور الآتية من غزة"، 8
فبراير 2024، الرابط:
9) "مندوبة جنوب إفريقيا الأممية: قرار العدل
الدولية انتصار حاسم لسيادة القانون الدولي"، 31 يناير، 2024، الرابط:
10) "السعودية ومصر والأردن وقطر والإمارات ترحب
بقرار محكمة العدل الدولية بشأن إسرائيل وغزة"، 26 يناير 2024، الرابط:
11) "قرارات العدل الدولية ملزمة .. الاتحاد
الأوروبي يتوقع تنفيذًا "فوريًا" لقرار محكمة العدل الدولية"، 26
يناير 2024، الرابط:
12) "مواقف الدول من
قرار محكمة العدل الدولية يشأن إسرائيل، 26 يناير 2023"، الرابط:
13) Jon Schwarz, Will the
U.S. Block te ICJ on Gaza? It’s Thwarted the Court Before. 30 January 2024, at:
Will the U.S. Block the ICJ on Gaza?
It’s Thwarted the Court Before. (theintercept.com)
14) كارترين فرج الله، "إفريقيا تنتصر .. قرارات
العدل الدولية بين إرهاصات التغيير والصلف الإسرائيلي"، 28 يناير 2024،
الرابط:
15) موجز الأحكام والفتاوى
الصادرة عن محكمة العدل الدولية (2003 – 2007)، الرابط:
https://www.icj-cij.org/sites/default/files/summaries/summaries-2003-2007-ar.pdf
16) "لأول مرة
تقبل المثول .. ما الطرق التي قد تحتال بها إسرائيل على محكمة العدل
الدولية؟" 10 يناير 2024، الرابط:
17)
[1] “As donors suspend
critical funding to UNRWA, allegations against staff remain murky”, 5 February
2024, at: