شهدت تركيا في 31 مارس 2024 إجراء
الانتخابات المحلية والتي تنافس فيها الكثير من الأحزاب والتحالفات السياسية؛ حيث
شارك 34 حزبًا سياسيًا والتي أظهرت نتائجها خسارة كبيرة لحزب "العدالة
والتنمية" الحاكم مقابل صعود حزب "الشعب الجمهوري" واحتفاظ حزب
"المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد للأكراد بأغلب البلديات الكردية في
البلاد.
وقد أظهرت النتائج النهائية الرسمية
بعد فرز جميع الأصوات تصدر حزب الشعب الجمهوري المعارض، بحصوله على 37.76% من
الأصوات في عموم البلاد البالغ عدد سكانها 85 مليون نسمة، وحل بعده حزب العدالة
والتنمية بنسبة 35.48% من الأصوات. وجاء حزب الرفاه من جديد في المركز الثالث بنسبة
6.19%، وهو تقدم مفاجئ لحزب كان يوصف بأنه "ثانوي غير مؤثر". وبعد ذلك، حزب الديمقراطية والمساواة 5.70%، ثم حزب الحركة القومية
(المتحالف مع العدالة والتنمية) 4.99%، وحزب الجيد 3.77%، ثم حزب النصر اليميني
المتطرف 1.74%. وجاء في النهاية كل من حزب السعادة (الإسلامي)
بنسبة 1.09%، وحزب هدى بار (يُسمى حزب الله التركي، كونه قريب من محور إيران)
بنسبة 0.55%.
ووفق هذه النتائج، فاز حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة منها 15 مدينة كبرى و21 محافظة، مقابل فوز العدالة والتنمية بـ 23 منها 11 مدينة كبرى، و12 محافظة، وحزب مساواة وديمقراطية الشعوب (خليفة حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي") بـ 10 بلديات منها ثلاث مدن كبرى وسبع محافظات، وحزب الحركة القومية برئاسة بلدية ثماني محافظات، وحزب الرفاه مجددًا ببلديتَين إحداهما مدينة كبرى، والأخرى محافظة، وحزب الجيد ببلدية محافظة واحدة. ويمكن إرجاع أسباب عزوف الناخبين عن تأييد حزب العدالة والتنمية هذه المرة إلى الضغوط الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى ما يقرب من 70% وتباطؤ النمو بسبب سياسة التشديد النقدي.
اتجاهات التصويت
من الواضح أن الناخبين الأتراك عاقبوا
الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات المحلية على
مستوى البلاد؛ حيث أكدت هذه النتائج على أن المعارضة لا تزال تمثل قوة سياسية
وعززت مكانة رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو باعتباره أهم منافس للرئيس في
المستقبل. وأعيد انتخاب إمام أوغلو على الرغم من انهيار
تحالف المعارضة الذي فشل في الإطاحة بأردوغان العام الماضي(الطاولة السداسية). وكان للناخبين من الحزب الرئيسي المؤيد للأكراد دور حاسم في نجاح إمام
أوغلو في عام 2019. وقدم حزبهم، حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، هذه المرة مرشحه
الخاص في إسطنبول. لكن النتائج أشارت إلى أن العديد من الأكراد وضعوا الولاء للحزب
جانبًا وصوتوا لصالح إمام أوغلو مرة أخرى.
وتمثل هذه النتيجة أسوأ هزيمة لأردوغان
وحزب العدالة والتنمية بعد أكثر من عقدين في السلطة، وقد تكون مؤشرًا على تغير في
المشهد السياسي المنقسم في البلاد. وفي كلمة ألقاها وصف أردوغان نتيجة الانتخابات
بأنها "نقطة تحول". فللمرة الأولى في 22 عامًا جاء العدالة والتنمية» في
المرتبة الثانية في أي انتخابات يخوضها، كما خسر جميع المدن الكبرى تقريبًا وفي
أنحاء البلاد أيضًا،
وهكذا يكون حزب الشعب الجمهوري، أكبر
أحزاب المعارضة، قد رفع رصيده في بلديات المدن والمحافظات من 20 إلى 36، بينما تراجعت
حصة العدالة والتنمية الحاكم من 39 إلى 23، وكذلك حليفه الحركة القومية من 11 إلى
8. وبينما فاز كل من الرفاه مجددًا والجيد برئاسة بلديات لأول مرة، رفع حزب مساواة
وديمقراطية الشعوب رصيده من 8 (كان فاز بها الشعوب الديمقراطي) إلى 10 بلديات. ومن
ثم مُني حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التي جرت بأسوأ هزيمة يتعرض لها في
تاريخ حكمه للبلاد منذ عام 2002، حيث حلّ ثانيًا بعد حزب الشعب الجمهوري المعارض،
بعد فشله في استرداد السيطرة على البلديات الكبرى، بل وخسر بلديات كان يحكمها في
السابق.
كما أن نتائج الانتخابات المحلية التي
أجريت لم تكن متوقعة بالنسبة إلى الرئيس التركي وحزبه الحاكم، فقد كان يظن أنه
يستطيع استعادة كبرى البلديات التي خسرها في انتخابات عام 2019 بعدما وجد أن حزب
المساواة وديمقراطية الشعوب المؤيد للأكراد شارك في الانتخابات المحلية الأخيرة
بمعزلٍ عن حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه إمام أوغلو، إلا أن النتائج رغم ذلك
كانت صادمة له. وعلى النقيض كانت النتيجة بمثابة نجاح كبير لزعيم حزب الشعب
الجمهوري، أوزغور أوزيل، الذي أشاد بالناخبين لاتخاذهم قرار تغيير وجه تركيا في
تصويت تاريخي وقال: "إنهم (الناخبون) يريدون فتح الباب أمام مناخ سياسي جديد
في بلادنا".
تغيرات جديدة
حقّق حزب "الشعب الجمهوري"
الذي كانت هيمنته مقتصرة لفترة طويلة على غرب تركيا، خاصة المناطق المطلة على بحر
إيجه وبحر مرمرة، اختراقًا كبيرًا في الأناضول، حيث انتزع بلدات سيطر عليها لفترة
طويلة حزب "العدالة والتنمية".
كما جاءت انتكاسة حزب العدالة والتنمية
أيضاً نتيجة التقدم الذي حققه حزب ينيدن رفاه (الرفاه الجديد)، وهو تشكيل إسلامي
فرض نفسه كقوة سياسية ثالثة خلال هذه الانتخابات البلدية، مع 6,2% من الأصوات على
المستوى الوطني؛ حيث تم انتخاب مرشحي ينيدن رفاه في سانليورفا (جنوب شرق) ويوزجات
(وسط)، وهما عاصمتان إقليميتان كان يقودهما رئيس بلدية من حزب العدالة والتنمية.
لكن الحزب استحوذ أيضًا على أصوات حزب العدالة والتنمية في عدد من المحافظات. وقال فاتح أربكان، زعيم حزب ينيدن رفاه، والذي ندد طوال حملته
الانتخابية بالحفاظ على العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل رغم الحرب على غزة، وإن
نتيجة هذه الانتخابات تم تحديدها من خلال سلوك أولئك الذين يواصلون التجارة بحرية
مع إسرائيل والقتلة الصهاينة. من ناحية أخرى، فإن الاختراق الانتخابي الذي حققه
ينيدن رفاه، والذي كان أداؤه أفضل من الحليف القومي لأردوغان، حزب الحركة القومية،
يمكن أن يغير حسابات أردوغان، ويضطره إلى تعديل تحالفه الانتخابي.
وفي رأي بعض المراقبين أن الناخبين
أجلوا هذا العقاب في انتخابات مايو 2033 على أمل تحسن الأوضاع، لكن استمرار الأداء
الاقتصادي السيئ، دفعهم إلى إصدار تحذير شديد لأردوغان وحكومته. بالإضافة إلى أن حزب
الشعب الجمهوري لم يتأثر بتفكك تحالف المعارضة، بسبب حالة جديدة جرى فيها التصويت
بعيدًا عن الهوية والانتماء الحزبي واستمرار تصويت أنصار حزبي «المساواة الشعبية
والديمقراطية» و«الجيد» له، فإن حفاظ أردوغان على تحالف الشعب مع الحركة القومية
لم يكن مفيدًا في الانتخابات المحلية. كما أن موقف حزب الرفاه مجددًا الذي رفض
الاستمرار في تحالف الشعب بعد انتخابات مايو كان مؤثرًا بشكل كبير على معدل أصوات
العدالة والتنمية، فقد ارتفعت نسبة أصوات الحزب من 2.8 في المائة في انتخابات مايو
2023 إلى 6.2 في الانتخابات المحلية.
في الختام: تعتبر نتائج هذه الانتخابات
أول انتكاسة انتخابية للعدالة والتنمية منذ تأسيسه؛ حيث أظهرت تحولًا كبيرًا
للكتلة التصويتية الخاصة بالعدالة والتنمية لصالح حزب الشعب الجمهوري، وخلال كلمة
أمام أنصاره وبعد اتضاح حجم الخسارة قال أردوغان من مقر حزبه بأنقرة إن ائتلافه
الحاكم لم يحقق النتائج المرجوة، لكنه أضاف مستدركًا أنهم سيحاسبون أنفسهم
وسيعالجون أوجه القصور. إلا أن نتائج هذه الانتخابات سيكون لها تداعيات على المشهد
والتحالف والحزب الحاكم وقد نرى تغيرات في مجريات السياسة الداخلية مستقبلًا. وهو
ما يشير إلى تغييرات داخل كوادر حزب العدالة والتنمية نفسه؛ حيث تصاعدت في الفترة
الأخيرة الانسحابات والانشقاقات الداخلية من كوادر الحزب ومن ثم من سيحدد مصير حزب
العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة ومن سيديره بعد أردوغان. ولا شك في أن نتائج
الانتخابات المحلية ستعطى دفعة معنوية قوية للمعارضة، التي يعتقد مراقبون أنها قد
تطالب بالتوجه إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة، التي كان يفكر فيها أردوغان
حال فوز حزبه بالانتخابات المحلية.